الوجع الدَّفين، حكايات طبيب من الجليل، دار نشر سند، للدكتور حاتم كناعنة ابن قرية عرابة الجليليَّة، كتبه باللغة الإنجليزية، وقامت بترجمته الزَّميلة المُترجمة سوسن كردوش، عضوة الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين الكرمل 48 ، بأسلوب جميل راقٍ وواضح ، ولغة جميلة سلِسة، مفهومة للقارئ العاديّ، أُحييها على هذا المجهود الكبير الجبّار في ترجمة نصوص من اللّغات الأجنبية إلى العربية، وكان لي شرف تقديم مُداخلة عن كتاب رائع وذات قيمة أدبية عالية “مجرد انثى”، للكاتبة الدنماركية “ليزا نورغورد”، ترجمته سوسن إلى العربية، تحدَّثْتُ فيه عَن جمال النصوص المُترجمة إلى العربية ووضوحها، وتحدَّثت فيه عن نضال المرأة الدانماركية من اجل تحررها، وعن المَكانة الَّتي تحظى بها عندهم، ويحظى به الادب بشكل عام ، فأقيم للكاتبة تمثال وسط بلدها، يُخلِّد اسمها، وهي ما تزال على قيد الحياة.
في هذا الكتاب “الوجع الدَّفين” للدكتور حاتم كناعنة، تُبدع المترجمة مرَّة أخرى، كما أبدع الدكتور حاتم الكاتب بحكاياته الواقعيَّة الهادفة، حتى أنَّني لم أشعر للحظة أنَّه كتاب مُترجم، بأسلوبها الشيق وبوضوح اللغة والفكرة، فلها مني ألف تحية، ونحن بحاجة ماسَّة لأمثالها لترجمة نصوص أدبية مختارة لشعوب مختلفة بهدف الاطلالة على ثقافات وآداب الشّعوب المُختلِفة.
منذ حوالي الشّهر أو أكثر أهداني الدكتور حاتم كناعنة كتابه الجميل” الوجع الدفين” حكايات طبيب من الجليل، حكايات حقيقيّة، واقعية من صُلب الحياة الاجتماعية في القرية الفلسطينية التي عانت وتُعاني الإهمال السلطوي المُمَنهج، وتعاني الفقر والعوز ، وهي قصص قد كتبها الدكتور أثناء ممارسة عمله كطبيب في منطقة تكاد أن تكون خالية مِن الأطباء غيره، وقصص حيكَت من معاناة الاهل فتناقلتها الالسن بأشكال مختلفة، حتى جاء الدكتور حاتم ليضعها في قالبها الاجتماعي الصحي الصحيح، وليُكَوِّن من خلالها صورةً حقيقية واقعية عن مجتمع، خرج للتَّو من نكبته، ليداوي جروحه وينهض كالعنقاء من تحت الرَّماد. كتاب يريد أن يطلع القارئ الأجنبي بلغته، بصورة واقعية واضحة راقية جميلة ومفهومة على معاناة الفلسطيني في وطنه، وكيف يعيش حياةً مليئةً بالتحديات والصعوبات، يعجز عنها الانسان العادي، ولكن الفلسطيني بطبعه مقاوم ويتحدى.
يفتتح الكتاب بطُرفة صغيرة مُعبّرة عن واقع الشّعب الفلسطيني ومعاناته ” ثلاثة اشخاص من جنسيات مُختلفة طُلب منهم الكتابة عن “الفيل” كل على حدة، ” فكتب الألماني موضوعًا بعنوان “أصل الثدييات ذات الجلد السَّميك” واختار الفرنسي لنصّه عُنوان” الحياة الجنسية للفيل” بينما حمل النَّص الذي كتبه الفلسطيني عنوانًا واقعيا هو ” الفيل والقضيّة الفلسطينية” ص 5. وأنهى الدكتور حاتم كناعنة كتابه بجملة غاية في الأهميّة تقول: “كي تعطي للأجيال العربية القادمة صورة مسلية بعض الشيء عن المراحل الانتقالية السحرية التي عاصرناها انا وأبناء جيلي، الفلسطينيون الذين لفحت جلودهم سياط اسيادهم الجدد فلم يكتفوا بعدّ الجلدات وانما كتموا الألم وكظموا الغيظ صامدين مقاومين” ص 361. وبين الصفحتين قصص وحكايات حزينة ولكنَّها جميلة واقعيّة سلسة تجذب القارئ وتشدّه نحو الأعماق، مما يدل على عقل وفكر ووعي الكاتب ورسالته العظيمة الاجتماعية والصحية والإنسانية والوطنيّة الَّتي يريد ايصالها لنا.
لا أخفى على القارئ، أنَّني قرأت الكتاب البالغ عدد صفحاته 361، في جلسة واحدة فقط، فلم يكن الكتاب بالنسبة لي مجرَّد حكايات جميلة، ولغة سهلة، وأسلوب سلس في الكتابة وسرد الاحداث، ولكنها كتابة أعادتني إلى طفولتي المُبكرة، وحكايات أيقظت ذاكرتي مِن سُبات الأيام، وأعادتني إلى حضن أُمّي، وبين صفحات الكتاب رأيتُ وجهها المُشرق يحتضنني بمحبة وشوق، ورأيت تعابير وجهها المُفعمة بالشّوق والحنين إلى أهلها ومسقط رأسها، تُرافقها قطراتُ ندى تدور في مُقلتيها فتمسحهما بظاهر يدها لتُخفي عنّي ألمَها الدَّفين، تعرَّفت على الكثير من القصص والأسماء التي أوردّها الكاتب، رغم أني لم ألْتقيها ولم اعرفها، ولكنَّها رسخت في ذهني من قصص وأحاديث أمّي الّتي لم تتوقف يوما عن تكرارها، وكأنّها تتحدث عن وجعها الدفين وحنينها الى الاهل، فالتقت مع د. حاتم الَّذي لم تلتقيه في الواقع لتوضيح الصّورة.
غريب عمق انتماء الفلسطيني إلى مسقط رأسه، وكأنَّ الصورة الأولى التي يلتقطُها الفلسطيني عندما يفتح عينيه على الدنيا ثابتة لا تتحرك، حتى لو تحركت الكرة الأرضية كلها، ويبقى حنينه مدى الدّهر لأول منزل، كم من مرة ذكرت لي أمي اسم الدكتور حاتم واخيه شريف، يتعلمون الطب في أمريكا، والدكتور حاتم يفتح عيادته في القرية كأول طبيب، وأخيه توفي في حادث طرق، وقصص وأسماء ذكرها الكتاب وبعضها لم يذكر، وحكايات سمعتُها وبعضها لم أسمع، جميعُها كانت تعشش في ذاكرة أمّي رغم أنَّها تعيش بعيدًا عن الدّيار، فأيَّ حب وأيّ انتماء تحمل هذه المرأة في صدرها، لأهلها لبلدها، لمسقط رأسها، لدرجة أنَّها لم تحتمل موت أخيها احمد عبد اللطيف كناعنة المُفاجئ، فلحقته الى جوار ربها، بعد شهرين من موته، إثر جلطة دماغيّة لم تُمهلها طويلًا، قبل خمسة عشر عامًا مضت، هكذا فتح د. حاتم لي دفاتر الأيام بكتابه الجميل فأيقظ في روحي ذكريات عايشتُها بخيال أمّي فاطمة عبد اللطيف كناعنة بكلماتها وروحها، التي رحلت باكرًا في مثل هذا اليوم 13.ايلول من عام 2006، فتركت لي كومة من الذّكريات، وقلبًا لا يعرف الكره.
عاشت أمّي يتيمة الأم، وهي بالكاد تذكر ملامِح وجه أمها، رغم محاولاتها اليائسة لإعادة رسم صورتها في مخيّلتها، ووصفها لنا، الا أنَّها كانت دائمًا تُغيّر الوصف، فتخرج الصّورة، فيها الكثير من الغموض، وعدم الوضوح، فتتركها للحديث عن ماضيها هي وعذاباتها، وحنينها إلى حضن أم، فتقول في حسرة، “لا أحد يعرف قيمة الام الا مَن فقدها” وفقط بعد وفاتها رحمها الله، عرفت معنى كلماتها.
تركها جدي في البيت مع اخوتها وزوجة أبيها وهي طفلة، لعمله خارج القرية والمبيت هناك فلم تَحظ أيضًا برعاية الاب، وحمايته وحنانه، وفي سِنّ الرّابعة عشرة فقط قام جدّي بتزويجها من أبي، بسبب معرفة شخصية بين جدي من أبي وجدّي من أمّي، وتقول أمّي ساخرًة مِن مصيرها، أنَّها كانت تلعب تحت شجرة التّوت بالمراجيح، عندما قَدِمت عمّتي لتتعرف إليها وتنقُدها، فلم تُعرها اهتمامًا، ولم تعرف عمّا تتحدّث عمّتي، ولا مَن هي. وبعد أيام قيل لها أنَّها ستصبح عروسًا، وستنتقل من قرية عرّابة إلى قرية كوكب حيث عريسها يعيش هُناك، وكنت أعقب ساخرًا كلَّما قصَّت عليَّ قِصّتها: هذا يعني أنَّك تكبرينني بأربعة عشر عامًا فقط، فتضحك.
وتُحدثني أمّي عن يوم الزَّفاف حيث ألبسوها فستان العروس، وهي تظن أنَّها تلعب مع الكبار، ّوامتطت صَهوة حصان جدّي، المشهور الّذي كادت أن تقوم مِن أجله حرب داحس والغبراء مرَّة اخرى، عندَما أراد أحد المُقاومين ضد الانجليز قبل سنوات أن يستولي على الحصان، بحجَّة مُقاومة العدو، وكان جدي منهم، فما كان منه الا أن امتشق سلاحه بغية منعه حتى لو أدّى الأمر لحرب أهلية، فالحصان تعبير عن العزّة والكرامة والقوَّة، ولولا تدخُّل بعض الاعيان في فك الاشتباك بينهُما وحلّ الخلاف لحدث ما لا تُحمد عُقباه، وقد أُحضِر الحصان خصيصًا وزُيّن أجمل زينة من أجل أن تمتطيه العروس، في رحلتها إلى بيت الزَّوجية.
إلتقى أهل العروس مع أهل العريس واهل البلد المشاركين في الفرح “الفاردة ” الَّتي خرجت من كوكب نحو عرّابة على الخيل وسيرًا على الاقدام لاستقبال العروس، فيلتقي الطّرفان وسط الطّريق بين القريتين يتبادلون التحيّة والتّهاني، يرقصون ويفرحون ويباركون ثم يعودون مع العروس إلى القرية وهكذا تتم مراسم الزواج الأساسية.
من أجمل الطّرائف التي كانت لا تنفك ترويها لي والدتي كلّما سنحت لها الفُرصة أو فُتح باب الحديث عن الماضي، فتقول، كانت العائلة تذهب الى الحصيد في الصّباح الباكر، وتبقى هي لتوضيب البيت الكبير وتُعد الطّعام، تحمله على رأسها وتلحق بهم حيث يحصدون القمح بالمناجل طبعًا أيام الصيف القائظ، فتُطعمهم وتستريح وتعود إلى البيت قبلهم لتحضير العشاء، عندما يعودون مِن يوم عمل شاق، في احد الأيام ذهبوا إلى الحصاد ولم يُخبروها بأيّ قطعة أرض يعملون، شرقًا ام غربًا، فحملت الطّعام على رأسها وكنت أنا ابن اربع سنوات وأخواي يصغرانني كل واحد بسنة، وبما انَّهم لا يستطيعون السّير ، قررت أمّي ان تضعهم في اللجن “الطبق” مع الطعام وتحمل الجميع على راسها وانا تمسكني بيدها، وبدل أن تلحق بهم شرقًا ظنَّت أَّنَّهم في الجهة الغربيّة مِن القرية فذهبت غربًا، وعلى مسافة ثلاثة كيلو مترات، فلم تجد أحدًا، فعرفت أنَّها أخطأت فكان لزامًا عليها العودة من حيث أتت والذهاب إلى الأرض الشّرقية.
عنما وصلت مدخل القرية شاهدت أبو احمد، ينظر إليها وهو يضحك ملء فمه وبصورة لم تعتد عليها، وهو يشير بيده إليها، ارتبكت لأنَّها ظنَّت الرَّجل يسخر منها، أو شاهد منها شيئًا معيبًا، ومع تعبها الشديد خجلت خجلًا لا يوصف، فأرادت أن تتفحَّص ما بها رغم ثِقَل حملها ، زاد ضحك أبا احمد وهو يشير إلى رأسها، فقد كان صراعًا مريرًا بين طفليها الجالسين على رأسها، وتشدني اليها لأسير بنفس سُرعتها، فقام أخواي بفك شيفرة الطّعام وتناوله بشراهة، بل وتخاصما على اقتسامه بينهما، وقذفه في الهواء، وصبغ وجوههم باللون الأبيض، وهم يتصارخون. والوالدة تبحث عن سبب ضحك الرجل بوقاحة غير معهودة دون ان تنتبه لأطفالها، فتعثرت وسقطت على الأرض وأمامها الأطفال ما زالوا جالسين في الطبق دون أذى، فانسلَّ الرجلُ مبتعدًا وقد زاد ضحكة، وبقيت هي تداوي ألَمَها وخجلها وتعيد الأمور إلى نصابها وتستمر في مهمتها.
الأهم بالحكاية، أنَّها عادت إلى البيت، حضَّرت وجبة طعام جديدة للحصَّادين في الجهة الشرقيّة من القرية وقد انتَصف النَّهار وأعياهم التَّعب والجوع والعطش وتملَّكهم الغضب مِن تأخُرها عليهم، ورغم انها قصَّت عليهم ما حدث، الا أنَّ أحد الاعمام، أراد أن يستغِل الحدث بالتسلية على حسابها، بدأ بتحريض والدي على أُمي، أنَّها لا يُعتمد عليها وأنَّها خيبة كبيرة وأنَّ أبي يتحمّل المسؤولية في تقاعسها عن أداء المهمات بالوقت، فهو ليس رجلًا، يخاف أن يضرب زوجته، وبقي هكذا حتى امتلأ صدر والدي على امي، وامتلأ صدر أمي على عمّي، فقام والدي للتَّو بصفعِها أمام الجميع، كما يبدو لإظهار رجولته أمام اخوته. شعرت بالإهانة والذل أمام الجميع، غضبت غضبًا شديدًا، نهضت باكيةً غاضبة، مَلأت يديها بالتُّراب ونعفته باتجاه عمّي وهي تصيح به، ” خُذ حَنِّي قَفاك” فذهب قولها مثلًا.
ضحك من ضحك، وحزن من حزن، تركَتْهم غاضبةً ولم تعد ثانيةً إلى توصيل الطّعام، أمَّا والدي فندم ندمًا شديدًا، فكانت المرَّة الأخيرة التي يضرِب فيها أمِّي أو حتى أبنائه، بعدها استقلَّت عن البيت الكبير، لتبني بيتها وحياتها ومُستقبلها مع والدي الذي عمل دائمًا على ان تكون شريكته في السرَّاء والضرَّاء، فقضوا أيامًا بعضها حلو وأكثرها مُر في تربية فريق كرة قدم كامل ومعهم الحَكم، قد أكون انا هو الحكم.
شكرًا للدكتور حاتم كناعنة على الإهداء، وشكرًا له على كتابه الذي استمتعت بكل كلماته وحروفه، وشكرًا للمترجمة سوسن كردوش على التَّرجمة الرائعة، هكذا نوثق تاريخنا ونبني حضارتنا.