سيّدةٌ من لاباس – السفير منجد صالح

كونسويلو مارتينيز طويلة القدّ، بعيدة مهوى القرط، مبرومة السيقان، مديدة البنان، شديدة نصاعة ولمعان بياض الأسنان، ملامح وجهها المليح تعكس اشارات وملامح وتحوّرات من أصول صينيّة بعيدة. ليس لها علاقة بالصين، وليس لديها جذور صينيّة، لكن يا سبحان الله، عيونها صغيرة مشقوقة كعيون الصينيّات.

هي تقول تعليقا على ذلك:

  • أؤكد أن لا جدّ لي ولا جدّة من أصول صينيّة، فأنا مكسيكيّة أصيلة وأصليّة، ابنة مكسيكيّين، لكنّها عيناي المشقوقتين كعيون الصينيّات، وليس لي في هذا يدّ ولا ذنب ولا تدبير.

التقته على شاطئ البحر قبل ثمان سنوات، هو الرجل الأسمر الطويل، القادم من بُعدِ آلاف الكيلومترات، من على بعد دولٍ وقارّات. كان لقاء رسميّا تزيّن وتكلّل بصداقة، بالصداقة البريئة الجميلة. هناك من يقول: “لا صداقة بريئة بين رجل وامرأة”، لكن هذا الكلام غير دقيق وغير صحيح، بل توجد صداقة بريئة بين رجلٍ وامرأة، وهذا حصل على مرّ العصور والدهور، وفي كل الأصقاع والأمصار، وبين كل الشعوب والقوّميات والإثنيّات والطوائف.

تعايشا معا ومع آخرين عدة أيام في ربوع مدينة لاباس وحوارييها وجوارها البحرية، موطن حيوان الفقمة. كان الطقس صيفيّا والجوّ حار تناهز درجة الحرارة في أيّامه الخمس وثلاثين درجة مئوية، تماما كطقس نهار بلاد منطقة الشرق الأوسط صيفا، فالشرق الأوسط على ضفاف البحر الأبيض المتوسط يسوده طقس حار جاف صيفا ماطر معتدل شتاء، طقس حوض البحر المتوسّط، تماما كما طقس كاليفورنيا في غرب أمريكا وغرب شمال المكسيك.

صداقة بريئة جميلة وطيدة، ستدوم سنوات وسنوات رغم البعاد والمسافات. لكنها صداقة “انحفرت” في كيانها رغم “قصر مدّة المعرفة وجها لوجه”، صداقة ستزوّدها “بزوّادة روحيّة عاطفية” لأعوام طوال في حياتها وفي مستقبلها.

كانت قد وُلدت قبل خمسين عاما في مدينة فيكتوريا، من ولاية “تاماوليباس”، احدى ولايات المكسيك الثلاثين، إلى جانب العاصمة، مكسيكو سيتي، ولاية قائمة بذاتها. وانتقلت عائلتها وهي “لحمة حمراء باللفة”، عمرها سبعة أشهر، إلى ولاية “كاليفورنيا التحتا الجنوبيّة”، بحكم أن والدها كان ضابطا في الجيش الوطني، وهو دائما رهن اشارة أوامر القيادة العُليا للانتقال من ولاية إلى أخرى.

عاشت وترعرعت في كنف عائلتها في المقام الجديد، مدينة لاباس، عاصمة ولاية كاليفورنيا التحتا الجنوبيّة.

ما تبقّى من كالفورنيا بعد اقتطاع “اليانكيز”، الأمريكان الشماليين، لها قسّمتها الحكومة المكسيكسة اداريّا إلى ولايتين: ولاية كاليفورنيا التحتا الجنوبية وعاصمتها لاباس وولاية كاليفورنيا التحتا الشماليّة وعاصمتها مكسيكالي.

تزوّجت كونسويلو زواجا رسميّا لأوّل مرّة عندما كان عمرها تسعة وعشرين عاما، لكنها حينذاك كانت تحتضن بين ذراعيها ابنها ماركوس البالغ من العمر ستة أعوام. يا إلهي كيف يمكن أن يحصل هذا؟؟!! هل هو ضرب من ضروب الضرب بالنرد أو بالودع، أم هي فزّورة تحتاج إلى تفسيرٍ وتحليلٍ وتمحيصٍ وتحميصٍ على نارٍ هادئةٍ حتى يتم حل شيفرتها وربما طلاسمها وأحجياتها.

عندما تزوّجت كان يُطلق عليها لقب “الأم العزباء”، أي المرأة التي تُنجب طفلا خارج اطار الزواج، أي ابنا غير شرعي، “أبن حرام” كما نعتبر في شرعنا وعاداتنا وتقاليدنا المتوارثة.

وهذه ظاهرة كثيرة وشديدة الحدوث في دول أمريكا اللاتينية، والتعبير “الأم العزباء” متداول وشائع ولا يُثير غبارا ولا نقعا، ولا تُستلّ الخناجر والسكاكين تحفّزا وانتقاما “للشرف المهدور”، ولا يُسال على جوانبه الدم!!!

عندما كانت كونسويلو بصدد الزواج من زوجها، جاءها فجأة ودون سابق انذار “حبيبها عشيقها صاحبها”، “والد ماركوس البيولوجي”، ظهر بعد غياب واختفاء لمدة ست سنوات، هي عمر ابنها ماركوس المديد، وطالبها “بحقه” في تسجيل الطفل بإسمه، لكنها رفضت ورفضته ولفظته بقوّة:

  • لن أسجّل ماركوس بإسمك ولا حتى “لو تشوف حلمة ودانك”، أنت كنت غائبا ومُختفيا كل هذه السنوات. سأسجل ماركوس باسم الرجل الذي سيرعاه وسيُربّيه، سأسجّله بأسم زوجي، ردت كونسويلو بحدّة على عشيقها السابق.

وهكذا كان، فقد تزوّجت كونسويلو من زوجها “غيّيرمو” وسجّلت ابنها ماركوس باسمه، “ويا دار ما دخلك شرّ!!!”.

ومع أن كونسويلو قد أجبّت زوجها كثيرا لكنها لم تكن تشعر بسعادة غامرة معه، بالرغم من استمرار زواجهما خمسة عشر عاما وانجابها صبيّتين: إينّا وميليسا.

في فترة الست سنوات الممتدة بين حُبها ومساكنتها وانجابها من “عشيقها” وبين زواجها من زوجها “غيّيرمو”، أحبّت كونسويلو بشغف وعمق رجل أعمال معروف في “الديرة”، ففي هذه البلاد “الحُب ليس عليه جُمرُك”، لكنه لم يكن راغبا ولا راضيا أن “يُكمل نصف دينه” معها بسبب كونها “أمٌ عزياء”، فأنهى علاقته الغراميّة معها، مما سبب لها جُرحا عميقا وألما كبيرا في روحها وكيانها، عانت منه كثيرا حتى ظهور “ربّان السفينة” الماهر السيّد “غيّيرمو”، أخذ بيدها وانتشلها من “تيهها” ومن بحرها المُتلاطم عالي الأمواج .. وتزوّجها.

منذ أوّل يومٍ زواج، كانت فراشات شكوكها تحوم حوله، فراشات الشك وعدم الإطمئنان. وقد إستمرّ هذا الشعور “الحقيقة” “يلفّ ويدور في مخيّلتها، يهزّ كيانها على مدى سنوات، حتى في أبهى وأعمق لحظات السعادة معه كان يشوبها هذا الخيط الرفيع الأسود “يُنغّص” عليها حياتها و”يكتم” بعضا من ابتساماتها وضحكاتها.

“غيّيرمو” كان يحب النساء، كان “زير نساء”، لكنها برغم شكوكها المضطردة والمتورّدة، لم “تمسكه بالجرم المشهود”. كان حريصا حصيفا “عفريتا” في تمويه علاقاته المُتعدّدة، واخفاء “أية دلائل” يمكن أن تكشفه ومن ثمّ تُدينه.

كان “يُقاوح” بشدّة منكرا ورافضا الإعتراف بأي شيء عندما كانت تشمّ على جلده وعلى ملابسه عطر امرأة أخرى، أو “تكتشف” شعرات شقراء أو حمراء تلتصق بجاكيته بعد عودته مُتأخّرا ليلا إلى البيت. كان يسوق التبريرات المُنمّقة المُتقنة “الحاسمة” بأنه بريء وحتى مظلوم أمام اتهاماتها المُتسرّعة، فقد أنهكه العمل حتى ساعات مُتأخرّة كي يوفّر لها وللأولاد أفضل حياة راقية مُترفه، في الوقت الذي تلومه هي و”تخترع” سيولا ومنابع من النكد والريبة، لا لزوم لها ويتوجب عليها أن “تُجففها” تماما وتطردها من رأسها الحامي القاسي كالصخر.

في لحظات وبإقتدار عجيب كان “يقلب ظهر المجنّ”، ويُحوّل هجومها عليه إلى دفاع منها خجول فاتر وحتى إلى نوع من استدرار العطف ومن الإعتذار، وهو يفرد و”يُفرّش” ريشه “المُزركش” كطاووس انتصر في “المعركة” أمام أنثاه.

واستمر هذا الحال على هذا المنوال في تأويلٍ وجدالٍ وسجال، أياما وشهورا من “الحزّة واللزّة” وأياما وشهورا غيرها “عال العال”، إلى أن جاء يوم، بعد خمسة عشر عاما، تحوّلت فيه إلى لبؤة و”شربت من حليب السباع”، حيث قرّرت فيه أن تضع حدّا لهذا “الموّال”:

لبست أبهى ثيابها وتمنطقت بحليّها وبالغت في رشّ عطرها على أماكن معهودة وعلى أماكن غير معهودة من جسمها، وانطلقت بسيّارتها للبحث عن “طريدتها”!!! فقد كانت تعرف الأماكن التي يرتادها وخاصة المطاعم والبارات والحانات والخمّارات.

في المُحاولة الثالثة، و”دائما الثالثة ثابتة”، وفي “قرنة” شبه معتمة من احدى الحانات “قفشته” مُتلبّسا جالسا إلى طاولة صغيرة دائرية وفتاة مكتنزة بشعرها الأحمر اللامع تطوّقه بذراعيها و”تغزو” شفتاها شفتيه، تسيل منهما عصارة الفراولة.

وقفت مذهولة أمام هذا المنظر الذي انتظرته وتوقّعته خمسة عشر عاما، لكن بصلابة ورباطة جأش منقطعة النظير. ما كان ينقصها إلا آلة كاميرا تصوير فيديو حتى تسجّل وقائع الموقف- “الفضيحة” بالصوت والصورة.

هتفت بصوت عالٍ:

  • هذا هو عملك “الأوفرتايم” إذا الذي تدّعي أنّك أنهكت في القيام به، .. أنت خائن وغشّاش!!!

التفت اليها والمفاجأة تعصف به، فهو يحتاج إلى جميع عفاريت الأرض كي تقف إلى جانبه وتوحي له بمخرج:

  • انها زبونة جديدة للشركة وقد كنت أحاول اقناعها بصفقة مربحة لنا، أردف ببعض “التلبّك” ولكن في محاولة للسيطرة على الموقف.
  • وهل تقنعها بالشفاه المُلتحمة مع الشفاه، كان الأولى والأدهى أن تُقنعها بالصفقة على السرير مباشرة ودون مقدّمات، أردفت بسخريّة والشرر يتطاير من عينيها الصينيّتين المشقوقتين.

لقد بدأت “الحرب” الضروس بين كونسويلو وغيّيرمو، لكن العلاقة وضعت أوزارها من طرف واحد، من طرف الزوجة المخدوعة الملسوعة المطعونة في كيانها وفي وفائها له على مدى خمسة عشر عاما:

  • لا ترجع إلى البيت، لن أقبلك في فراشي مرّة أخرى، اطلقت كونسويلو صرختها الأخيرة، وغادرت المكان.

بعد خمسة عشر عاما من الزواج العاصف تحوّلت كونسويلو من “أمّ عزباء” تحتضن طفلا واحدا “ماركوس”، إلى إمرأة مُطلّقة تحتضن شاب وفتاتين، وتدور مرّة أخرى في فلك ودوّامة وحدتها وشقائها ونضالها كي تُكمل مسيرتها وتوصل إلى برّ الأمان أولادها الثلاث، الذين هم بالنسبة لها أغلى من كنوز الدنيا وما فيها وما عليها.

كونسويلو لم تكن يوما إمرأة ضعيفة بل قويّة وقويّة جدا، وحتى في أسعد أحوالها وأيّامها عندما كانت تجد إلى جانبها رجلا يسندها ويُغطّي طلباتها ومُتطلّباتها، إلا أنها كانت إمرأة عاملة طوال سنين حياتها، لم “تضع بيضاتها في سلّة واحدة”، وإنما كانت شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة لاباس معولها وسيفها تخوض به غمار حياتها العملية والمهنيّة.

كونسويلو دخلت في عقدها الخامس مكللة بتخرّج ابنها وبنتاها من الجامعات والتحاقهم بسوق العمل، وهي بذاتها ما زالت تُجدّف في قاربها بمجدافين قويين متجدّدين، تعمل في أكثر من مكان، في المطار وتُعطي دروسا لطلاب المدرسة البحريّة، وتذهب ثلاث مرّات  في الأسبوع إلى “الجيم” كي تُحافظ على لياقتها ورشاقتها، وتقوم بدور عارضة أزياء تعرض الفساتين الجديدة لصالح دار عرض تملكه احدى صديقاتها.

تقول كونسويلو:

  • أنا سعيدة جدّا أنني أديت رسالتي بكل أمانة والتزام وربّيت أولادي الثلاثة حتى أصبحوا بالغين يحملون شهادات علمية ويعملون وناجحين في حياتهم. ماركوس لديه خطيبتة (صديقتة) يسكنان معا في شقة، وسيتزوجان قريبا، و”إينّا” لديها خطيبها وتسكن معه في شقة، أما “آخر العنقود”، حبيبة أمّها، ميليسا، فتسكن معي في بيتي.

لست بحاجة إلى الرجال، فهم كُثر وهم يحومون حولي كما تحوم الفراشات حول المصباح، لكنني “أزحلقهم” واحدا تلو الآخر.

كونسويلو مع ذلك تعترف بأنها تشعر بالوحدة، بل إنها تقول وتزيد وتعيد كلاما قديما جديدا بأنها كانت دائما تشعر بالوحدة على مدى سنوات حياتها، متزوّجة كانت أم مطلّقة أم أمّا عزباء!!!

لكن، ودائما هناك ولكن في الثقافة الإسبانية، فإن ذكرى وطيف صديقها الرجل الأسمر الطويل القادم من حوض البحر الأبيض المتوسّط، الذي التقته عدّة أيّامٍ على شاطئ بحر لاباس منذ ثمان سنوات، ما زال “يضخّ” في كيانها سعادة وهناء.

كاتب ودبلوماسي فلسطيني

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*