دراسة تحليليّة لقصيدة قمصان يوسف للشّاعر شوقي بزيع – سامي مهنّا

قمصان يوسف

–  قميص التجربة-

قبَّرات الحقول،
تقافُزُ قلب الثّعالبِ
حول الينابيع،
نومُ النّمالِ الطّويلِ
على طرقات الشّتاء،
عراكُ المجرَّات
من أجل نجمٍ تغازله الشّمسُ
من خلف ظهر الفَلَكْ
كلّها الآن تسجدُ لكْ
كلّها الآنَ تجثو على قدميك الإلهيّتين،
ميّممةً شطرَ أهدابك السّود،
مسرعةً كي تقبّلَ ثغر الهلال الّذي قبَّلكْ
الّذي قبّلكَ
ولكنَّ سَرّكَ في أن تكون جديرًا بسحرك
في أن تخضَّ المياه التي سكنتها الشّياطينُ
كي تستعيد البراءةَ،
أو تستعيد بجذع اختياركَ
من حاسدٍ حسدكْ
وسرُّك في أن تعود إلى نقطة الصّفرِ
كيما ترى جسدكْ
نظيفًا كجوهرةٍ في العراء
وكيما تخلِّص نرجسك المتوجّسَ من نفسه،
لا تصدّقْ جمالَكَ
صدِّق ظلالكَ فوق الجدار
وغص نحو وحل الحقيقةِ كيما تجدِّدَ
ما قوَّض الطّين فيك
فهذا الزّمانُ الّذي برّأ الذئبَ
من شبهة الدم
فوق قميصكَ
ليس زمانكْ
وهذا الحصان الذي لم تخنْ
برقَه المتردّد
خانكْ
وإخوتك اتحدوا مع قميصكَ
ضدَّ دموع أبيك
فلا تتعلّق بدلو الأمانِ
الذي انتحلوه لكي يخدعوكَ
تَوَقَّ أحابيلهم
وابتكر من خيوط الهلاك حبالكْ
دع قميصك للذئب
كي تنتهي عاريًا مثلما كنتَ
واهبط إلى آخر البئرِ
كي تستحقَّ جمالكْ

 

 

قميص الشّهوة

حين عدتُ من البئرِ
أحسستُ أنّي أعودُ غريبًا
كمن مسَّه
من نسيم الألوهة
برقٌ خفيفُ
يباعدني عن يديَّ ملاكانِ
لا يبصرانِ سوى شبحي فيهما
وتسبح صحراءُ من خجلٍ
في عروقي
ولكنني منذ أبصرتها
ضاق صدريَ بي
فأسلمتُ خوفَ أبي للذّئاب
ولحيته للرّياحِ
وأحسستُ أنّي سوايَ
وقد راح يركضُ في خرز الظّهرِ
ماءٌ كفيفُ
وإذ راودتني زليخةُ
عن جنّتي شفتيها
انشطرتُ
وراح الملاكان يقتتلان
على كتفيَّ الثّقيلين
فيما براكين حمراءُ كانت
تمزِّقُ أقفالَها
وتهرول تحت ثيابي
وما بين كفيَّ جمرٌ يطوفُ
كأنَّ دمي ملعبٌ للوساوسِ
بعضي يحاربُ بعضي
وتشهرني
ضد نفسي السّيوفُ
ليس بيني وبين زليخةَ
إلا قميصانِ من عفةٍ وتَشَهًّ،
كأن الصّراع المؤبّد
ما بين إبليس والله
قد ضاق
حتى غدا بحدود القميصينِ،
أيّهما الآن أختارُ؟
عدتُ من لجّةِ البئر
كي لا أعود إلى البئر ثانيةْ،
غيرَ أنّ فحيح الأنوثةِ يشتدُّ حول خناقي
وجسمي ضعيفُ
كان لا بدّ أن ينقذ الله صورته فيَّ
فلما هممتُ

وهمّتْ
تدلّت مراياهُ من خشب السّقفِ
حتى حسبتُ بأني أعانق نفسي
وأن زليخةَ ليست سوى
صرخةِ الإثم في داخلي
فاستدرتُ إلى الخلف
أعدو وراء جمالي
ويعدو ورائي
نباحُ الدّماء المخيفُ!

– قميص الرؤية

تدور الكواكب من دون يوسف
من دونه يتراكض آذارُ
بين الشّهورِ
ليجبي شقائقه من دم الورد،
من دونه
يلطم الموجُ صومعةَ الانتظارِ
المضاءةَ في قلب يعقوب،
كان يوسفُ أعذب من نجمةٍ
تتزيّنُ للموت،
أطول من سروةٍ
بين نهرين،
والقمح كان يدلُّ على شعره
كلّما هبَّت الرّيحُ
والحزنُ كان يسابقُ عينيه
نحو دموع السّفرجلِ
أجمل أخوته كان
أشبههم خلقةً بنحيب الثّلوجِ
على قمرٍ في حداد
لذلك خبأْتُه في حنايايَ
دثّرتُه بقميص الوفاء الملّون
من دونهم
كي يضلّلَ هذا الهياج السّماويَّ
عن فتنة الخلق،
قلتُ له: يا بنيَّ
ستبصرُ أشياء لم ترها العينُ،
سوف تَشُقُّ لك الأرض أحشاءها
كي ترى سوأة الطّين،
والزّرع يركضُ أعمى
أمام جراد النّهاياتِ،
والماء يصعدُ نحو الينابيع
مرُّ المذاق،
ولن يرث العشب
عشبٌ سواه
سترى الشّمس خاشعةً
والكواكب ساجدةً تحت رجليكَ
فاكتم عن النّاس رؤياك
كي لا تشمَّ الذئابُ
التي تتقمصُ أرواحهمْ
ما تراه
لماذا، إذن لم يُصخْ
لصراخ المرايا التي انشقَّ عنها تورّد خدّيه،
وانحاز للذّئب
ضدَّ وصايا الإلهْ
تدور الكواكبُ من دون يوسفَ،
لا البئر عادت به
معْ خيول الشّتاء
ولا الرّيح تحملُ
نحو أبيه الّذي شاخَ
وقع خطاه ..
ولكنَّ باقة عطرٍ
تهبُّ على بيت يعقوب
حاملةً مع قميص ابنه
نجمتين اثنتين،
تصبَّان في بئر عينيه
ضوءها المشتهى
وتعيدانه من عماهْ

 

 

 

 

مقدّمة:

يعدّ الشّاعر اللّبنانيّ شوقي بزيع أحد الأوجه المضيئة في الشّعر العربيّ المعاصر.

ويمكننا أن نكتشف عند قراءته أنّه من الشّعراء الّذين تنسجم قصائدهم مع مقوّمات الجماليّة الجديدة في الشّعر العربيّ، كما عبّر عنها الكثيرون من النقّاد والشّعراء والباحثين، ومنهم أدونيس.

إنّ شوقي بزيع يمتلك أدواته الشّعرية المائزة، وقدرته الإبداعيّة التّخيّليّة الخلاّقة في ارتياد فضاءات رؤيويّة، وتشكيليّة مبتكرة، تملك ألقها وتوتّرها وتحليقها الجماليّ الفذّ في عالم الدّهشة والابهار، والامتاع الفنيّ، ناهيك عن زخم المرجعيّات والايديولوجيّات والخلفيّات التّراثيّة الّتي تتفتّق في شعره، مغيّرة مساراتها الدّلاليّة، دون أن تقف على حقيقة واحدة، أو مرجعيّة رؤيويّة دقيقة، ترتكز عليها لتسم شعره، وتوجزه- بعبارة أو مقاس تقييميّ دقيق سوى القول- إنّها   تنطوي على الصّدمة الشّعريّة وأناقة الفنّ الشّعريّ الأصيل، وطاقته الفنيّة الجماليّة الخلاّقة، الّتي يمتلكها في تشكيل قصائده وتأكيد أحقيّتها وغناها الجماليّ. (1)

ولشوقي بزيع أيضًا آراء عديدة حول الحداثة، عبّر عنها في كتبه النّثريّة، وهي: أبواب خلفيّة 2005، هجرة الكلمات 2008، وفي لقاءات صحافيّة، ومقالات عديدة له، عبّر فيها عن مواقفه المتعلّقة بالشّعر والحداثة، يقول بزيع: عندما تكون الرّؤية موجودة تعصم القصيدة من التّشتّت والتّشظّي والتّحوّل إلى مجرّد قصاصات تعبيريّة مبهمة لا تصل إلى شيء، أنا الآن أدعو الشّاعر لكي يكون فيلسوفًا، ولا أقصد الفلسفة الشّعريّة، ولكن عليه أن يكون رائيًا، وعليه أن يستشرف وعليه أن يقبض على نبض زمنه وعصره والواقع المحيط به. (2)

وفي هذا السّياق يقول أدونيس: شعر دانتي وشكسبير وغوته، ليس انفعالاً وعاطفةً وشعورًا، وحسب، وإنّما هو هذا كلّه وشيء آخر. هذا الشّيء الآخر هو ما يمكن أن نسمّيه الفلسفة، فهؤلاء الشّعراء عبّروا خلال عواطفهم وانفعالاتهم، عن العالم. كان لهم، بمعنى آخر، رأي في العالم وموقف منه- كانت لهم فلسفة. غير أنّ هذه الفلسفة لم تكن مذهبًا. أي أنّها لا تقدّم لنا العالم في مجموعة من العلاقات المنطقيّة والعقليّة، بل تقدّمه في توهّج الحدس والرّؤيا. (3)

ونستطيع القول، إنّ شعر شوقي بزيع بغالبيّته، ولا سيّما بمراحله المتقدّمة، ينسجم مع هذا الرّأي

وغيره من مقوّمات الرّؤية الحداثيّة الجديدة للشّعر، والّتي سوف نستشهد ببعضها خلال هذا البحث القصير، ونستطيع أن نرى أيضًا أنّ القصيدة “قمصان يوسف” الّتي هي موضع بحثنا، تشكّل نموذجًا عاليًا لهذه المقوّمات.

 

 

 

تعريف عامّ بالشّاعر:

شاعر لبناني معاصر ولد في الجنوب اللّبنانيّ، عام 1951. لديه عشرات المؤلّفات في الشّعر والنّثر، فضلا عن مقالاته النّقديّة والأدبيّة والثّقافيّة والفكريّة،  حاز على جائزة شاعر عكاظ في العام 2010، وجائزة العويس الثّقافيّة عام 2015.

كما حاز على وسام كمال جنبلاط عام 2010، ووسام فلسطين عام2017،  وجائزة “الشّرف الخاصّة” ضمن جائزة محمود درويش للثّقافة والإبداع في 13 آذار2020 .

انتسب شوقي بزيع إلى منظّمة العمل الشّيوعيّ بين عامي 1968 و1972، وغادرها لأسباب يقول إنّها «إبداعيّة، نتيجة البعد الشّوفينيّ السّتالينيّ عند بعض المنظّمات الماركسيّة، والأحزاب.  عمل بزيع بالتّدريس، ومن ثمّ في الصّحافة الثّقافيّة، ورأس القسم الثّقافيّ في جريدة السّفير 1992. أعدّ برامج إذاعيّة متنوّعة في عدد من الإذاعات اللّبنانيّة الرّسميّة والخاصّة كإذاعة صوت لبنان العربيّ الّتي واكب عبرها الاجتياح الإسرائيليّ للبنان سنة 1982، وساهم بقصائده في التّحفيز على الصّمود ابان الحصار الإسرائيليّ للعاصمة اللّبنانيّة بيروت طيلة ما يقارب 3 أشهر. نشر أعماله الشّعريّة الكاملة، في جزأين عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر في بيروت في العام 2005، وله أكثر من ثلاث وعشرين مجموعة شعريّة، وثلاثة كتب نثريّة.

كذلك شكّلت بعض مجموعاته الشّعريّة، محطّات أساسيّة في شعره مثل: “قمصان يوسف” و”سراب المثنى”.

كتبت النّاقدة زهيدة درويش جبّور في المجلّد الأوّل من أعمال شوقي بزيع الشّعريّة:

“لو أردنا أن نصف تجربة شوقي بزيع الإبداعيّة بكلمة واحدة، لما وجدنا أفضل من النّهر، فحركته متجدّدة دائمة وماؤه واحد لا يتغيّر”.

 

تحليل عامّ للقصيدة:

القصيدة بمحورها العامّ، هي استحضار وتوظيف لقصّة النبيّ يوسف، كما وردت في سورة يوسف في القرآن، وبتناصٍ واضح مع السّورة القرآنيّة.

وقد وردت هذه القصيدة في ديوان: “قمصان يوسف” الّذي صدر عام 1996، عن دار الآداب اللّبنانيّة، وقد سمّى الشّاعر المجموعة الشّعريّة بمسمّى عنوان القصيدة، ممّا يشير إلى أنّ الشّاعر يرى أنّ هذه القصيدة تحديدًا هي القصيدة الأهمّ في مجموعته، أو أنّه يتماهى معها بشكل خاصّ.

وقصّة يوسف، واحدة من أكثـر القصـص القرآنـيّة حضوراً في الشّعر العربيّ الحديث، ولعلّ ذلك عائد إلى ورودها المسـتقلّ والمتكامـل فـي موضع واحد هو (سورة يوسف) حيث احتلت قصّته، سورة كاملـة فـي القـرآن، الأمر الذي يجعل تلقّيها، والإحاطة بتفصيلاتها، وثيماتها ورموزها، أقلّ عناءً مـن سواها الّتي توزّعت في مواضع مختلفة في القرآن الكريم، وعلى أكثر من سورة. أمّا الذّئب، والجبّ، ورؤيا الملك، وامرأة العزيز … فكلّها رموز استثمرها شعراء الحداثـة، وصاغوا نصوصهم بها، وعلى ضوء من دلالاتها القرآنية، الّتي حملت رؤاهم، وعبّـرت عن تجاربهم؛ ونأت بها وبهم عن اللّغة المباشرة والعرض المكشوف، تاركين للّغـة حريـة الحركة خارج ذواتهم، وزمانهم، وتجاربهم الشّخصيّة، الّتي أخفوها تحت أديم نصوصـهم، وبين أسطرها، وتحت ظلال رموزها. (4)

ونرى أنّ في القصيدة تناص واضح ومباشر مع سورة يوسف في القرآن، وسنأتي على تحديد هذا التّناص لاحقاً.

التّناص بتعريف عامّ:

قد وضح مفهوم التّناص العالم الروسيّ ميخائيل باختين، ) Mikhail Bakhtin1895 -1975). ممن خلال كتابه (فلسفة اللّغة) وعرّف باختين التّناص بأنّه: (الوقوف على حقيقة التّفاعل الواقع في النّصوص في استعادتها أو محاكاتها لنصوص أو لأجزاء من نصوص سابقة عليها)، وقد أفاد منه بعد ذلك العديد من البّاحثين، حتّى استوى مفهوم التّناص بشكل تامّ على يد تلميذة باختين البّاحثة جوليا كرستيفا) Julia Kristeva ولدت عام: 1941)، وقد أجرت كرستيفا استعمالات إجرائية وتطبيقية للتّناص في دراستها (ثورة اللّغة الشّعريّة) وعرّفت فيها التّناص بأنّه (التّفاعل النّصيّ في نصّ بعينه) كما ترى جوليا أنّ (كلّ نصّ يتشكّل من تركيبة فسيفسائيّة من الاستشهادات، وكلّ نصّ هو امتصاص أو تحويل لنصوص أخرى). (5)

ونستطيع أن نعتبر هذا النّوع من التّناص في هذه القصيدة، بالنّصيّة الواسعة الّتي تشكّل علاقة الاشتقاق بين النّصّ (الأصليّ/القديم) والنّصّ (الواسع/الجديد).

وعنوان القصيدة “قمصان يوسف” يشير بتناصه إلى قميص يوسف الملوّن الّذي أهداه إيّاه أبوه يعقوب، والّذي أدّى لحسد أخوته، بموجب القصّة التّوراتيّة، والّتي أعاده إخوة يوسف إلى أبيهم يعقوب، ملطّخًا بالدّماء، مدّعيين أنّ الذّئب أكل أخاهم يوسف، فشكّل هذا القميص نقمة على يوسف ويعقوب، الّذي أصيب بالعماء جرّاء بكائه المرير على يوسف، ولكنّ قميص يوسف الّذي جاء به أبناؤه إليه بعد لقائه في مصر، أعاد إليه بصره، والقميص الآخر من قمصان يوسف هو الّذي (قُدّ من دبرٍ)، في قصّته مع زليخة زوجة عزيز مصر. ولذلك أطلق شوقي بزيع على قصيدته اسم “قمصان يوسف”، فللقمصان المتعدّدة في قصة يوسف، دلالات مختلفة ومتنوّعة.

وتتكوّن القصيدة من ثلاثة مقاطع، ويتصدّر كلّ مقطع بعنوان لقميص مختلف من “قمصان يوسف”، وهم: قميص التّجربة، قميص الشّهوة، وقميص الرّؤية. وهذه القمصان الثّلاثة توازي القمصان الثّلاثة في قصّة يوسف التّوراتيّة والقرآنيّة، كما ذكرتها في الفقرة السّابقة.

المقطع الأوّل، “قميص التّجربة“: يخاطب الشّاعر في هذا المقطع يوسف، عبر سرديّة رؤاه النّبوئية، وفعل أخوته الحاسدين معه، فإلقائه في البّئر، وتلطيخ قميصه بدم الشّاة، كي يعيدوه إلى أبيه دليلاً على موته، متّهمين الذّئب بافتراسه. وقد سمّى الشّاعر هذا المقطع، بقميص التّجربة، كون يوسف، مرّ بمحنته الأولى الكبيرة، بفعل اخوته. ويبدأ المقطع بما يتعدّى سجود الشّمس والقمر وأحد عشر كوكبًا له، كما رأى بحلمه الرؤيويّ، بموجب القصّة الأصل، فيضع الشّاعر القبّرات وقلب الثّعالب، ونوم النّمل في الشّتاء، بموازاة الشّمس والكواكب في عمليّة السّجود.  ممّا يجعل القصيدة تنسجم مع فكرة: “وحدة الوجود”.

ويدعو الشّاعر يوسف، أو قناعه هو نفسه، المتخفّي في ظلال يوسف، أو أيّ حالة رمزيّة يشير إليها، بالعودة إلى نقطة الصّفر، وهي نقطة البراءة، قبل خيانة الإخوة، ولكي يخلّص نفسه من (نرجسه المتوجّس من نفسه)، ويذهب هنا الشّاعر إلى تناص آخر مع أسطورة نركيس، المعروفة، الّذي كان منبهرًا بجماله الّذي أغرقه في النّهر، فيوسف أيضًا معروف بجماله العظيم بموجب الرّوايات. وشطر: لا تصدّق جمالك/ صدّق ظلالك فوق الجدار، هي تناص مع قصّة أفلاطون (المثل) في كتاب الجمهورية. ولكّن الشّاعر يعكس مدارك الحقيقة، فيجعل الظلال الحقيقة الّتي يجب تصديقها، لأنّ الوهم في حالات المأساة، هو راحة للنّفس، والحقيقة هي الألم، فالحقيقة هي خيانة الأخوة، ويَنهي الشّاعر يوسف من أيّ تعلّق بوهم الأخوّة، ويدعوه للهبوط إلى هاوية البئر، كي يستقلّ ويتفرّد بانقطاع كامل، فيستحق جماله.

المقطع الثّاني، “قميص الشّهوة“: ينتقل الشّاعر في هذا المقطع إلى قصّة يوسف مع زليخة زوجة عزيز مصر، الّتي أحبّته لجماله، وحين عصاها اتهمته أنّه حاول الاعتداء عليها، وقد برّأه قميصه الّذي قُدّ من دبر، إي من خلاف، بموجب القصّة القرآنيّة.

يصف الشّاعر في بداية المقطع يوسف (أو نفسه بقناع يوسف)، بعيدًا عن الشّهوات الحسيّة، ويراوده الخجل ” وتسبح صحراءُ من خجلٍ في عروقي“، ويعزو هذا الخجل وهذه العفّة، إلى برق إلهيّ مسّه، وإلى كونه خرج من البئر غريبًا، وإلى تربية أبيه، كثلاثة مؤّثرات على نفسيته، وقد تكون هذه المؤّثرات هي المؤّثرات القويّة على نفسيّة وسلوك الإنسان، (الدّينيّة، التّربويّة، والظروف).

لكنّه منذ أبصر زليخة، (زوجة عزيز مصر)، اهتزّت هذه المؤّثّرات، فهو يسلّم خوف أبيه للذّئاب، ولحيته للرّياح، إي أنّه يتحّرر من سلطة الأب وقيم سلطته، ويشعر بعد الاهتزاز بالانشطار، بين نفسيته القديمة والمستجدّة، ” بعضي يحاربُ بعضي /وتشهرني ضدّ نفسي السّيوفُ“.

ويذهب الشّاعر هنا إلى المؤثّر الدينيّ الذي تغلّب ما يجول بنفسه ورغباته عليه فيقول:

“كأن الصّراع المؤبّد ما بين إبليس والله قد ضاق حتّى غدا بحدود القميصين” والقميصان هنا

قميص العفّة والشّهوة كما يصفهما. والصّراع بين الله والشّيطان يضيق في نفسه، أي أنّ النّزعتين المتضادتين توشكا أن تتصالحا.  لكنّه لمّا (همّ وهمّت)، أي همّ بها وهمّت به، عند التقاء المشاعر والشّهوات، في لحظه الضّعف،  أسدل الله من السقف مراياه، وهي ( بُرْهَان رَبِّهِ) كما ورد في الآية القرآنيّة، فأحسّ أنّه يعانق نفسه، ويعدو وراء جمالها، متحرّرًا من اثم الشّهوة، وهذه فكرة صوفيّة، وهي فكرة الحلول، الّتي من أبرز أعلامها المتصوّفين الحلاّج، وتذكّرنا مرّةً أخرى أيضًا  بأسطورة نركيس الّذي كان يعشق جماله، ويتوحّد يوسف والله وزليخة الّتي يراها الإثم الّذي في داخله، واثمه الآخر هو حزن أبيه بفقدانه، رغم أنّه غير مذنب إلاّ أنّه يشعر بالتّوجّس من جماله، وحبّ أبيه المختلف له، وبذلك بدأ يشعر بعقدة الذّنب، كون جماله وحبّ أبيه له، أدّى إلى حسد اخوته، ويعبّر عنه في جملة ختام المقطع ” أعدو وراء جمالي/ ويعدو ورائي نباحُ الدّماء المخيفُ”. ونستطيع أن نطبّق على هذه الحالة السّيكولوجيّة ما يسمى بعلم النّفس “عقدة بوليكرات”، فالأسطورة تقول إنَ أمازيس المصريّ زار بوليكرات حاكم ساموس وحذّرَهُ من غيرةِ الآلهة إن لم يُضَّحِ بشيءٍ ثمين، فرمى خاتمهُ وهو أعزُّ ما يملك في البحر، إلاّ أنّهُ وجدَ خاتمهُ داخل سمكة وهو يتناول غذاءهُ. ويقول فرويد إنَّ خوف بوليكرات من عقاب الآلهة ليس إلاّ خوفهُ هو نفسهُ من مشاعر كبتٍ لا شعوريّة تجعلهُ يعاقب نفسهُ، وقد عصى آدمٌ أمرَ ربّهِ حين أكل التفّاحةَ فلاحقهُ الندم، وآدم بمثابة الابن بالنسبة إلى الله، وعندما يتحقّق النّجاح لهؤلاء تستيقظ عندهم مشاعر الذّنب ويُصابون بما يُسمّى “عقدة بوليكرات”. (6) وهنا استيقظت عقدة الذّنب عند يوسف بعد أن همّ بزليخة وهمّت به، فهرب منها ومن عقدة ذنبه، وهرب من صورة الله الّتي رآها في مرآته.

المقطع الثّالث، قميص الرؤية هو مقطع الرّؤى والنّبوءة، الّذي يلخّص حياة يوسف، وينتهي بعودة بصر يعقوب.:

في هذا المقطع يتحدّث يعقوب عن يوسف (يتقمّص الشّاعر نفسية يعقوب)، فيصف يوسف بجماله وكماله، ويصف خوفه عليه منذ صغره، ووصيّته ألا يبوح برؤاه حول سجود الشّمس والقمر والكواكب له، خوفًا عليه، من الحسد الّذي قد يؤدّي إلى ايذائه، لكن عودة يوسف من (الموت) المعلن كما اعتقد ابوه، أعاد البّصر والبّصيرة ليعقوب.

ومن الجدير تنويهه، أن قصيدة قمصان يوسف على البحر المتدارك، الّذي يدمج تفعيلات الخبب، (فعِلن، فاعل) مع التفعيلة الكاملة، (فاعلن)، وعلى بحر المتقارب (فعولن)، في المقطع الأخير. لكنّه اعتمد فيها تقنيّة التّدوير، بحيث يتحوّل البحر إن لم تقرأ القصيدة بنفس واحد، إلى تفعيلة المتدارك (فاعلن)، ممّا يجعل القصيدة مختلطة الوزن ايقاعيًا، رغم أنّها موحدّة الوزن فعليًا.

 

السّرد القصصيّ في القصيدة:

في القصيدة سردٌ قصصيٌّ يروي قصّة النبيّ يوسف، ولكن بلغة شاعرية عالية ومعانٍ جديدة، وتحويل كبير للقصّة الأصليّة مع الحفاظ على أحداثها الرئيسيّة، ممّا يجعل هذه القصيدة حداثيّة من الطراز الرّفيع، رغم تحاورها مع قصّة من التّراث الدينيّ والانسانيّ القديم، وفي هذا السّياق يقول أدونيس: الشّاعر الجديد، فارس ينتشل الكلمات من الغدير الّذي غرقت فيه، ينسلها كلمةً

كلمة من نسيجها القديم، يخيطها كلمة كلمة في نسيج جديد. إذ يفعل ذلك يفرغها من شحنتها القديمة- من دلالاتها وتداعياتها، يملؤها بشحنة جديدة، تصبح لغةً ثانية لا عهد لنا بها. اللّغة الشّعريّة الجديدة هي إذن اللّغة المغسولة من صدأ الاستخدام الشّائع الجاري. إنّها نوع من العودة إلى البراءة الأولى في الكلمات. (7) وهذا تمامًا ما فعله شوقي بزيع في هذه القصيدة. وهذا الأسوب يعطي المتلقّي مساحة أوسع للتأويل والمشاركة بصناعة المعنى حسب ثقافته وقدراته الشّخصية وتخيّلاته العاطفيّة، فهذا النّوع من الشّعر مفتوح على إمكانات التّفسير والتأويل المتنوّعين، ويمكّن المتلّقي بالمشاركة عبر اشتقاق وإبداع معاني جديدة، ملهمة ومولّدة.

إنّ الحدث الشّعري لا يكتسب أهميته القصوى- إلاّ من خلال الحبكة الشّعريّة والنّسج الجماليّ الإبداعيّ الخصيب، والتّلوين في توصيف الحدث بين الرّشاقة، والسّلاسة، والانتقال السّريع من حدث إلى آخر، ومن مشهد دراماتيكي إلى آخر حيناً، وبين الرّطانة، والاستغراق والتّمطيط حيناً آخر، تبعاً للموقف الشّعوري، ودرجة تمثيله شعريّاً، وتبعاً لهذا، فإن الشّاعر المبدع: “يقوم بتحويل أدوات القصّ إلى أدوات شعريّة، تستغلّ إمكانات البّناء القصصيّ للتّعبير عن المعاني الشّعريّة ذات الأبعاد المختلفة من خلال استخدام التّفصيلات المثيرة التي تتفاعل مع إيقاعات اللّغة، لتكفل لها الدّلالات الموحية. وهكذا، يعدّ الأسلوب القصصيّ أداة تعبيريّة، ووسيلة بنائية تقوم على أساس تجسيد الشّخصيّة المتنامية الّتي تفضي إلى أحدات منتظمة، وها هنا، يشترط أن تعبّر الشّخصيّة عن مواقفها الّتي تناسبها دون تدخّل من الشّاعر، فالشّخصيّة هي الّتي تسيّر الأحداث، وتنظّمها، وفقاً لحركتها المتنامية، وفي الوقت نفسه يمكن للأسلوب القصصيّ أن يقوم على أساس الحدث، وهو الحركة الدّاخلية في النصّ الشّعري الّتي تتنامى بحيث تدور الشّخصيّات في فلكه لتعبّر عنه. (8)

إن شوقي بزيع ابتدأ قصيدته (قمصان يوسف) بداية سرديّة وصفيّة لا تخرج عن نطاق ما اعتدنا عليه في مثل هذه القصائد من وصف للمكان، والبيئة، وصفاً فوتوغرافيّاً دقيقاً، وهذا الوصف

تدرّجي أو تدريجيّ (تمهيديّ) يرمي من ورائه الشّاعر توتير الحدث بالتّدريج لا إشعاله فجأة على

شاكلة الشّعراء القدامى خاصّة شعراء المعلّقات في العصر الجاهليّ، ودليلنا أنّ الشّاعر بدأ

توصيفاته السّرديّة بتمهيد وصفيّ (فوتوغرافيّ- مكانيّ) للدّخول في شرنقة الرّؤية، ومحمولاتها الإيحائيّة، كما في البّداية السّرديّة للقصيدة. (9)

ومن ناحيّة سرديّة نجد في المقطع الأّول من القصيدة، أنّ (الرّاوي) أو المتكلّم هو الشّاعر نفسه،

وفي المقطع الثّاني المتكلّم هو يوسف، أمّا في المقطع الثّالث فإنّ المتكلّم هو يعقوب. وهذه الأدوار المتنوّعة في السّرد ليست عبثيّةً، فالشّاعر يتحدّث بشكل بانوراميّ وشموليّ عن يوسف من خلال اطلالةٍ وارتباط متعمّق بتجربته، مع اخوته، ولذلك سمّى المقطع “قميص التّجربة”، ولكنّه عندما تحدّث عن تجربة يوسف وزليخة، بمقطع “قميص الشّهوة”، نراه يتحدّث بلسان يوسف نفسه، لكي يعطي هذا المقطع الّذي تجيش فيه العاطفة، والصّراع النفسيّ والنبوءة، زخمًا وتكثيفًا أكبر عبر لسان يوسف كمتكلّم ، فوصف نفسية يوسف وتوجّساته وصراعه الداخليّ وآية ربّه الّتي ظهرت له، لا تتّم بالقوّة ذاتها لو سردها الشّاعر كمتكّلم خارجيّ.

أمّا المقطع الثّالث فقد جاء عن لسان يعقوب، ليعبّر بأقوى ما يمكن عن صفات يوسف وحبّه الاستثنائيّ له، وفقدانه، ونهاية الفاجعة، بلقائهما المتجدّد، ولا يمكن أن يعبّر الشّاعر عن هذه العاطفة بلسان أفضل من لسان وقلب يعقوب، لذلك نجد أنّ الشّاعر قد أصاب بتنويع شخصيّات السّرد، وكان هو نفسه من بينهم، ممّا أعطى القصيدة بعدًا متّصلاً مع روح الشّاعر نفسه ورؤيته، الأمر الّذي يترك المجال الأوسع لفكرة القناع في هذه القصيدة.

في القصيدة سرد لقصّة يوسف، لكنّه سرد غير تقليديّ، وغير أفقيّ من ناحية تراتبيّة، وينمج مع نظريّة الحساسيّة الجديدة في الأدب العربيّ، وفي هذا السّياق يقول أدوار الخراط: الحساسيّة الجديدة هي كسر التّرتيب السّرديّ الاطّرادي، فكّ العقدة التّقليديّة، الغوص إلى الدّاخل لا التّعلّق بالظّاهر، تحطيم سلسلة الزّمن السّائر في خطٍّ مستقيم، تراتب الأفعال: المضارع والماضي والمحتمل معًا، وتهديد بنية اللّغة المكرّسة، ورميها نهائيًّا خارج متاحف القواميس، توسيع دلالة “الواقع” لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشّعر. (10)

ونرى في هذه القصيدة كسر الترتيب السّردي الاطّرادي، رغم أن المقاطع الثّلاث، من ناحية سردية، فيها تتابع للأحداث، إلاّ أنّها تكسر الأزمنة من داخلها، وأشير لهذا المقطع من القصيدة كمثال: وسرُّك في أن تعود إلى نقطة الصّفرِ /كيما ترى جسدكْ /نظيفًا كجوهرةٍ في العراء

وكيما تخلِّص نرجسك المتوجّسَ من نفسه.

وفي القصيدة أيضًا غوص إلى الداخل، فالشّاعر يغوص في نفسيّة يوسف ويعقوب، ويغوص في

أعماق الحالة في القصّة، ويغوص أيضًا في أعماق وأبعادٍ متجاوزةٍ للقصّة الأصل، تتداخل فيها

سيكولوجيّة الشّخصيات، ووصف متعمّق للأحداث، يضاف إليه رؤية الشّاعر نفسه بدعواه

ليوسف ألاّ يصدّق جماله، بل ظلاله على الجدار (التّي تطرّقت إليها سابقًا)، والغوص إلى

آخر الهاوية، كي يقطع الصّلة النفسيّة مع زمانه الأوّل، الخ…

وفي القصيدة أيضًا تحطيم لتراكب الأفعال، في بعض مقاطع القصيدة، وهذا المقطع كمثال:

وإذ راودتني زليخةُ/ عن جنّتي شفتيها /انشطرتُ

وراح الملاكان يقتتلان/ على كتفيَّ الثّقيلين

وفي القصيدة يتجلّى بشكل واضح توسيع دلالة “الواقع” وفي هذه الحالة، القصّة المعروفة، وبذلك أصبحت القصة الأصليّة عبر القصيدة، أكثر شاعريّة في تحولاتّها الشعريّة المولّدة.

ونستطيع أيضًا أن نربط القمصان بنظريّة التّقمّص، الّذي يجسّد التّجدّد والتّجديد، ومدار التّحوّلات، ولا شكّ أنّ موضوع الخلود عبر التّجدّد والانبعاث يشغل الشّاعر، فالشّاعر يرى البدايات الجديدة في كلّ شيء، حتّى في الموت. وقصّة يوسف، من أقوى نماذج الانبعاث من رماد المأساة، إلى تجدّد الآفاق، فقد قام من بئره وسجنه وجميع منافيه مجسّدًا أسطورة العنقاء مجازًا، ممّا يجعل من قصّته، مادّة خصبةً لهاجس الانبعاث والتّجدد.

 

 

القناع في القصيدة:

غالبًا ما يتمثّل رمز القناع في شخصيّة من الشّخصيات، تنطق القصيدة صوتها، وتقدّمها تقديمَا متميّزًا يكشف عالم هذه الشخصيّة في مواقفها أو هواجسها أو تأملاتها أو علاقاتها. فتسيطر هذه الشّخصية على “قصيدة القناع” وتتحدث بضمير المتكلّم، إلى درجة يخيّل إلينا معها أنّنا نستمع إلى صوت الشّخصيّة. ولكنّنا ندرك شيئًا فشيئًا، إنّها ليست سوى قناع ينطق الشّاعر من خلاله. فيتجاوب صوت الشّخصيّة المباشر مع صوت الشّاعر الضّمني تجاوبًا يصل بنا إلى معنى القناع في القصيدة. (11) وأعتقد كما هو الرأي الرّاجح، أنّ شخصيات الشّعراء عامّةً ولا سيّما في الشّعر الحديث، تشكّل قناعًا لكاتب القصيدة، إذ لا يمكن لأيّ شاعر أن يكتب عن شخصيةٍ لا يتماهى معها، أو لا يحاول نقضها، فالشّاعر لا يكتب أبدًا من مساحة الحياد، فكرًا وشعورًا ووجداناً. ولذلك نستطيع القول أو التّرجيح أو أنّ قصيدة قمصان يوسف تحوي أقنعة الشّاعر نفسه، ليعبّر فيها عن بعض أفكاره وهواجسه الشّخصيّة، فهو يعبّر عن يوسف جميل المظهر، كأنّه يعبّر أيضًا عن نفسه، وشوقي بزيع رجل جميل المظهر أيضًا، ولا نستطيع أن نفهم جميع هواجسه الشّخصيّة الّتي قد تكون متجليّة في قصيدته عبر القناع، لأنّ هذا يحتاج إلى معرفة متعمّقة أكثر في تفاصيل حياته الشّخصيّة، ولكنّ القناع قد يكون جليًّا أكثر بالنسبة لأيّ متلقٍّ،  وخاصّة في فصل قميص الشّهوة، فهنا يعبّر الشّاعر، أيضًا عن هواجسٍ تتعلّق بالمرأة والحُبّ عبر قصّة  يوسف وزليخة، هذا الحبّ المحرّم في الأعراف الاجتماعيّة والأخلاقيّة والدّينيّة، فهي امرأة متزوّجة، وقد عاش يوسف وترعرع في كنف هذه العائلة، ولذلك يتمنّع يوسف ويصدّ شهواته العاطفيّة والجنسيّة، إزاء هذا الموقف المعقّد، يضاف إليه مكانة يوسف بالنسبة للدّيانات، باعتباره نبيّ صدّيق، والشّاعر نفسه يعتبر أن فيه من روح النبوّة شيءٌ وهو الالهام، وكما أنّ هاجس السّاسة والقادة كان ولا يزال في بعض الحالات في التّاريخ العربيّ والإسلامي هو خلافة السّلطة النبويّة، وهاجس المتصوّفين هو خلافة السّلطة الرّوحيّة، فإنّ هاجس الشّعراء هو خلافة (سلطة الوحي)، وليس المقصود هو الوحي الإلهيّ، الّي خُتم بالرّسول، خاتم الأنبياء،  ولكنّه وحي من نوع آخر، تجلّى بشكل واضح في أدبيّات جبران خليل جبران على سبيل المثال،   وقد يكون هذا الهاجس، ينتاب الشّاعر أيضًا فيعبّر عنه في قناع النبيّ يوسف، لذلك فإنّ التّناص المباشر مع سورة يوسف في القرآن الكريم، الّذي يصل إلى استخدام العبارات، ولكن بلغة الشّاعر،  تأخذ حيّزًا كبيرًا في هذه القصيدة، ولذلك يتوجّب عرضه.

 

التّناص في القصيدة مع سورة يوسف في القرآن:

 

                القصيدة                سورة يوسف
عراكُ المجرَّات

من أجل نجمٍ تغازله الشّمسُ

من خلف ظهر الفَلَكْ

كلّها الآن تسجدُ لكْ

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (الآية 4)
ولكنَّ سَرّكَ في أن تكون جديرًا بسحرك

في أن تخضَّ المياه التي سكنتها الشّياطينُ

كي تستعيد البراءةَ،

أو تستعيد بجذع اختياركَ

من حاسدٍ حسدكْ

 

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (الآية 5)

 

فهذا الزّمانُ الّذي برّأ الذئبَ

من شبهة الدم فوق قميصكَ ليس زمانكْ

قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (الآية 17)
وإخوتك اتحدوا مع قميصكَ

ضدَّ دموع أبيك

وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (الآية 18)
 وإذ راودتني زليخةُ  قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي (الآية 26)
 فلما هممتُ وهمّتْ

 

 وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا (الآية 24)
تدلّت مراياهُ من خشب السّقفِ

حتى حسبتُ بأني أعانق نفسي

وأن زليخةَ ليست سوى

صرخةِ الإثم في داخلي

فاستدرتُ إلى الخلف

لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ

(الآية 24)

سترى الشّمس خاشعةً

والكواكب ساجدةً تحت رجليكَ

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا (الآية 100)
تهبُّ على بيت يعقوب

حاملةً مع قميص ابنه

نجمتين اثنتين،

تصبَّان في بئر عينيه ضوءها المشتهى

وتعيدانه من عماهْ

 

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (الآية 93)

 

وهذه القصيدة رغم أنها تتحدّث عبر التّناص عن قصّة معروفة في التّوراة والقرآن، إلاّ أنها تبتعد برؤيتها الخاصة عن نظام المعرفة المألوف، وفي هذا السّياق يقول أدونيس: “هكذا يمكننا القول إنّ الشّعر الجديد نوع من المعرفة الّتي لها قوانينها الخاصّة في معزل عن قوانين العلم. إنّه إحساس شامل بحضورنا، وهو دعوة لوضع معنى الظّواهر من جديد، موضع البحث والتّساؤل وهو لذلك، يصدر عن حساسيّة ميتازفيزيكيّة، تحسّ الأشياء إحساسًا كشفيًّا، الشّعر الجديد، من هذه الوجهة، هو ميتافيزيكا الكيان الإنسانيّ. (12)

الوزن والايقاع:

القصيدة هي من شعر التّفعيلة، أو ما يسمّى عند البعض بالشّعر الحرّ، وهذا الأسوب من الشّعر هو الغالب في الشّعر العربيّ المعاصر، منذ منتصف أربعينيّات القرن الماضي، وهو من ناحية بنيويّة، شعر الشّطر الملتزم بالبحور الشّعريّة الّتي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولكنّه متنوّع القوافي، أو يخلو منها أحيانًا،  وقد أوضحت معالمه الشّاعرة العراقيّة نازك الملائكة، في كتابها “قضايا الشّعر المعاصر”، الّذي صدر بطبعته الأولى عام 1962، وحيث نوّهت في طبعاته اللاحقة، أنّ قصيدتها “الكوليرا” الّتي نشرتها عام 1947، لم تكن القصيدة الأولى المكتوبة في هذا النمط المجدّد. (13) تجمع قصيدة قمصان يوسف، بين البحر المتدارك، بتفعيلة الخبب (فعِلنْ، فاعلْ، فعِلُ)، والايقاع الأصليّ لبحر المتدارك، فاعلن، ومن الجدير ذكره أنّ الشّعر القديم الّذي كُتب على بحر المتدارك، بمعظمه كُتب بإيقاع الخبب، وليس بالتفعيلة الكاملة، وهذه التّفعيلة الممتزجة، الّتي شاع استخدامها في الشّعر العربيّ المعاصر، تُبعد الإيقاع عن الجرس العالي، وتقرّبه من ايقاعيّة النّثر، وهو ليس ايقاعًا غنائيًا، ويصلح للقصائد التأمليّة الفلسفيّة. وسنهي الشّاعر المقطع الأخير في القصيدة على تفعيلة المتقارب، (فعولن)، وهي قريبة ايقاعيًا من البحر المتدارك، بشكل معكوس، لذلك تتجانس مع إيقاع الوزن العامّ، وتحدث التنويع الايقاعيّ، الّذي يساهم، في تنوّع الأصوات الدّاخلية في القصيدة، وهي تفعيلة غنائيّة، وأعتقد أنّ الشّاعر اختارها ليختم فيها قصيدة بمقطعها الأخير، كونها غنائيّة، لكي تعبّر ايقاعيّاً عن نشيد انتصار يوسف على محنه، وهي من ناحية أخرى كما ذكرت سابقًا تتجانس، مع تفعيلة المتدارك، من حيث تقنيّة التّدوير، لذلك فإنّ القارئ ينتقل ايقاعيًّا من بحر شعريّ إلى آخر، دون أن يشعر، باختلاف كبير بالإيقاع، من ناحيّة، ولكنّه ينتقل إلى ايقاعٍ فيه غنائيّة وجرس موسيقيّ أعلى.

فالإيقاع الاوّل للمتدارك ونوتاته المتنوّعة، القريب من النّثر، يمكّن التأمل والفكر في القصيدة إلى جانب الحساسيّة وغنائية المخيّلة والتخييل.

 

سمات وخاصيّات شعريّة حداثية أخرى في القصيدة:

الرّؤية الخاصّة والكشف والغموض:

ليس الشّعر مجرّد شكل محدّد باللّغة والصّور والموسيقى فقط، بل هو قبل ذلك، نوع من المعرفة المتميّزة، الّتي تبدع وتجسّد ما تبدعه في هذا الشّكل. إنّه نوع من الوعي الّذي يدرك الوجود الطّبيعيّ والانسانيّ إدراكًا خاصًّا، يختلف فيه عن أشكال الوعي الأخرى. (14)

ونستطيع القول إنّ شوقي بزيع، يجسّد إدراكه ووعيه ورؤيته الخاصّة، عبر التّحليق في آفاقٍ جديدة، في سماء قصّة معروفة، فقد أضاف إليها خاصيّةً ورؤية جديدة، بلغةٍ لم تكتف بالمحاكاة، وإنّما بإعادة الصّياغة، فيما يتعدّى النصّ. وفي سياق مشابه يقول أدونيس: فأن “يكتب الشّاعر الجديد قصيدة، لا يعني أنّه يمارس نوعًا من الكتابة، وإنّما يعني أن يحيل العالم إلى شعر: يخلق له فيما يتمثّل صورته القديمة، صورة جديدة. (15) ونرى أنّ قصّة يوسف تجدّدت بجماليّات اللّغة والرّؤى الشّعريّة، فيما تحاكي القصّة الأصل، من ناحية تفاصيل سرديّة.

ويرى أيضًا أدونيس، أنّ الرّؤيّة الشّعريّة هي “كشف”، إنّها ضربة تزيح كلّ حاجز، أو هي نظرة تخترق الواقع إلى ما وراءه. ولهذا يأتي الشّعر محمّلاً بالغموض، لأن الغموض ملازماً للكشف لا يدرك إلاّ بالرّؤيّة المماثلة، أي أنّنا لا ندرك الرؤيا إلاّ بالرّؤيا. (16)

وبما أنّ في هذه القصيدة “قمصان يوسف” تتجلّى عناصر الكشف، فهو يدخل في أعماق النّفسيّات، نفسيّة يوسف ويعقوب، ويكشف عن خفايا النّفوس والنّبوءات، والواقع والتّطلّع، فإنّها جاءت غامضةً، والغموض سمة من سمات الشّعر الحداثيّ، في كلّ عصوره، لذلك كان شعر أبي تمّام كشاعر حداثيّ في عصره غامضًا، وقد عدّ ابن هلال الصّابيّ، (ت: 384هـ، 994 م). الغموض سمة “الشّعريّة الفاخرة”، وذلك بقوله: “أفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلاّ

بعد مماطلة منه. (17)

وقد جعل الفيلسوف الألمانيّ هيجل، من الشّعر تعبيرًا عن العالم الرّوحيّ، ولذلك ليست مهمّته وصف الواقع، بل جعله حيًّا، وكشف ما يختبئ فيه على الوعي العاديّ. (18)

وقد استطاع شوقي بزيع استهام التّراث بروح معاصرة، وفي هذا السّياق تقول النّاقدة زهيدة درويش: إنّ شوقي بزيع متأصّل في تراثات المشرق العربيّ المتنوّع، حيث تعاقبت الحضارات من بابليّة، وسومريّة، وفينيقيّة، ومسيحيّة، وإسلاميّة، وعربيّة، يتمثلها الشّاعر جميعها فتصهرها عبقريته لتخرج لمّاعة كالذهب من خيميائه السّحريّ. فهو لا يرضى لنفسه أن يكون مجرّد شاهد على التّراث، أو وريثاً له، بل نراه يخرجه من بئر الذّاكرة نابضاً بروح جديدة تبثّها فيه رؤياه الشّعريّة الّتي تصدر عن حضور كثيف في مناخ العصر. إن عروة بن حذام، وديك الجنّ، وقيس بن الملوّح، وعمر بن أبي ربيعة، وامرأ القيس، يصعدون درج الزّمان، ليحضروا في قصائد تسبغ عليهم حيوات جديدة، كأنّ الّذي عاشوه يوماً ليس سوى مادّة للتحوّلات. ويثرب، والأندلس، والفرات، والنّيل، ودجلة، وقرطاجة ليست مجرد جغرافيا للحنين، بل ترتفع إلى مرتبة الرّمز لتصبح هيروغلفيا للذات الحميمة. وقد برهن شوقي بزيع عن قدرته على بلورة نظرية متكاملة في الشّعر ودوره دون أن يتوسّل لغة المنطق. ففي قصيدة (قمصان يوسف) استقى من القصة القرآنيّ مادّة حوّلها بالرّمز لتصبح لغة للمغامرة الشّعريّة الّتي تتطوّر وفق ثلاثة مراحل: الهبوط إلى البئر ومقارعة الموت (قميص التّجربة) تتبعها الولادة الجديدة يرافقها شعور بالغربة وبازدواجية الذّات الّتي تدخل في مناخ الحيرة والتّردّد (قميص الشّهوة) قبل أن تجمع قواها لتنتصر على التّوتّر والخوف في لحظة إشراق الرّؤيا (قميص الرّؤية) حتّى إذا ما بلغت القصيدة نهايتها رفع الشّاعر القناع، ليعلن (الشّعراء كالعشّاق لا يصلون ما لم يحرقوا من خلفهم سفن الهيام. والحقيقة ليست في الرحيل أو في المقام، بل في الطريق، بمعنى أن الشّعر تجربة، ولغة، وتقنية إبداعيّة عالية، وليس مجرّد سكب الأحاسيس في قوالب لفظية” ليس الشّعر أن نبكي على ما ضاع من فردوسنا، بل أن نضرم تحت اللّغة البكماء نيران المجاز. (19)

الخاتمة:

يُعدّ الشّاعر اللّبنانيّ شوقي بزيع أحد شعراء الحداثة المعاصرين البارزين، وشعر الحداثة بمفهومه العامّ والمعاصر بشكل خاصّ ينطبق على معظم نتاجه، وإن اختار أحينًا كتابة الشّعر الكلاسيكيّ، ولكن حتّى شعره الكلاسيكيّ من ناحية مبنى (القصائد العموديّة)، تمتاز بسمات الحداثة، وقصيدته “قمصان يوسف”، من القصائد المتميّزة، والّتي تحمل في طيّاتها سمات ومقوّمات الحداثة كما عبّر عنها المنظّرون والباحثون والنقّاد، ومنهم أدونيس، أحد أهم شعراء ومنظّري الحداثة الشّعريّة العربيّة، وبالمجمل فإنّ هذه القصيدة كمعظم قصائد شوقي بزيع، تجسّد جماليات الشّعريّة العربيّة الحديثة، والحداثة، وتقدّم قصّة النبيّ يوسف، بأسلوب جديد، ورؤية كاشفة، وكشف رؤيويّ متعمّق، بلغة شاعريّة عالية محلّقة وباذخة.

 

سامي مهنا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصادر والمراجع:

المصادر:

  1. عصام شرتح. الشّعر وتأنيث العالم، قراءة في تجربة شوقي بزيع. الأردن: دار الخليج، 2018.
  2. شوقي بزيع. الحوادث، ع 1680، في تاريخ 13.1.98: 52،53.
  3. أدونيس. زمن الشّعر، بيروت: دار العودة، 1996، ص 173.
  4. حسن مطلب المجالي، أثر القصّة القرآنيّة في الشّعر العربيّ الحديث، رسالة دكتوراة، اشراف: محمّد أحمد المجالي، عمّان: الجامعة الأردنيّة، 2009، ص 67،68.
  5. محمد خمشوش – التّناص الأدبيّ، النّشأة والمفهوم، دراسة نظريّة، انطولوجيا السّرد العربيّ، 12.5.18.
  6. عبد المنعم حنفي. موسوعة عالَم عِلم النّفس، بيروت: دار نوبليس، 2005، ص 142-143.
  7. أدونيس. زمن الشّعر، دار العودة، ص 163-164.
  8. ترمانيني، خلود،2004- الإيقاع اللّغوي في الشّعر العربيّ الحديث، رسالة دكتوراة، جامعة حلب، ص373.
  9. عصام شرتح، شعريّة المحفّزات الجماليّة في قصيدة «قمصان يوسف» لشوقي بزيع، موقع ديوان العرب، الثّلاثاء 22 آذار 2016.
  10. إدوار الخرّاط. الحساسيّة الجديدة، دار الآداب، ص 11- 12
  11. جابر عصفور. أقنعة الشّعر المعاصر، مجلّة فصول، العدد 4، 1981، ص 123
  12. أدونيس. زمن الشّعر، ص 10.
  13. نازك الملائكة. قضايا الشّعر المعاصر، بيروت: دار الملايين، ط 7، 1983، ص 17.
  14. عبد الله العشي، الجزائر: منشورات الاختلاف، 2009، ص 115.
  15. أدونيس. مقدّمة للشّعر العربيّ، بيروت: ط 3، 1979، ص 102
  16. أدونيس. الثّابت والمتحوّل- صدمة الحداثة، ص 167.
  17. أبو اسحق إبراهيم بن هلال الصّابي. المثل السّائر، ج 4، ص 6.
  18. هيجل، مجلّة الفكر العربي المعاصر، ع 10 شباط، 100:81
  19. زهيدة درويش،2005 -شاعرية المفارقات والمصائر المتحولة وجغرافيا الداخل، مقدّمة ديوان شوقي بزيع، ج2/ ص9،  26

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*