قصة قصيرة
نشرت في مجلة الجديد عام تموز 1969 تحت الإسم إياد أحمد
لو لم يتغير “أبو صالح”لهان عليها كل ما رأته من ويلات حرب حزيران,حين دخلت القوات الغازية قرية طوباس وهي تحتلّ القرية بعد الأخرى,والمدن في الضفة الغربيّة , بل ولهان على “أم صالح” كلّ ما يرتكبه المحتلّون من أفعال تشيب لها الأطفال,كما كانت تقول دائما.
فبدل أن يواسيها, ويخفّف عنها حزنها, على فراق أبنائها الثلاثة, الذين رحلوا مع بقية أهلها إلى الضفّة الشرقيّة من الأردن, أصبحت لا تستطيع التحدّث إليه في أي شيء,حتى ولا في شؤون البيت,لكثرة أشغاله كما يقول لها دائما. فقد عاشت معه سنين طويلة,دون أن تسمع من في يوم من الأيام أنه مشغول,خاصة حين كانت تودّ التحدّث إليه, بل إنه لم يكن ليتأخّر ليلة واحدة من العودة إلى البيت, أكثر مما تقتضيه صلاة العشاء , الّلهم إلاّ في ليالي الأعياد , حين كان يسافر لزيارة شقيقته المتزوّجة في القدس
.أما في هذه الأيام لم تعد تعرف إلى أين يذهب , ومن أين يأتي. يوم”أنا رايح على نابلس يا مرة” ,يوم”أنا رايح على جنين”,,وكلّما حاولت سؤاله وماذا يفعل في نابلس أو في جنين فإما أنّه لا يردّ عليها البتّة, وإمّا يكتفي بقوله, أن لا دخل لها في شؤونه,,فتسكت خوفا من نظراته المتوقّدةاالتي يصوّبها نحوها,ثمّ يخرج مرتعدا وهو يتمتم,أّنّ باله مشغول على الأولاد,وأن لا بدّ له من الحصول على تصريح لهم من السلطات لإرجاعهم, وبأيّ ثمن,ولا يعود إلاّ بعد منتصف اللّيل,أو قبيل الصباح, رغم حظر التجوّل الذي فرضه المحتلّون على القرية أثناء الليل,وفي كلّ ليلة ك
ان يعود فيها متأخّرا, تكون لا تزال ساهرة بانتظار,إلاّ أنّه كان يدخل الدّيوان دون أن يكلّمها,إلى أن صرخ بوجهها ذات ليلة,بأنّه إذا ما وجدها في غير هذه المرّة تقف في طريقه, وتنظر إليه كعادتها,سيطلّقها, مما جعلها لا تجرؤعلى النهوض من فراشها بعد ذلك ,كلّما عاد, وهي التي كانت تنتظره, كل تلك السنين الطويلة وكلّ يوم, حتى يعود لتقوم على خدمته إلى أن يأوي إلى فراشه وينام .
نفذ صبر “أم صالح” ولم تعد تحتمل هذه الحياة مع “أبو صالح”,وقد عرفت بحدسها ما يفعله,لا سيّما بعد أن اصبحت إبتها “صبحيّة” لا تكفّ عن سؤا لها عمّا يفعله والدها, ولماذا يخرج في الليل, بينما لا يستطيع الآخرون الخروج, وكيف أنّ جميع بنات الحارة رحن يبتعدن عنها شيئا فشيئا , ولا يشركنها في أيّ حديث أبدا ,,وأنّها كلّما مرّت بمجموعة من النّساء,يبدأن بالتهامس خلفها.
راحت “أمّ صالح” تراقبه كلّما خرج في المساء,,فتبعته ذات مساء إلى كرم الزّيتون,وما كاد يدخل الكرم حتى رأته يصعد سيارة عسكريّة,كانت بانتظاره, فراح قلبها يخفق بشدّة,وانهارت بالبكاء وهي تعود أدراجها إلى البيت,وما كلتي كادت تصل باب الدار حتى سمعت جارتهم “أم عليّ”, وهي تصرخ بأعلى صوتها بوجه ابنها :” ولّ يا علي انقطعت عليك البنات بهالبلد تا تناسب هالخاين, اللي الله العالم كم شهيد برقبته,,,الله ينتقم منّك يا بو صالح”
قبضت “أم صالح”على فتحة ثوبها بكلتي يديها وقدّته حتى أسفله وهي تكتم شهقتها,ثمّ اندفعت داخل البيت, وأغلقت الباب خلفها كي لا تسمع صبحيّة ما تقوله “أم عليّ”, فجدتها تقبع في زاوية البيت وهي تنتحب بحرقة ومرارة ,فاقتربت منها تحتضنها,إلاّ أنّها ما كادت تلمسها, حتى قفزت وهي تصرخ بأعلى صوتها,أنها تريد أن تموت , واندفت نحو تنكة النفط لتسكب ما فيها على نفسها, ,بينما راحت تقاومها بكلّ قوّتها,حتى انتزعتها من يديها وراحت تهدّئها خوفا من الفضيحة,,وهي تعدها بردع والدها عمّا يفعله, وأنّها ستقطع النهر بها,لتلحق إخوتها, وتتركانه وحده إذا لم يرتدع ,,,
كانت طوباس تتلفع بأحلام جبالها السبيّة, وريح كانون المتوجّسة تتلاحق في أزقّتها. وزخّات المطر المتقطّعة تدقّ أبواب المنازل الموصدة و”أم صالح”لا تزال ساهرة إلى جانب صبحيّة التي غفت وقد تبللّت أهدابها الطويلة المغمضة بالدمع,,فاستسلمت لغيبوبة طويلة ,وهي تثبّت نظراتها على صورة أبنائها الثلاثة المعلّقة بصدر البيت, واللذين لم ترهم منذ احتلال طوباس,ولا تعرف عنهم شيئا, سوى ما نقله لها بعض العائدين: “بلّغوا أمنا أنّنا بخير,وقولوا لها أن لا تحزن علينا إن نحن لم نعد إليها قريبا”, فتبكي بمرارة وتغيب ثانية على ضفاف بسمة صغيرهم ,” أحمد” فيكبر أمام عينيها ,,ويكبر الزّغب الحريريّ على مرج وجهه القمحيّ الجميل, ثمّ ما يلبث أن يغيب تحت كوفيّته المهدّبة, فتسقسق البسمة الياسمينيّة تحت اللّثام,,لتنساب في عينيه الغاضبتين..
ناحت على الباب ريح الليل, وانتعفت على الشبابيك دموع المطر, ودوّت عدة انفجارات متتالية, فانتفضت ” أم صالح” وهي تقفزمن مكاتها إلى الشبّاك,تستوقفها لعلعات رشّاشات متواصلة,بدت لها قريبة جدّا,حتى أنها استطاعت تحديد موقعها بين الجبال ليس بعيدا من كرمهم, ثمّ ما لبثت الرشّاشات توقفت عن لعلعتها بينما بقيت هي متجمّدة على الشباك تفكّر ب”أبو صالح” الذي لم يعدإلى البيت منذ أن رأته يصعد السيارة العسكريّة,فرفعت يديها إلى أعلى,تدعو الله أن يأتوا لها به محمّلا على خشبة,أو يكون قد قتل وبقي مرميّا بين الجبال تأكله الوحوش,فلا ترى وجهه ثانية…
لم تعرف كم من الوقت مضى عليها وهي تجلس إلى الشبّاك,حين سمعت هدير سيارة خافتا,تتوقف خلف سياج الدار, فنهضت وخنقت نور المصباح أكثر,بعد أن انتزعته م الجدار,ووضعته على أرض الغرفة في الزاوية, وراحت تجيل نظرها في ظلمة الليل الماطر, إلاّ أنها لم تستطع رؤيةأيّ شيء في الخارج, عاودت السيارة هديرها في الخافت مبتعدة, أعقبتها خطوات “أبو صالح” وهو يدلف إلى , ساحة الدار فراحت تترقّبه وقلبها يدق بسرعة عجيبة,مستعدّة لماجهته هذه المره,وقفت تعترض طريقه إلى الديوان, فدفعها صارخا في وجهها ,بأنها طالقة منه, وأنه لا يريد أن يراها في بيته من الصباح,فخرتّ على الأرض صارخة صرخة صحت على إثرها , صبحية, التي قفزت من نومها, ثم أسرعت إليها تحتضنها,بينما دخل الديوان وهو ينتفض غضبا
كان صباح اليوم التالي ناعسا نديّا,وغيومه الرّماديّة المتفّرقة, أغنام ترعى على أطراف الأفق, والجنود يسوقون كانوا, جميع رجال قرية طوباس ونسائها, إلى مراح القرية الكبير, حيث وقفوا واجمين , تتوزّعهم نظرات الغضب والحزن الهادئة, بينما وقف “أبو صالح” منكسا رأسه, إلى جانب زوجته وابنته, حول أربع جثث ملفّعة,,ثمّ ما لبث الجنود أن تراجعوا قليلا عن الجثث, بينما بقي أربعة إلى جانب كلّ جثة , في انتظار أمر قائدهم بكشفها, وإبراز وجوهها للتعرف عليها,,,,,
فردت الشمس حزنها الذهبيّ على الوجوه المشرقة, فشهقت العيون المترقّبة تحتضنّ “أم صالح”, التي جثت تلملم بشفتيها الثاكلتين, بسمة حارت على محيّا صغيرهم,,,الذي أخذ يكبر أمام عينيها و يكبر,,,فيكبر الزغب الحريريّ على مرج وجهه القمحيّ الجميل,,بينما راحت أناملها تداعب خصل الحرير على الجبين السنديانيّ,, وتمسح عن الجفنين حزنهما الفلسطيني الوادع.
انتصبت بين الجنود اللذين أحاطوا بها لإبعادها عن جثة, أحمد,ابنها,
مسحت دمعها ,ثّم أخذت بيد صبحية ابنتها وسارت بين رجال طوباس ونسائها الذين أحاطوهما وساروا بهما ,فالتفت إلى “أبو صالح”الذي ظلّ يقف وحيدا,دافنا وجهه بين يده,,,,,