(قصّة)
خطرت على بال شيخ حارتنا مِن يوم قرّر أن يسير مع الوالي الجديد “الحيط الحيط ويا ربّ السُتْرة” أمورٌ كثيرة قد تطال مقامه وتحطّ من قيمته وبلعها، ولكنْ لو بقي الأمر في نطاق السير “الحيط الحيط…” لكان محمولًا، لكنّ الموضوع كان قضيّة وقت ليس أكثر حتّى يتخطّى الشيخ السيرَ في ظلّ الحيط إلى الاتّكاء عليه، فما بين السير مع الحيط والاتّكاء عليه شعرة.
حسِب الشيخ حساب كلّ التبعات المقولة منها وعادة من وراء الظهر غير الممارسة فعليّا، وتلك منها غير المقولة ولكنّها ممارسة فعليّا، لكنّة لم يحسب بتاتًا حسابًا أنّ الضربة النجلاء ستأتيه من “القطروز” عنده.
قطروزنا، وكغيره من القطاريز، يعملون عند سيّد وينفّذون كلّ ما يطلب منهم السيّد جهرًا وسرّا ودون مقابل اللّهم لقمة العيش والحماية. كان قطروزنا، وكغيره، يبقى عادة في ديوان الشيخ رهن الإشارة جالسًا عند عتبة الباب وإن ضاق المكان فبرّة الباب، وهو على أهبة الاستعداد لتلبية أيّ طلب ومهما كان “روح روح تعال تعال”، وكانت الطلبات الاهمّ للتنفيذ تلك المهمّات الليليّة التخريبيّة الفتنويّة، فالفِتَن ضمان بقاء!
قلّما كان القطروز يتدخّل في حديث يدور في الديوان فهو يرى ولا يرى، يسمع ولا يسمع، وينطق ولا ينطق، ويا “ويله من سواد ليله” إذا حاد عن هذه القاعدة الثلاثيّة إجمالًا، وتحديدًا إن صادف وتواجد في الديوان حين تدور أحاديث السرايا؛ المختار وضيوفه من لدُن الوالي.
ظلّ الحال على ما هو سنين طويلة، وياما شهد الديوان تشكُّلَ مصائب في ظلّ “الحيط” حلّت فوق رؤوس الناس، معروفةِ المصدر باطنًا مجهولتِه ظاهرًا، والقطروز شاهد حيّ أصمّ وأبكمٌ وأعمى و”لا من شاف ولا من دري”. ظلّ الحال على حاله إلى أن جاء الديوان يومًا رجلٌ يدسّ على جاره في قضيّة ما، ورغم التوصية في الجار حتّى الأربعين، كال الرجل لجاره الكثير وأخفّه أنّه “كلب ابن كلب”، وما كاد يفارق حتّى جاء الجار وكال هو الآخر الصاع صاعين من “الكَلْبَنة” وأخواتها وأبناء عمومتها وخؤولتها، ودون أن يعرف أنّه كان كِيلَ له مثلها قبلًا، وقام وغادر.
كانت على ما يبدو “غنمة الشيخ سارحة”، فتوجّه إلى القطروز ربّما ليتسلّى أو يقتل وقتًا، قائلًا: “ها… شو رأيك في اللي سمعته؟!”.
القطروز، وللوهلة الأولى، حسب أن أحدًا كان دخل الديوان دون أن ينتبه وله موجّه السؤال، فليس من المعتاد أن يُسأل في شيء، ولا هو قدّ المقام حتّى يسأله سيّده رأيه، فراح يلتفت يمنة ويسرة، فعاجله الشيخ: “لا تتْلفّت… الكلام إلك!”.
أخذ القطروز شهيقًا عميقًا أتبعه بزفير أعمق، وتغضّنت تقاسيم وجهه وضاق ما بين حاجبيه وحكّ قفاه أكثر من مرّة، وتسارعت دقّات قلبه حتّى صار يسمعها في شرايين وأوردة رأسه، وغزت موجات حمّ أجزاءه فبدأت تغزو مسامات جسده رطوبة حرّى. ما يطلبه منه سيّده أمر كبير وعلى غير عادة، ويجب أن يجتهد ليوفي السيّد الجواب الذي يرضيه، فهي فرصة إن نجح في اقتناصها فربّما ترتفع أسهمه قليلًا عند السيّد. صحيح أنّه لم يوفّر جهدًا في خدمة سيّده قولًا وفعلاً ورغم ذلك ما زاد هذا من أسهمه زيادة ملحوظة، ولكن أن يطلب السيّد رأيه أمرًا آخر، وإن أجاد فأكيد ستكون المكافأة ارتفاع أسهم ارتفاعًا ملحوظًا هذه المرّة. المهمّ أن يعرف كيف يقتنص الفرصة.
كلّ هذا دار في ذهنه أسرع من البرق ولكّن اجتهاده هذا أورده موردًا يخيف، فالجواب الذي خطر على باله يمكن أن يصيب الشيخ نفسه إن إساء الصياغة، أو أخذ الشيخ المعنى على حاله حتّى لو أحسنها و”أضرط الناس اللي يوخذ المعنى على حاله” والشيخ ليس كذلك في نظر القطروز ولكن “هاي الدنيا بلكي…”، دار كلّ ذلك في خلده وهو السامع الكثيرَ من أحاديث “الكَللْبَنة” تالي الليل بين أعيان البلد ومنهم الشيخ كلّما اختلوا بمساعد الوالي، وإن كانت الكلاب من أحاديثهم وما يلصقون بها براء!
رأى الشيخ أنّ القطروز “يحوص” والحيرة والتردّد يتملّكانه، ويبدو فعلًا أنّ الشيخ “غنْمتُهْ كانت سارحة”، فسارعه محفّزًا: “قل… ودارك أمان!”
وبعد تردّد راح القطروز يروي (على ذمّة الراوي وبكلماته): “في بلدنا يا سيدي حكاية تقول، إن اثنين من بلدنا ترافقا في سفر بعيد “على محبّة الله” تفتيشًا عن رزق ومرزقة. طالت الطريق ودخلا خطأ بريّة موحشة، ولحسن حظّهما صادفتهما وقبل أن يظبّ الرّمَس خيمة بدويّ، فشكرا وحمدا وقصداها. رحبّ بهما البدوي، وكعادة البدو لم يطل وصولهما وإذ بالنار علت وبدأت الروائح الطيّبة تغزو منخاريهما وتتقلّب الأمعاء في بطنيهما.
طبيعيّ أن للذبيحة استحقاقَها على النار، فراح البدوي بفراسته يسامر الضيفين، وبعد مدّة وكأمر طبيعيّ طلب أحدهما الإذن أن يخلو فناله. البدو لا يسألون الضيف حاجته إلّا إذا طرحها، لكن “بدويّنا” وقد طال بقاء الذي خرج في الخلاء قليلًا، فسأل الآخر عن صاحبه فما كان منه إلّا أن أجابه: “كلب ابن كلاب”. عاد المختلي فاستأذن الآخر الاختلاء، وما أن غاب حتّى عاد البدويّ على نفس السؤال، فلقي نفس الإجابة، وحين عاد استأذن البدوي منهما وخرج.
لم يغب طويلّا وقد عاد بطبق نحاسيّ يعلوه غطاء قماشيّ أبيض نظيف. وكالعادة دعا البدويّ ضيفاه “على الميسور” وخرج كي “يأخذا راحتهما” كما العادة. شمّر “الضيفان” وقد دلع قبلًا ريقهما جوعًا، وما أن أزاحا الغطاء حتى رأيا أمامهما كومة عظام الذبيحة، نظر كلّ منهما في وجه الآخر ودون كلام قاما ووليّا الأدبار”.
وصمت القطروز.
كان الشيخ مطرقًا وهو يسمع والبسمة التي كانت تجلّل وجهه في البداية بدأت تتلاشى مع تقدّم السرد، حتّى لفظت أنفاسها، وورثتها تعابير غير مقروءة ولكنّها معبّرة. لم ينتبه الشيخ، ولوهلة، أنّ القطروز صمت، وحين انتبه بادره مستزيدًا: “وبعدين؟!”
ردّ القطروز: “ولا قبلين!”.
ويشهد الراوي أن أحدًا من أهل البلد ما عاد رأى القطروز في البلد!
سعيد نفّاع
أواسط آب 2021