موقع الأدب والفن المكان في ديوان – أستل عطرا – فهيم أبو ركن – بقلمٍ رائد الحواري

 

 

المكان يأخذ أكثر من موضع، منه ما هو خاص، البيت، ومنه ما هو عالم، الوطن، كما أن له أثر على الأشخاص، لهذا لا يمكن أن تكون هناك كتاب خارج المكان، بمعنى أن الأديب/الشاعر عندما يكتب يكون موجودا في مكان ما، فحتى لو لم يذكره مباشرة نجده أثره فيما يُكتب، في قصيدة “أصرخ أيها الخير” يتناول الشاعر أكثر من مكان، لكن هناك مكانين كان أثرهما مطلق الإيجابية عليه، أحدهما شرفة البيت، والثاني الطبيعة، يقول عن الشرفة:

“عندما أجلس على الشرفة أغازل القمر

أو أراقب شروق الفجر في السحر

الشمس تسعى تضيء الفضاء

والنحلة تجني العسل

لنقطفه بلسما ودواء

فيه العطر والشفاء

لا أتساءل…

وأعرف أن الخير موجود” ص47،

علاقة الشاعر مع المكان علاقة حميمية، وهذا نجده من خلال البياض المطلق، حيث تجتمع الفكرة البيضاء مع الألفاظ، بحيث يصل القارئ إلى حالة الفرح من خلال الألفاظ ومن خلال المعنى/الفكرة التي يحملها المقطع.

لكن الأمر لم يتوقف على الألفاظ فقط، بل طال أيضا الحروف التي نجدها في: “الشرفة، شروق، الشمس، شفاء” فوجود ألفاظ محددة تحمل حرف الشين يشير إلى تأثر الشاعر بالمكان/بالشرفة، مما جعله يستخدم كلمات تخدم فكرة الشرفة، من هنا وجدنا “شروق، الشمس، شفاء” وكلها تعطي مدلول ناعم وأبيض ومبهج، وهذا يأخذنا إلى أن الشاعر متوحد مع المكان/الشرفة، مما جعله يبدو وكأنه (أسير) له، فنجد انعكاس وجمال الشرفة/المكان وأثره على الألفاظ والحروف.

ونلاحظ أن المكان الخاص “الشرفة” تفضي إلى المكان العام، الطبيعة، فكان هناك “الشمس، فضاء، نحلة” وهذا يجعل الشرفة هي المنطلق نحو أمكان جميلة أخرى، وهذا الانطلاق يحمل بين ثناياه عين المضمون/الفكرة للمكان الأول/الشرفة، فنجد أيضا يُكمل البياض والجمال والبهجة، فإذا كانت الشرفة متعلقة بالمشاهدة البصرية للجمال والأفق الواسع “شمس، شروق، فضاء”، فإن الطبيعة قدمت جمالية أخرى تتمثل في صحة الجسد: “بلسما، وشفاء” وأيضا بالرائحة الزكية: “العطر”، من هنا إذا ما توقفنا عند المكان بشمولية، نجده مكان جميل/هادئ يفضي إلى السعادة والفرح.

الفلسطيني يتعامل مع المكان على أنه جزءا منه ومن كيانه، لهذا غالبية الآباء الفلسطينيين يذكرون المكان في أعمالهم، مؤكدين إلى حضوره، الشاعر “فيهم أبو ركن” يؤكد على هذا الأمر من خلال ما جاء في ديوانه “أستل عطرا”، فهو يذكر أكثر من مكان، يقول في قصيدة “جهابذة القريض”:

“تعانق عطر كرمنا وتبني

على أمجادنا مجد الزمان

ومن صخر الجليل عصرت زيتا

تدافع صامدا كالسنديان” ص61، نلاحظ أن هناك “كرمنا/الكرمل، وجليل” لكن قوة حضور المكان لا تكمن في ذكره فقط، أو في تقديمه بصورة فوتوغرافية (ناشفة)، بل في إقناع المتلقي بأن هناك حالة توحد/تماهي بين الشاعر والمكان، وهذا يظهر في ما وراء الكلمات، في جمالية المقطع والصيغة الأدبية التي قدمت فيه، واجزم أن هذا المقطع قد صيغة ضمن حالة حلول بين الشاعر والمكان، من هنا نجده يستخدم (التناقض/العكسية) “عصرت زيتا/صامدا كالسنديان” فعصر الزيت يعني تلاشي ثمار الزيتون ومحوها، لكن الشاعر يخرج لنا شجرة جديدة صلبة وقاسية هي “سنديان/صامدا”، وهذا يأخذنا إلى الفكرة الفينيقية التي تتحدث خروج/انبثاق الحياة من الموت.

فبدا الشاعر وكأنه فينيقي/فلسطيني قديم، يحمل فكرة عودة “البعل” من رحلة الغياب/الموت، وخروجه أكثر قوة وصلابة بعد أن صرع الموت/يم، وهذا التلاقي بين فكرة الملحمة الفينيقية/”البعل” وطرح الشاعر، يشير إلى استمرار الثقافة الفلسطينية القديمة وبقائها حاضرة في الفلسطيني رغم مرور آلاف السنين.

وقبل أن نغادر المقطع نتوقف قليلا عند الألفاظ المجردة، لنرى كيف كان أثر المكان في الشاعر، فهناك ألفاظ بيضاء/جميلة نجدها في: ” تعانق، عطر، كرمنا، وتبني، أمجادنا، مجد، الزمان، الجليل، زيتا، كالسنديان”، وهناك ألفاظ قاسية/شديدة: “صخر، عصرت، صامدة” وهذا يعود إلى الواقع الذي يعيشه الشاعر، وإلى المكان/الجليل، الكرمل وما يتعرض له من أذية وتهويد، ولكن البياض يغلب على القسوة/الشدة، وهذا يأخذنا إلى فكرة أمل/الفرح التي يحملها الشاعر، والتي تعود إلى بهاء المكان/الجليل/الكرمل وأثره على الشاعر، فرغم وجود صراع وشدة/قسوة “صخرة، عصرت، صامدة”، إلا أن المكان يمنح الشاعر البياض والهدوء، لهذا جاءت رؤيته يغلب عليها الفرح/البياض.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*