بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّب الدكتور يوسف عراقي: “الكلمة الحرّة كالأفكار الحرة لا يعترضها شيء، لا السجّان ولا القضبان. بوركت عزيزي أستاذ حسن على بنائك هذا الجسر المعنوي”.
وعقّب الصديق سامح أبو هنود: “الحرية لأسرى الحرية بوركت جهودك.. والله صار إلي نِفس أرافقك في إحدى الزيارات.. تحياتي لكل من تلتقي بهم من الأسرى.. أليس الصبح بقريب؟”.
“أسيرة الكاميرا”:
التقيت صباح الاثنين 31.05.2021 في سجن الدامون في كرمل يساند حيفا لقهر السجن والسجّانّ بالأسيرة بشرى جمال محمد الطويل، وكان اللقاء مغايرًا، شابّة في مقتبل العمر (مواليد 1993)، وتنبض حيويّة وثباتًا وإرادة، تمثّل الصحوة في الهبّة الشعبيّة الأخيرة في شتّى أرجاء الوطن، من حيفا ويافا واللد إلى غزّة والشيخ جرّاح.
حدّثتني عن عملها الصحافي والإعلامي إلى جانب كونها مصوّرة أعراس (بِدنا نعيش)، فهي محرومة من المعاش منذ ثلاثة سنين ونصف بسبب مواقفها الصلبة ورغم ذلك لا تلين، لم تعش طفولتها ولا مراهقتها، اعتقالات دوريّة متكرّرة لها (اعتقلت للمرة الأولى وهي في الثامنة عشرة من عمرها) ولجميع أفراد العائلة، وهذا الاعتقال الإداري الثالث، أفرج عنها يوم 28.07.2020 لتُعتقل من جديد يوم 08.11.2020 دون ذنب غير خدمتها الإعلاميّة الواثقة للكلّ الفلسطيني، فالمحتل يتهّمها برفع معنويات الأسرى وذويهم في حين يعمل جادًا على إحباطها، بهدف التضييق وعدم الاستقرار.
أصرّت على إسماع صوتها في كلّ المحافل، بالصوت والصورة والكلمة، ومقالتها الأخيرة حملت عنوان “في يوم حريّته يمدّد الاعتقال”، وجدتُها الصوت الحيّ والسفير الأمين لجيل قلب الموازين وقوانين اللعبة رأسًا على عقب، يعرف كيف يتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي والكاميرا والميديا وأذهل المحتل وأخافه، فصارت الكاميرا وصاحبتها إرهابيّة حسب معاييره!
حدّثتني عن انقطاع الزيارات والتواصل منذ شهرين وعن الإهمال الطبي والتلاعب في الفحوصات وتعتبره جريمة.
تستغلّ الوقت في القراءة ورتّبت لزميلاتها دورة إعلام وتنمية بشريّة داخل السجن.
يقلقها عدم الاطمئنان على أخيها وتتساءل هل هو معتقل؟ وتتوق لاحتضان إخوتها عبد الله وسحر ونصرالله، ولو عبر الإذاعة وهذا أضعف الإيمان.
لك عزيزتي بشرى أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
ومرّت سنتان:
غادرت حيفا السادسة صباح الأربعاء 02.06.2021 لزيارة أحرار في سجن ريمون الصحراويّ، وصلت الساعة الحادية عشرة نتيجة أزمة سير فوجدت “العدَد” ينتظرني ممّا عكّر مزاجي، وحين تمركزت في غرفة المحامين أطل برفقة ستّة سجّانين، ظننته الشيخ رائد صلاح وحين اقترب من الحاجز الزجاجي وخلع كمّامته وجدته أحمد سعدات عبد الرسول فتساءلت بيني وبيني: “هل ما زال يشكل خطرًا على الكيان رغم مرور كلّ السنين ورغم كلّ الزنازين والأبواب؟”.
بعد تبادل التحايا تحدّثنا بدايًة عن زيارتي لعاصم محرّرًا في مخيم بلاطة ومشروع العمل الفنّي المرتقب لظافر هديّة من عاصم لدوّار الحكيم في مدخل المخيّم، ومنها انتقلنا لحديث مطوّل عن الهبّة الشعبيّة السياسيّة في الكلّ الفلسطيني الذي جاء سقفها أعلى بكثير من المؤسّسات السياسيّة الفاعلة لتثبت أن الصراع وجوديّ ويبقى السؤال عالقًا: “شو يُبنى عليه؟”.
تحدّثنا عن الانتفاضة الأولى التي جاءت شبابيّة ميدانيّة واليوم نشهد هبّة شبابيّة عفويّة بعيدة كلّ البعد عن الأُطر التقليديّة المتكلّسة، يرافقها إعلام “شعبيّ” حداثيّ متجدّد، في كلّ أرجاء فلسطين، ممزّقًا خارطة الطريق الأوسلويّة، مركّزًا على أنسنة قضيّتنا وشعبنا بعيدًا عن الأسطرة لتخترق الإجماع العالمي المجنّد صهيونيًا.
تحدّثنا عن ضرورة أنسنة حكاية الأسير الفلسطيني وما زالت في ذهنه صورة مشهور حين التقى والدته للمرّة الأولى بعد عشر سنوات في الأسر فلم يستطع أيّ منهم التفوّه ولو بكلمة واحدة خلال تلك الزيارة!!
حدّثني عن قراءته في كتابي “أمميّة لم تغادر التلّ” وإيفا شتّال حمد، وحدّثته بدوري عن انطباعاتي الأوليّة عن لقائي بحرائر الدامون، ومرّت ساعتان ليباغتنا الستّة سجّانين معلنين نهاية اللقاء.
جاء اللقاء ليغلق دائرة بدأت قبل سنتين، فكان اللقاء الأول مع سعدات يوم 03 حزيران 2019.
لك عزيزي أحمد سعدات أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
“بيت افتراضي”:
التقيت ظهر اليوم بصديقي الأسير كميل أبو حنيش في سجن ريمون الصحراوي للمرّة الثامنة؛ بعد لقائي بأحمد سعدات، وحين لمحني عبر الممر الطويل أزاح الكمامة الكورونيّة صائحًا: “شو هالمفاجأة!!”، فلم يتوقّع زيارتي له، ولكن كيف لي أن أصل ريمون دون أن ألتقيك يا كميل؟ أمسك السمّاعة ليستفسر عن زوجتي سميرة وبناتي وأحفادنا، ليخبرني عن كاريكاتير يُتداول حول لقائنا الأخير: “فكرك هي القطايف بجبنة ولّا بجوز؟”
حدّثني عن اعتكافه وعزلته الاختياريّة، يومه الشاق في القراءة والكتابة(خمس عشرة ساعة يوميًا)، وتناولنا الأمور التقنيّة بالنسبة للجهة السابعة وقرأت على مسامعه الإهداء ومقدّمة الصديق د. فيصل درّاج.
تحدّثنا عن عمله الروائي القادم؛ بيت افتراضي تبنيه الجليلة ومصطفى وجنّة جديدة تحتضن بيّارات البرتقال.
حدّثني عن طقوس التواصل الهاتفي التجريبي مع العائلة (45 دقيقة أسبوعيّة لخمسة أرقام عائليّة معرّفة ومرضي عنها، وبالطبع تحت المراقبة الاستخباراتيّة اللعينة).
حمّلني كميل تحيّة للشيخ رائد صلاح، أبيات شعر للمتنبّي وللحلّاج ولكننّي خذلته ولم أوصل الرسالة لأنّي حُرمت من لقاء مقرّر ومُرتّب مسبقًا وتلك قصّة أخرى.
لك عزيزي كميل أحلى التحيّات، ننتظر اللقاء الموعود في رحاب بلكوننا الحيفاوي قبالة بحر حيفا الذي بتّ تعشقه.
حزيران 2021