حوار أدبي وفكري مع الأديب محمد نفاع رياض كامل

 

تمهيد

عرفت الأديب محمد نفاع منذ عرفت الكتاب، وتابعت قصصه وكتاباته الأخيرة في أكثر من مجال. استمعت إليه خطيبا سياسيا بارعا، وحاورته أكثر من مرة أمام طلابي في المدرسة وفي الكلية. وكتبت مقالين دراسيين، أهمهما دراسة حول رواية “فاطمة” التي أعتبرها من أهم الروايات العربية الفلسطينية، لما تحمله من ميزات فنية تجعل كاتبها مبدعا كبيرا. لا يذهب نفاع نحو اللغة بل إنه يروّضها وفق هواه لتصبح لغة عربية فلسطينية فلاحية تحمل ختمه الخاص.

كتبتُ حول أدب محمد نفاع وكتب غيري، دراسات متعددة، منها الأكاديمية التي تناولت نتاجه الأدبي من زوايا متعددة، أثنوا كلهم على عطائه وعلى إبداعه، لكنّ هذه الدراسات لا تفي هذا المبدع حقه، فهو يحتاج منا إلى أبحاث ودراسات تتناول خطابه الأدبي ومبناه وتجليات أفكاره منذ بدأ الكتابة وحتى آخر ما قام بنشره في الاتحاد في السنوات الأخيرة.

أجريت هذا الحوار معه، قبل وفاته بأشهر قليلة، أضعها بين يدي القراء والدارسين للاطلاع على ما جاء فيه، كشاهد على رجل القول والفعل. هذا الحوار، وإن كان قصيرا، سيكون عونا للقراء العاديين، وللباحثين المتخصصين ويضيء جوانب هامة من شخصية محمد نفاع الإنسان والأديب.

كما يمكن الاطلاع على هذا الحوار في كتابي الصادر حديثا (2021) عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان بعنوان “حوارات في الفكر والأدب”. وهو عبارة عن حوارات فكرية وأدبية أجريتها مع أدباء وأديبات من سوريا، الأردن، مصر، تونس وفلسطين.

 

س 1: مسيرة طويلة من الإبداع، منذ الثانوية وحتى اليوم، كيف كانت البدايات وما الذي دفعك الى الكتابة؟

ج 1: عرفت بلدة حطين وهي عامرة، ثم عرفتها وهي مهجورة ومدمّرة، يومها كنت في الصف السادس، عنّ على بالي كتابة مادة، سُرّ بها أبي وعرضها على عالم قريب لنا، فربّت على ظهري، ويبدو لأنّي ذكرت في المادة القصيرة مقام النبي شعيب، وهذا شجعني. في الصف السادس تعلمنا اللغة العربية عند الاستاذ حنا مخول، في كتابي الأوديسة والإلياذة ورأيت فيها قصصا شيقة. وكان لنا أقرباء مثقفون -دار فريد القاسم- من الرامة، كنت أدعوهم “دار عمي فريد”، وكانت ابنتهم المعلمة سلمى، أخت الناقد نبيه القاسم، تحضر لي من بيتهم كتبا للمطالعة، أذكر منها “الأجنحة المتكسرة” و”الأرواح المتمردة” و”الفضيلة”، لأني كنت أحب المطالعة. أما التشجيع الآخر فوجدته عند الاستاذ الشاعر شكيب جهشان، معلم اللغة العربية في مدرسة الرامة الثانوية، وقد طلب منا كتابة موضوع إنشاء بعنوان “صف يوما ماطرا”، وأنا ابن القرية، ومن أسرة فلاحية فقيرة، سرحت في المعزى “السخول” ودرست على البيادر، تأثرت بالغيم والبرق والرعد والثلج والوديان الجارية وعيون الماء والوعر الغزير، فانعكس ذلك في كتابتي، وما كان من المعلم شكيب جهشان – وهو الأديب والموجِّه- إلا ان أعطى موضوع الإنشاء علامة كاملة مع كلمة: “أحسنت” على طول الصفحة الأخيرة وقال: أكثر من القراءة آمل لك النجاح.

في سنة 1948، شاهدت جموع اللاجئين من صفد وميرون والدامون وميعار يمرون من قريتي إلى لبنان، كان هناك الشيوخ والأطفال والنساء، وجوههم باكية، غاضبة، مذهولة، والنساء عندنا يقلن “المشحّرين”، “المهجهجين”. سكنتْ عندنا عائلة من صفد – دار صلاح الحاج- صلاح وفاطمة، والأبناء والبنات؛ فريزة وفريال ومحمد، أما أخوهم وليد فقد قصفته الطائرة قرب البيت في صفد، وقطعته شقفتين. تصادقت مع عدد من الأطفال، أبناء المهجرين، أذكر منهم حسن وإبراهيم من الدامون، وكنّا نقضي الوقت معا.

نشرت أول قصة في جريدة “اليوم” بعنوان “ابن عمّها بنزّلها عن ظهر الفرس”. وكنت أحب الشّعر أكثر من القصة. فقد قام أستاذنا شكيب جهشان في المدرسة الثانوية بتعريفنا على محمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين. ولما حاولت كتابة قصيدة بعنوان “الجرمق” أرسلتها الى مجلة “الجديد” فجاء الرد من محمود درويش: قصيدتك، وإن كانت سليمة الوزن والقافية، إلا انها لا تصلح للنشر، لأنك تُسخّر الكلمات للوزن والقافية، فتحولت الى كتابة القصة القصيرة.

 

 

س 2: ولدتَ في قرية فلسطينية نائية، تابعتَ الدراسة الثانوية خارج القرية، عملت في الزراعة وفي رعي الماشية، وسافرت الى موسكو سنة 1971. فدرست العلوم السياسية، ماذا أفدتَ من كل هذه التجارب؟

ج 2: نعم، كل مرحلة ودورها. هذه القرية النائية لها لهجتها العامية الخاصة، ولها أقوال وأمثال ونمط حياة وعلاقات اجتماعية خاصة بها. تعرّفت أثناء عملي في الزراعة ورعي الماشية، على عشرات المواقع، وعلى عشرات انواع الشجر؛ السنديان والبطم والمل والقاتل والسويد. وعلى الكثير من اسماء الاعشاب والبقول؛ النفله، خبز القاق، شواهين الغزال، دم الغزال، الشومر، التنتول، وذويثة الجدي والحمّيض والمِشِه.

أما في الثانوية فقد تعرّفت على طلاب من أكثر من عشر قرى عربية، من البطوف والشاغور والمغار. وتعرّفت على مجلة “الجديد” وجريدة “الاتحاد”. سكنت في قرية الرامة أربع سنوات دراسية. في تلك الفترة رأينا اول كتاب عربي طبع هنا من قِبل “شركة الكتاب العربي”، وكان ذلك هو رواية “الأرض” للكاتب المصريّ عبد الرحمن الشرقاوي.

وفي موسكو درست بالأساس موضوع الفلسفة الماركسية، تسنّى لي هناك توسيع معارفي ومداركي، وجدت أمامي مكتبة غنية جدا، كنت أقضي فيها الساعات الطويلة، سمعت عن غوغول وتشيخوف وتولستوي ومكسيم غوركي. هناك تعرفت على الكاتب السوري المعروف سعيد حورانية وقلت له: أول مجموعة قصص قصيرة قرأتها هي كتابك “وفي الناس المسرّة”، تفاجأ وقال: أنا أهملت الكتابة وتوجهت الى الإخراج المسرحي، لكن إذا كانت قصصي وصلت اليكم فسأعود الى الكتابة حتما، وصرنا نقرأ له قصصا قصيرة في مجلة “الجديد” ومنها “الجوزات الثلاث”، وعلى ما أظن قصة “المحطة 47”.

استمعت في المعهد، أثناء إقامتي في موسكو، إلى محاضرات لخالد بكداش وفؤاد نصار، ومحمد حسنين هيكل. وفي مسرح البولشوي استمعت الى باليه “بحيرة البجع” وأوبرا “عايدة”، وزرت متحف “الارميتاج” الضخم، كما زرت جمهورية جورجيا وعاصمتها الجميلة الرائعة “تفليس”. وهناك في ريف جورجيا الجميل شاهدتُ البطم والسنديان والعنب والتين، وتمثال ستالين. وفي كوخوز “مهران” دعينا إلى وليمة، وهي عبارة عن منسف وعليه رأس الخروف، تماما كما هو الحال عندنا. تعرفت هناك أيضا على الكاتب نودار دومبادْزِه وكتابه الرائع “أرى الشمس”. وفي “جورجان” أي جورجيا رأيت الكثير من الآثار العربية، تعود إلى أيام الفتوحات العربية.

كان من الطبيعي أن نزور الساحة الحمراء والكرملين، ونشاهد ضريح “لينين المحنط”. كما زرنا ليننغراد ورأينا الكوخ الذي عاش فيه لينين أثناء ملاحقة الحكومة المؤقتة برئاسة كيرنسكي، عند بحيرة لازاريف، محتفظين بالقِدر وإبريق الشاي وبعض الأثاث.

في المعهد طلاب من عشرات الدول من كل القارات، زرنا اليمنيّ الجنوبي عبد الفتاح اسماعيل وقال: نحن اشتراكيون ضمن ظروف اليمن. تعرفت على اللبناني الياس خوري وزوجته منى الدرزية ومزحنا كثيرا. وأخيرا تصادقت صداقة حميمة مع الفنلندية كوياسرفولا زماطي، بقينا أصدقاء وحبايب حتى طالبتْ بإعادة الارض الفنلندية وقت حصار ليننغراد في الحرب الوطنية العظمى ضد النازية، فترت العلاقة بعد نقاش مرير معها، تعلمت منها جملة: مينياراخاشْتا سينوويا” أنا احبك.

 

س 3: محمد نفاع أحد أهم المبدعين الفلسطينيين في مجال القصة القصيرة… بعد إصدار هذا الكم من المجموعات القصصية رأيناك تدخل في تجربة جديدة، وتصدر رواية “فاطمة”، التي حققت نجاحا كبيرا، وتناولتها أقلام الباحثين بالدرس والتحليل، لماذا هذا التحوّل؟ هل هناك دافع ما يجهله القراء والباحثون؟ هل أنت راض عن هذه التجربة؟

 

ج 3: منذ اواسط ستينيات القرن الماضي، كنت أسمع من إميل توما وغيره من القراء النشيطين ما يلي: في قصصك القصيرة يوجد “نفَس الرواية”، لماذا لا تحاول كتابة القصة الطويلة؟ الواقع كنت متهيّبا، فلم أحاول. كنت أرتاح أكثر لكتابة القصة القصيرة، كان عدد المجموعات القصصية القصيرة في العالم العربي وفي العديد من الدول قليلة جدا بالنسبة للروايات. كنت أطالع كتابات همنغواي، “الشيخ والبحر”، و”أحدب نوتردام”، وروايات غوركي “الأم” و”سوناتا كرويتسَر” لتولستوي، وروايات نجيب محفوظ، والطيب صالح “موسم الهجرة الى الشمال”، و”اللاز” للجزائري الطاهر وطّار وكثيرين غيرهم. لكن بعد مرور سنين عديدة، تجمعت في فكري الكثير من عناصر الرواية، من علاقات اجتماعية وأحداث ومشاهد، وأغنيات شعبية وطقوس وأمثال، وسماسرة أرض من خارج القرية وداخلها، وجدتُ نفسي  مدفوعا لجمعها في رواية، حتى لا تبقى مبعثرة هنا وهناك في قصص قصيرة، فوعاء الرواية أوسع.

في إحدى الأمسيات الأدبية حول موضوع “القصة الفلسطينية القصيرة”، وقف عريف الندوة الطيب البسيط وقدم للأمسية: والآن نستمع الى محاضرة الرفيق محمد: القضية الفلسطينية بصورة مختصرة. صارت القصة، كقطعة أدبية، تعني له القضية الفلسطينية باختصار. ولليوم نتمازح حول الموضوع، ومع ذلك فأنا لم أتوقف عن كتابة القصص القصيرة.

بعد صدور رواية “فاطمة”، كتبت العشرات من القصص القصيرة، بعضها نشر في مجموعة “غبار الثلج”، وبعضها لا يزال تحت رحمة دور النشر مثل: مجموعة “همهمة رياح شرقية”، و”الدار”، وكذلك الجزء الثاني من “مذكرات وذكريات جبال الريح” الموجود في دار النشر منذ سنتين!! واليوم أجرّب حظي في كتابة رواية جديدة في أكثر من جزء، بعنوان “ذياب”، لكن ليس على حساب ميلي واهتمامي بالقصة القصيرة.

 

س 4: كل دراسة تتناول إبداع محمد نفاع لا بدّ لها من أن تتطرق إلى قضية اللغة “العتيقة” التي توظفها في مجمل ما كتبت، هناك من اعتبر أنّ هذه اللغة هي مصدر قوة إبداعك، وهناك من يرى أنّها قد تقف عائقا امام القارئ، ماذا تقول في ذلك؟

ج 4: لكل ناقد وقارئ رأيه، وأنا احترمه، وقد يكون الجواب فيه بعض الصعوبة والمبررات. أنا أرغب، شئتُ أم أبيت، وأراني مدفوعا، عن وعي أو بشكل عفوي أن أحافظ على هذه اللغة بالذات، هذ اللغة “معشّشة في ذاكرتي”، خاصة وأن شخوص القصة هم من “عامة الناس”، من القرويين والفلاحين، لهم لغتهم ولهجتهم المميزة، والكثير الكثير من هذه اللغة المحكية لها أصل وفصل في موسوعات لغتنا العربية إلا فيما ندر؛ حوار وحديث ومقامعة هؤلاء القرويين كلها، باعتقادي، لها طعم خاص ونكهة خاصة، وهي مفهومة في قريتي بالأساس، رغم ضيق هذا الأفق الضيّق. فقد جلست مع أحد الدارسين ساعات طويلة وهو يسأل عن معاني ما يقارب الـ 300 كلمة في رواية “فاطمة”.

عندما أقرأ مؤلفات سلام الراسي مثلا، بلغتها العتيقة، أفهمها على الطاير، أحبها وأرتاح لها. كذلك عندما أقرأ مفردات مارون عبود، أو قصص يوسف ادريس، والطيب صالح، والطاهر وطار، أجد فيها اللغة واللهجة اللبنانية والمصرية والسودانية والمغربية الجزائرية، وهي كلمات غريبة بالنسبة لي لكنّي أبذل جهدا لأعرف معناها.

العشيرة التي أنتمي اليها استُهدِفت من قبل السياسة الرسمية في انتمائها، وتراثها، ولغتها، ونمط حياتها وتاريخها، وقد اكون مدفوعا للدفاع عن هذه الأصالة، أصالة الانتماء العريقة في المجالات المختلفة. وجدت نفسي أتحدّى وأتصدّى لمحاولة هذا التطفيش، وبتر الغصن عن الأصل والجذر، من منطلقات اجتماعية وفكرية وطبقية وسياسية. هل يمكن تغيير وتحديث المثل الشعبي مثلا؟ او اسم نوع الشجر والنبات وموقع الارض؟ او اسم العنزة بحسب لونها؛ كحلة وخزْمَه وعَطره، ورثمَه، وسكّه، وشعله، ونمره؟ وأسماء البقر؛ زاغَه، وحجول، وغزال، وشام!!؟ باعتقادي هذا جانب من جوانب الالتزام. حتى أسماء العلَم للذكور والاناث من الناس: قطف، وطفه، حشمه، فاطمة، يمامه، حسن وحسين وأحمد وغيرها… أكتبها كما يلفظها الناس. خذ أسماء قطع عود الحراث: الناطح والذّكَر، والبُرْك، والمنْتَعه، والزغليّه، والنير، والبيّور والشّرْعة، وكذلك الاغاني الشعبية وأغاني الدرّاسين والحصّادين. لا لوم، باعتقادي، على جيل شاب لم يعايش نمط الحياة الذي كان، لم يعايش المنزول، والمصفّة، والبيدر، وبلاطة الكبة وحتى “التملاية” من العين.

 

س 5: بعد هذه المسيرة الطويلة من العطاء، كيف تنظر الى الادب العربي الفلسطيني؟ هل وصل الى حيث يجب ان يصل؟

ج 5: على الواحد منا أن يطمح دائما إلى الأفضل والأجمل، لقد أنجب هذا الشعب، شعبنا العربي الفلسطيني المجروح والمستهدف والصامد، عددا من المبدعين والمبدعات، في الشِعر والنثر، والنقد، والبحث والدراسة، والفن ما نباهي به شعوب الأرض، وإذا لم يصل إلى ما هو أبعد فالذنب ليس ذنبه، لا في مضمونه ولا في إطاره الفنيّ، لماذا نقرأ لأعلام الأدب العالمي؟ لأن هنالك مؤسسات رسمية وشعبية عملت على نشره وترجمته، هذا الأمر ينقصنا. كيف هي صورة العربي عند الأجنبي، عند العدو الفاعل والمتربص؟ حرامي، بشع، جاهل، إرهابي. أدبنا أدب إنساني، جميل، بعيد جدا عن العنصرية، القارئ العادي في بلاد بَرّة لم يصله هذا الأدب الراقي الرفيع. فهل اللوم على الأدب؟ وهل تنقص الموارد المالية؟ عندما يأتي نظام ما، مثلا، ويقدّم لرئيس الولايات المتحدة مئات ملياردات الدولارات! هل هذا “التوزيع” عادل؟ حالنا ينطبق تماما على ما قاله المفكر البريطاني التقدمي “برنارد شو” عن رأسه الأصلع ولحيته الغزيرة: “غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع”!

أقرأ مقطوعات شعرية لشبان وشابات، وكذلك قصصا وخواطر رائعة برأيي الخاص، ومع ذلك أعتقد أنّ هذا الإسراع في إصدار الكتب لا يخدم الشاعر والكاتب، ولا مسيرتنا الأدبية، الطبيعة لا تحب الإجهاض، وكذلك الأدب.

 

  • س 6: يحتدّ النقاش حول النقد والنقاد، منهم من يرى أنّ النقد مقصّر في متابعة ما ينتج، وهناك من يرى أنّ النقد منحاز، وهناك من يعتبر أنّ النقد قد حقّق قفزة نوعية… بناء على تجربتك الخاصة، ماذا تقول في ذلك؟

 

ج 6: مسؤولية الناقد هامة جدا وشائكة، نعم هذا السيل العرم من الإصدارات لا يحوق عليه النقد. وفي نفس الوقت، إنّ نقد كتاب معين لا يعني بالضرورة حصره في الأمر العينيّ، بل هو جزء من نسيج عام، ينطبق على مجال رحب واسع.

هل النقد منحاز!! من الصعب الإجابة على هذا التساؤل وهذا الادعاء. بعض الأدباء يحبّون المديح والإطراء، ويتوجّهون بإلحاح إلى استعراض نتاجهم الأدبي، ويزعلون من أيّة ملاحظة تُوجّه لهم، قد تصل احيانا الى درجة القطيعة، وهذا مخجل وضار، تُشتمّ منه رائحة الذاتية. هنالك نقاد يأخذون هذا الأمر بعين الاعتبار، وهذه خيانة. بناء على تجربتي أقول: لو كان لدينا نقد ونقاد منذ عشرات السنين لكان أدبنا أرقى وأجمل، كان هنالك استعراض أفقي للمادة، على حساب الصورة الفنية والجملة والمفردات.

عندما نتحدث عن النقد فأنا اقصد النقد الجريء النزيه، الذي يحصر رأيه في المادة بغض النظر عن العلاقة بالكاتب، أو حتى معرفته. كان تشيخوف حسّاسا جدا لهذه القضية، مع ميل الى التشجيع، لا يحب المواقف الحادّة، كان نقده ورأيه ناعما، وهكذا كان أدبه، حتى وُجّهت له اتهامات بهذا الخصوص. أنا شخصيا، أفدت كثيرا من ملاحظات النقاد الشفويّة والمنشورة، و”فضحتُ” بعض النقاد الذين اكتفوا بالملاحظة الشفويّة، وكتبت عن ذلك. النقاد كالأدباء، ليسوا في مستوى واحد في القدرة على العطاء، وهذا طبيعي. أدبنا بحاجة الى نقد عمودي وأفقي، في المضمون والإطار، يعتمد على أسس علمية، والإفادة من مجمل المسيرة النقدية للأدب العربي والعالمي، وعندنا نقاد على مستوى رائع من الجرأة والمعرفة والنزاهة والموضوعية. لقد تألمت لأحد النقاد وهو يقول: “جبت وجع الراس لحالي، يا ويلك إن قلت الحقيقة ويا ويلك إن سكت”.  قل الحقيقة وأكمل، ومن يزعل يدق راسه في الحيط، “حجر الحثّان الطري لا يصلح لقدح النار بالزند أو الزناد”.

 

س 7: ما حال الشعر بعد مغادرة محمود درويش وسميح القاسم؟ ماذا ترى؟ وماذا تتوقع؟

ج 7: كنت أقرأ بشهية شعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين وسالم جبران ونايف سليم من ذلك الجيل. وجاء بعدهم جيل آخر، وهم بالعشرات. قلت إنني أرى في بعض القصائد والمقطوعات مستوى راقيا وجميلا، الأمر الذي يدفعني إلى التفكير بأنّ حالة الشعر ستكون مقبولة وجيدة، في ظروف تختلف عن أيام عطاء وشهرة محمود وسميح، هنا وفي العالم العربي. حبّذا لو تصدر مجموعات تشمل أجمل قصائد كتبها هذا الجيل الشاب! حتى محمود وسميح تنكّرا لبعض قصائدهما، خاصة محمود، إذ ليس كل إنتاجهما على مستوى واحد. تجادلت مع محمود درويش الذي بدا كمن يخجل من قصيدته “سجل أنا عربي” وكذلك الأمر مع سميح حول قصيدته “العلَم”.

 

س 8: هل يجب على الأدب أن ينطلق من فكر أيديولوجي؟ ألا تحدّ الأيديولوجيا من عملية الإبداع؟ أم هي رافد داعم؟ ألا تخشى أن تمسّ الأيديولوجيا بفنية النص الإبداعي؟

 

ج 8: الأيديولوجيا أدبيا تعني نقد الطبقية، ومعارضة الاستغلال والاضطهاد، ونبذ الأدران الاجتماعية، وضد استعباد الشعوب والمجموعات والأفراد. الخطر والخطأ إذا وقعنا في شرَك المباشرة والشعارات، وأنا وقعت في هذا الشرك أكثر من مرة، وأنقذني النقد من هذا الخطر. على الأديب أن يمسّ الجانب الايديولوجي مسّا خفيفا لطيفا، ليس فظّا مباشرا. ليس كل أديب بقادر على ذلك، مثل شولوخوف في قصة “إبن حرام”، هناك ذكَر لينين والعلَم الأحمر والكولاك والفقراء بصورة مباشرة خفّفها أسلوبه وموهبته وقدرته وتجربته ومكانته. قرأت قصة رائعة ليوسف ادريس من مجموعة “قاع المدينة”، عن لعبة الأولاد المنقسمين حول تأميم قناة السويس، بين الانجليز والمصريين، وليس كل واحد في قدرة يوسف ادريس.

هنالك نماذج غنيّة ورائعة لكتاب وسط آسيا وشمال سيبيريا والدائرة القطبية الشمالية أعجب لماذا لم تكتسب الشهرة الكافية، ومن هذه الكتب: “مضيق الثلوج والدماء” “الشامان الأبيض”، “حكاية راع”، “أرى الشمس” ديلارام كْنيز “الدم المقدس”… او رائعة مكسيم غوركي “الأم”. الأيديولوجيا – وأعني التقدمية – تعني الالتزام بأسمى القيم الانسانية، والنضال ضد الاضطهاد والعنصرية والاستغلال. ومن مثل شعبنا العربي وأمتنا بحاجة الى هذا الالتزام! لذلك أرى في الايديولوجيا داعما، إذا استطعنا الابتعاد عن المباشرة، وحافظنا على فنيّة النص. قال بليخانوف: الجمال هو ملاءمة الشكل والمضمون.

 

  • س 9: إنّ فضاء القرية لا يغيب عن إبداع محمد نفاع، بل إنّ الدارس ليدرك جيدا أنّ هذه القرية التي تتكرّر ملامحها في مجمل إبداعك هي قرية فلاحية جليليّة، ألا ترى أنّ ذلك الحصر قد يقف عائقا أمام القارئ العربي من خارج فلسطين؟ أم أنّ فضاء هذه القرية بالتحديد هو الذي يتيح لك أن تحلّق أكثر؟

ج 9: أنا ابن قرية جليليّة فلاحيّة، وابن لأسرة فلاحية، وكل الجليل الأعلى، عبارة عن قرى فلاحية، نحن بعيدون عن المدينة، وأنا أحب جو وأفق ونمط الحياة في القرية. عُرض عليّ، بحكم عملي، السكن في مدينة حيفا، رفضت. الجليل منطقة خلابة، فيها التنوع الطبيعي: سهل ومرج وجبال وتلال ووديان ووعر ووحوش وعيون ماء، وعلاقات اجتماعية خاصة. أذكر انني كنت مرة في ضيافة صديق من قرى المرج، حولها سهول من كل الجهات وقال لي: هنا فلاس لا شيء غير الأرض السهلة والزرع والحشيش، أنا أحسدكم على موقع قراكم بما فيها من تنوع طبيعي. زارنا مرة الصديق ابو فوزي نجيب الحكيم من الناصرة، وانغمس في الطبيعة الخلابة وقال: حاسِس حالي في “عاليه” في لبنان، هناك أناشيد وأغنيات عن الضيعة اللبنانية! قمة في الجمال.

كيف اكتب عن بيئة اجتماعية وطبيعية لم أعايشها!! وكيف أنهل من تاريخها وتراثها بحلوه ومُره!؟ أنا أكتب ما ارتاح له، حتى لو اتهمت “بالمحلية”، وهي تهمة صحيحة ومقبولة عليّ، انتَ قلت يا استاذي العزيز عن رواية “فاطمة” انها حققت نجاحا كبيرا. فهل خرجت عن المحليّة؟! وعن بيئة القرية الجليليّة الفلاحية الطبيعية والاجتماعية؟

 

س 10: ماذا ينتظرنا بعد من ابداع، هل ننتظر مجموعة قصصية ام رواية؟

ج 10: هذا سؤال محرج، خاصة وأنه قد أُعلن عن موافقة دور النشر، وبطلب منها، عن “ثلاثة كتب تحت الطبع”، لكن الولادة تعسّرت. يبدو أنّ “تحت الطبع” هي طبقة جيولوجية عميقة. على كل حال آمل ان تصدر هذه الأعمال قريبا وهي: مجموعة “همهمة رياح شرقية”، ومجموعة “الدار”، والجزء الثاني من “جبال الريح”. نشرت في صحيفة “الاتحاد” مواد تكفي لخمس مجموعات قصصية، ومادة لأكثر من ثلاثة اجزاء من “جبال الريح، ذكريات ومذكرات”. وأتابع في نشر حلقات من رواية “ذياب” ستصدر في ثلاثة أجزاء، نُشر منها لغاية الآن عشرون حلقة، وهي الجزء الأول منها، مع مسوّدات لقصص قصيرة ومتوسطة الطول. أما حلقات “جبل قاف” فيبدو أنّي لن أنشرها في كتاب.

في العقد الاخير كتبت بغزارة، أقول من ناحية الكمّ. امّا الكيف فالحُكم ليس لي، بل للقارئ والناقد، لكنّي لن أضع مادة جديدة للإصدار قبل نشر ما تأخّر صدوره حتى اليوم، لا يعود السبب في تعسّر الإصدار لفيروس التاجي أو الكورونا الذي حرمني من لقاء الطلاب. فقد كنت قبلها ألتقي عددا كبيرا من طلاب المدارس، من النقب إلى المثلث والكرمل والناصرة أم الجليل، وقرى البطوف والجليل. وقد أفدتُ من ملاحظات المربيات والمربين والطلاب؛ قدّمت محاضرة في مدرسة عرابة الثانوية، لحقتني طالبة وقالت وقّف!! حاجي تكتب!! بلا كثر غلَبِه، أقعد عاد، انتِ بتكتِب وأنا بعلق في الامتحان!! كانت تقصد قصة “مختار السمّوعي” التي تدرّس في المدارس العربية. أما في المدارس “الدرزية” فهي محظورة لأن فيها سياسة المدارس الدرزية التي اكتفت بتدريس قصة “الله أعطى والله أخذ” البعيدة، برأي المسؤولين، عن السياسة!!

 

  • نشر هذا الحوار في كتاب “حوارات في الفكر والأدب” الذي صدر حديثا (2021) عن الدار الأهلية في عمان.

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*