أقول وأعيد وأزيد بأن شعبنا الفلسطيني شعب عظيم وكريم ومضياف، و الشعوب العربية بشكل عام كريمة ومضيافة، وربما هذا الكرم وهذا الجود مُتأصّل في العادات والتقاليد المُتوارثة.
لكن، ودائما هناك ولكن كما يقول القول الاسباني الشهير، هناك بعض العادات والتقاليد التي يتوجب ومن الضرورة مراجعتها و”دوزنتها” حتى تتلاءم مع ظروف العصر والاوضاع السائدة وحتى الاخذ بعين الحسبان خصوصية وحساسية ورغبة ودرجة تقبّل الشخص وردة فعله امام تطبيق مثل هذه الممارسات فجأة، بقصد او دون قصد، لكن دون “احم ولا دستور” ولا في الافق معروف ولا منظور.
هذه مقدّمة لما جرى مع صديقي العزيز أبو النصر على مائدة غداء يوم أمس الجمعة في جنوب فلسطين الشهم الكريم المضياف المعروف بتقديمه أكلة المنسف الممهورة بالأرز واللوز ولحم الخروف والجميد البلدي كشوربة ساخنة لذيذه.
أقصّ عليكم ما قصّه علي صديقي دون أيّ تدخّل ولا أيّة رتوش في السرد، وهذه حقيقة حصلت وليست ضربا من ضروب الضرب بالنرد:
كان صديقي مدعوّا على حفل غداء، دعوة كريمة من أنسباء جدد كُرماء أجلّاء، والكريم في بيته يبان ومن كرمه يتنعّم الأصدقاء والأقارب والخلّان.
في “برندة” خارجية مفتوحة من جوانبها تطل على وادٍ خصيب “مدبوز” بأشجار الفواكه بأنواعها، والشمس “تلسع” أي مكان أو انسان تصل اشعاعاتها ما بعد الظهر إليه، مدّ المُضيّفون الكرماء طاولة تتكوّن من عدّة طاولات طوليّة ملتصقة ببعضها، يعلوها غطاء مزركشا باللونين الأزرق والأبيض، يتحلّق حولها نحواً من عشرين رجلا وشابا يافعا.
نزلت “جاطات” المنسف تباعا، وفي ثوانٍ كانت الطاولة الطوليّة الكبيرة مُغطّاة بالأرزّ باللوز المحمّص ولحم الخروف البلدي إلى جانب صحون شوربة الجميد الأصلي بالسمن البلدي، رائحتها شهيّة ومنظرها أشهى.
“بسم الله”، شمّر الجمع عن سواعدهم استعدادا “لخوض المعركة، “وغبّوا” زرافات ووحدانا في غمار المنسف اللذيذ الشهي.
صديقي يحبّ أن يأكل “على مزاجه” ويستمتع بطريقة أكله الرصينة بطقوسها الرتيبة الهادئة.
كان أمامه على الطاولة شاب يافع “خجول”، من عائلة المُضيّفين، “شريكه” في جاط المنسف الذي تعلوه ثلاثة قطع لحم كبيرة، كان يأكل بتهذيب شديد ربما مجاريا في الأكل صديقي هادئ الطبع والطباع في مثل هكذا مناسبات.
كان إلى جانبهما على يمين صديقي وعلى يسار الشاب عالي التهذيب رجلان، “ضيف ومحلّة”، يعرفان بعضهما من سنوات، ويبدو أنهما متعوّدان على بعضهما في شؤون “إدارة أكل المنسف”.
كان المضيّف منهمكا في “فتفتة” لحم جاطهما المشترك، أمام إعتراضات شريكه الضيف، اعتراضات ناعمة تتخللها الهمهمات و”الأخذ والردّ”.
كانا يتقاذفان قطع اللحم “المُفتفتة” التي غطت الأرز باللوز بالكامل، بملعقتيهما من جهة إلى أخرى وهما يهمهمان:
- هذه لك يا زلمة، كُلها صحتين وعافية.
- بل تلك لك التقطها يا رجل فانا أكلت كفاية.
- لا والله ستأكل هذه القطعة لقد اشتهيتها لك، سلامة خيرك فالبيت بيتك.
- يا رجل خذها أنت فانت لم تأكل كفاية، وأنا أشعر وكأنني في بيتي.
وبقيت قطع اللحم “المفتفتة” من قبل الرجل المضيّف ذو العيون الفاتحة المائلة للزرقة، الذي يلبس “دشداشة” زاهية لونها بني فاتح، تتقاذفها ملعقته وملعقة ضيفه الملتحي ببياض شعر لحيته، وكأنّها “طابات” كرة قدم، لا تصل ابداً إلى مرماها، لأن “الفريقين”، الطرفين، ما فتئا يتعازمان ويتنابزان ويتجاملان و”يتجادلان” وقطع اللحم منبطحة على ظهرها وعلى بطنها في “الجاط” تنتظر “قرارا حاسما” من أحدهما ليملأ ملعقته ويحذفها في جوفه هنيئا مريئا.
انها لعبة استغمّاية ظريفة ولكن ما الداعي لها إذا ما كان كل واحدٍ منهما رجلٌ بالغٌ راشدٌ حصيفٌ سديدٌ وبالعمر مديد، متمنطقا بملعقته المشرعة بلا غمد ولا جراب والتي يستطيع كل واحدٍ منهما أن “يضرب” بها المنسف ولحمه يمينا ويسارا ويستمتع بالخوض والفتفتة والتلقيم والبلع.
“نقطة الذروة” في المشهد المنسفي الجميل، “فقست” عندما “أمر” المُضيّف ذو الدشداشة بلون بنّي فاتح الشاب الخجول إلى يمينه أن:
- “فتفت له اللحم”.
أي أن يفتفت اللحم لصديقي القابع أمام الشاب على طرف الطاولة الشرقي.
ما كان من الشاب الخجول إلا أن امتثل لأوامر “كبير العائلة” في “موضوع الفتفتة”، تناول قطعة كبيرة من اللحم بين أصابعه وفتفت منها قطعة صغيرة “حذفها في مرمى” صديقي، أي أمامه في جاط المنسف، فجأة وعلى حين غرّة ودون سابق انذار أو تحذير.
- “الحمد لله، لقد شبعت”، أردف صديقي قائلا بصوت واضح بعد أن وضع ملعقته الملّآنة أمامه في الجاط.
- “لا يا رجل كمّل أكلك”، هتف كبير العائلة الآمر الناهي في موضوع الفتفتة.
- “لقد شبعت، أكلت كفاية الحمد لله، سفرة دائمة، شكرا لكم”، أصرّ صديقي على موقفة ولم يتزحزح عنه قيد أنملة.
وهكذا وبهذه الحالة وضعت “معركة” المنسف بالنسبة لصديقي أوزارها، واقفل الملفّ تماما رغم مناشدات “جيرانه” على الطاولة، ضيوف ومحلّة، بأن يستأنف أكل المنسف، وأن يعتبر ما جرى مجرّد سحابة صيف وانقشعت، أو مجرّد “خلل فنّي طارئ” ويمكن اصلاحه.
بعد الإنتهاء من وجبة الغداء ورفع الجاطات والغطاء المزركش دارت فناجين القهوة السادة وكاسات العصير والكولا والسبرايت.
ثمّ نزلت جاطات أخرى “مدبوزة” بالفواكه الموسمية، جُلبت مباشرة من البستان الملاصق لبيت المُضيّفين العامر المضياف، يتجلّى فيها حبّات التين الناضجة الشهيّة وقطوف العنب وثمار الدرّاق والتفاح.
عندما أنهى صديقي من قصّ قصّته ضحكنا معاً وأثنينا على كرم وضيافة عائلة الأنسباء الجدد، وقلنا أن ذلك يمكن أن يحصل” في أحسن العائلات” كما يقول القول المأثور.
ولكنني والحقيقة تقال ربما تحيّزت لصديقي لأنني أنا شخصيّا أُحب، على المائدة، أن أرى السمكة كاملة غير منقوصة، مشوية وممدة أمامي في الصحن، حيث أقوم بتفسيخها اربا اربا “وتفتيتها بنفسي”، وليس بيد غيري، ابتداء من رأسها أُجهز علية وأقسّمه و”أمصمصه” وآكل العينين والخياشيم وبعض اللحم الملتصق على الفكين من الخارج وفي مؤخرة الرأس.
وهنا تكمن المتعة في الأكل، ليس المتعة بالكمّية، وانما بالطقوس المرعيّة ورونقها.
كاتب ودبلوماسي فلسطيني