النقطة الخطيرة دينا سليم حنحن

قريبة من المحيط، قابلتُ الشاطئ في أقصى غرب أستراليا، كلما سقطتُ في حمى البحر اختليت مع أنيني المضطرب.

أعود بذاكرتي إلى الوراء، مستذكرة أحداثا نائمة حفرت في ذهني، متى سأكبر ويأتي اليوم وأتكبر فيه على الذاكرة؟ هل تشيخ الذاكرة، وهل يشيخ البحر أيضا؟ لقد بدأتُ أهذي.

 

حلّ الليل وهبط بإصرار، واسود الكون، تفجّرت أفكاري الراسبة، والمتقعرة وجلست على رأس الاختلاجات.

مأخوذة أنا بقمر بعيد بدأ يتسرب بسكينة من أعلى صفحة السماء، اقترب على مهله راقصا رقصة البوليرو الهادئة، وبدأ يكبر بإلحاح متصدرا سماء صافية، بصم على الأمواج العالية فضته العتيقة فهدأت، تأرجحت على مهلها وأصبحت مثل حَمل وديع.

 

ولأنني تدربت على الالتواء، سلكت طريقا خشبيا غمرته رمال الشاطئ، تركت كل من كان معي وابتعدتُ عنهم، ترجّلتُ وأنا أخاطب نفسي، هدرت بقدمي العاريتين نحو (النقطة الخطيرة) هكذا سمي المكان، مجتازة إشارة المنع، وتقدّمتُ.

 

روّضتُ خطواتي، شيمة وسجية تحليتُ بها دائما، سرتُ على رمال خشنة، وأصداف وعظام يابسة، وترسبات طينية، غزت الصخور الناتئة الشاطئ، و ملأت الحجارة الرطبة المكان، أدمت باطن قدمي، ما يزال جرح  قلبي، وحجر عقلي، ملوثا بالأفكار السيئة، وبالذاكرة الأليمة، جروح سخّرتني وأخضعتني كلما اقتربت من البحر.

 

احتج المحيط واستنكر زيارتي المتأخرة، فأخذ يداهمني بسواده، انتفض مثل شبح ومرّ  أمامي مثل مارد مستعجل، غاب ثم عاد بهدير اختلط بالذاكرة المسكونة.. أعلنت حبال التردي عن إفلاسها فسقطت في فوهة الذاكرة!

 

في جعبتي سنوات من القهر، والكون متلهٍ ومتلهف، يضرب عشرة أصفار في عشرة فتمتلئ السماء بالنجوم..أين ذهب القمر؟ لقد كان هنا قبل أن تبدأ انحناءات خطواتي، لكنه غاب دون أن يشاورني، أردته أن يشاركني سيري الهدجان.

 

ولأني تمتعتُ سنوات طويلة بموسيقى الزيتون الصامد، تعودتُ على صيحات القدر، أنا هنا، ولأني أنا هنا الآن، في هذه النقطة الساحرة والخطيرة، عادت إليَ صيحات التوجس مع القدر، تنهال الذكرى الآن، يا لهذا الحمل الثقيل الذي أثقل هامتي!

 

عدت بذاكرتي إلى البداية، مكان أحببته، وقفت على قمته أتمنى حريتي، كنت قد حمّلتُ الأفق قلق وجودي، من أعلى الجبل، رأس شامخ يطل على البحر، انغرس داخل المتوسط، صامدا وصامتا، أبيض، تحمله صدوع عملاقة شبيهة الأقدام، يسترخي لها بخشوع وإلى الأبد، رأس الناقورة، وطن الزيتون.

 

كان آخر يوم  في السنة، تهيأ الجميع ليوم خاص وجديد، راقبوا عقارب الساعات، توسّلتُ لحظات طفيفة من التوحد والتماسك العائلي، انطفأت اللحظة، امتلأ مطبخي بالأصناف والمشهيات، والفحم ينتظر من يشعل فيه النار.. لم يحضر رب العائلة، أراد أن يحتفل باللحظات الجميلة مع وجه آخر غير وجهي، ومن أعلى الجبل المذكور.

 

اعتليتُ سطح البيت، حياتي ممتلئة بقمم الأماكن الحائرة، أطلّ البيت من بعيد على البحر، بحثتُ عنه، أكاد أراه، يا لفوضى عقلي، كيف لي أن أراه؟  تلهّت العتمة في المكان، لم أرَ شيئا سوى الأضواء المتلألئة الخجول، ظهرت ونصت كما يحلو لها، بحثتُ عنه بين سدف العتمة كالمجنونة، بحثتُ، ثمة حياة في قمة المرتفع البعيد، ناديته، حتى أنني  لوحت له بيدي، لا حياة لمن تنادي، وهبطت عن السطح.

 

صُموت، صمت الأطفال وانتظروا اللاشيء، صمتٌ رهيب أمات العيون الحية، صمت ووجع، أمات حتى الصخور التي أحاطت بمنزلي، كان السور عملاقا وسقط، أدمى سقوطه بؤس الحال!

 

مرّت لحظات مريرة من الانتظار، أحسسنا بفقدان الأب والزوج،  فقدت كل الأشياء الجميلة في غيابه، كيف يكون الاحتفال بدون رب العائلة لحظة تبدّل عقارب الساعة؟  من سيصفق لسنة جديدة قادمة، ومن سيُضحك الأطفال في العام الجديد؟ لا أحد.. وتحجّر فحم الشواء!

 

وصل صراخ المحتفلين بالعام الجديد حد السماء، زغاريد وأهازيج، أطلق رصاص الفرح ودوت مدافع الابتهاج، صراخ وتصفيق، قهقهات وضحكات، دقت النواقيس وأعلنت صافرات السيارات عن أهمية الحدث، ونحن وقفنا مثل الجليد، نتبادل أعباء نظراتنا، و تساءلنا:

  • هل سيأتي؟

لم يأتِ! توحدت نظراتنا وانتقلت إلى المائدة المستطيلة الكبيرة، اتسعت لعدد هائل من العيون والأطباق فارغة، فقدنا الشهية وبقينا نقاتل لغة الوقت، حلّت سنة جديدة، ستكون كأي سنة ماضية مريرة، فجّر ديناميت الوقت قلوبنا، فجّر اشتياقنا ففجرنا العالم بنحيبنا، أسرعنا بهممنا المكسورة إلى الحديقة، كانت عيوننا على السور الصخري المنتصب أمامنا، فجأة أصبح غريمنا، فأين سنُسقط وجعنا؟ تسابقنا في رمي الأطباق، ارتطمت وهوت، طبقا تلو آخر، هوت شظايا، حملت يدا تلو اليد طبقا لكسره، كسّرنا وكسّرنا المزيد بقلوب مكسورة، حتى فرغت الطاولة منها، لم يسكت الغضب، ركضنا لاهثين إلى خزانة مكدسة بالأطباق، أخرجنا منها ما تبقى وما ادخر، للكسر، وصرخنا:

  • ابعد يا شيطان، ابعد يا شيطان، اخرج يا شيطان وأعد لنا الأب الضائع، تاه بعيدا عن أسرته.. ضاع ولم يعد!

 

بعد سنوات من الرحيل عادت بي الذكريات، خلتها انصهرت وذابت، انكسرت نظراتي أمام أفق معتم بدأ يضيق، أصبح صعب التوحد مع ذاتي، سابقا، وبخت الحظ، وتنكرت لحقيقة أن العشق الأول لا يموت، قلت وبإصرار، إن الظروف القاسية هي التي تصنع الآخر وتبدّله، وسألت أسئلة كثيرة عن حقيقة الحياة، وأهدرت جمال السنوات وأنا أهرول خلف حقيقة الآخر لفهمها، ولم أفهمها، سألتُ عظيم الأسئلة وغرقت الإجابات، كما بدأت أغرق الآن، أنّبتُ نفسي ونهرتها، لا مجال لمحاكمة النفس، فات الأوان.

دوت أصوات أبنائي من خلال هدير الأمواج، نادوا خائفين:

  • ماما..ماما.. أين أنتِ؟

 

انكسر قلبي أمام النداءات، لطمني الموج البارد واقترب مني المارد الأسود، قبض على روحي وأغلق  فسحة الهواء، إني أغرق.

 

درّبت جبيني المرفوع، رايتي، أن يحمل كل الصباحات، طالما كنت حيّة، لكنني لم أخرج من سجن قضباني بعد، ولم أصل نقطة التشافي، هرمت قوتي وضعفت، كيف سأحارب أحزاني؟ حضرتُ إلى هنا والتقيتُ آخر نقطة تفصل ما بين الساحل والجبل، على قمّة خطيرة أحاطها السواد، حيث الوقت مقطوع والفقدان سهل، فقدان كل الأشياء، هنا صوت الروح يخمد، والمجال مفتوح للقرصنة، في لحظات اليأس، لا مجال للتفكير، لا مكان، لا وقت، دخلتُ نفق اليأس، والنفق الطويل يحتاج إلى ألف ضوء، ضوء الآخر أكذوبة، حب الآخر أكذوبة، الإخلاص أكذوبة، الصبر أكبر أكذوبة، ضحكتُ وبكيتُ في آن، كانت هناك بعض الأضواء التي لم تنطفئ.. لم تنطفىء روحي.

 

نفضتني الذاكرة إلى مكان انتفضتُ فيه ولأول مرة متحدية، من على قمة أخرى، في الريفييرا الفرنسية، قمّة شبيهة بهذه القمة، هرولت، وعدوت، غذيت روحي المقبوض عليها وتحررتُ من القيود، يمكن التنبؤ بسيماء وجه الله من خلال النظر إلى مساحات البحر البعيدة الجميلة، أليس الجمال ابن الله! صرختُ بصوت حازم وناديتهُ:

  • قدري..

مسكتني رفيقة من أذني ولوتها، تعقبتني، وبخبث فاضح ضحكت قائلة:

  • تحبينه إذن!
  • لم تحزري.. بل أتحداه، ولأول مرة!

 

ها أنذا بدأت أطلق سهام لعنتي على الأمواج الصاخبة، لكنها غمرتني وغطتني، وكلما حاولتُ التخلص منها ركضتُ إليها، غلفني المارد الأسود حتى جبيني، مطتني وتمططت معها، ومجددا خرجت أصوات في البعيد، بحثت عني ونادتني باكية، سمعتها وهي تبكي وتنوح.

 

أثثت الأمواج المهولة لي قبرا بلا كفن، أعترض، فأنا التي حملت راية الحرية احتجاجا، استنكرتُ وتمردتُ، ولم أرضَ بالمسلمات والتدرب على الكذب، أخبرتُ الجميع أن الحياة لا تتفق إلا مع الحقيقة، فكيف أموت الآن، وغرقًا!

 

حاولتُ استنشاق الهواء، تمسكتُ بضفاف روحي، أطفئِت الأنوار، شاهدتها وهي تنطفئ من بعيد، شربتُ ماء المحيط، عطش المحيط فأصرّ على غرقي.

تمنيتُ رؤية النور مجددا، وهذيتُ:

– أراك أو لا أراك؟

لم أسمع غير صراخ ذاتي، انحنيتُ مع بطن الأمواج وصرختُ، بطن أغرقت بطنا، تاهت صرختي وهذيتُ بالموت، لكنني أحب ذاتي، وحياتي مظلتي الجميلة، لمَن أتركها ولماذا، فكم من مرة أطلقت السهام على مرآة حملت صورتي! هنا، اكتشفتُ أنه لا أقنعة لصورتي، ولا وجه سوى وجهي، أنا أشبه نفسي فقط، فكما تعلمت أن للفجر لغة، وللبحر لغة، وللحياة لغة، علي أن أنجو، لقلبي لغة خاصة به.

 

سبحتُ وجدّفتُ وتحدّيتُ، اشتعلت الأنوار في البعيد، واشتد اشتعالها كلما اقتربت، لم أنطفىء، ثمة هواء فاسد أحرق دواخلي، فاحتاجت رئتاي إلى تجديد فغسلتهما، صرخت قبل أن أصل الشاطىء، وبكل عزم قلت:

  • لن أغرق، أتحداك…

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*