“يجب أن تَنظر بعين الشك كي تُبصر اليقين” (أبو حامد الغزالي)
كثيرا ما يتساءَل القراء عندما تنشر كاتبة نصوصًا أدبية في الصحافة والمجلات والمواقع الإلكترونية عن علاقة نصوصها بحياتها الشخصية، وكثيرا ما يأتي هذا السؤال من باب حب الاستطلاع والتلصص على تفاصيل حياتها الشخصية، خاصة إذا كانت كتاباتها جريئة وتتخطى حدود المقبول في مجتمعاته المحافظ – المتدين، وخاصة في مجتمعنا الذكوري الذي يشعر ربما بتهديد المرأة المثقفة والجريئة لمركزه الاجتماعي والثقافي، فكم بالحريّ المرأة الكاتبة والمبدعة، فكأنها تقوم بهذا النشاط لمنافسة الرجل. هذه التساؤلات ربما تشكل وسيلة دفاعية فتُحَمِّل الكاتبة وما تكتبه وصمةَ الدونية على عدة مستويات.
أتابع “تفاحة سابا” في جميع كتاباتها، فلها نهج خاص ومميز وواضح، وهو الرفض الذي تعبر عنه بالثنائية الضدية (Dualizm) (1) وتطرح الواقع عبر تفاعلات بين ما نسمّيه الطّريحة thesis والنّقيضة antithesis، على أمل الوصول إلى حلّ المتناقضات القائمة من خلال الارتقاء إلى الشّميلة synthesis. الواقع يكشف كلّ أسباب الصّراع الموجود ممّا يصعب الوصول إلى شميلة. من هنا تلغي الشاعرة الطريحة وتبرز النقيضة. والتي تتمثل بالرفض.
يعود هذا النهج إلى منهجية الرفض التشكيكي الذي غُيِّب في ثقافتنا العربية والذي يعود إلى فلسفة العقل عند “أبو بكر الرازي” (854-925) في منهجه الفلسفي فالعقل:
“هو المتبوع —لا التابع.
هو المهيمن —لا الخاضع.
هو الزمَّام —لا المزموم.
هو القائد – لا المقود.
به رأينا الخير والشر؛ الضار والنافع؛ الصالح والطالح؛ به كشفنا الأسرار واطَّلعنا على الأنوار المستورة تحت الحجب المتراكمة؛ به رأينا الحق وبطحنا الباطل. وما دام هذا العقل قادراً على كل ذلك فما هي حاجتنا للأنبياء؟”
وبعد الرازي جاء الإمامُ “أبو حامد الغزالي” (1058-111) الصوفي، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الحادي عشر والذي لُقب بحجة الإسلام وهو صاحب المقولة الشهيرة “يجب أن تَنظر بعين الشك كي تُبصر اليقين”.
في سنوات الستين رفع شعار التشكيكية/الرفض “الصادق النيهومي”. (كاتب وأديب وفيلسوف ليبي) الذي نجح في بلورة خطاب ثقافي رافض، تنويري وحداثوي وشاركه في هذا الشاعر “أنسي الحاج”، تأثّر به عدد كبير من الكتاب والشعراء المعروفين.
لذلك كل أمة تتصرف كالقطيع، سلوك يرفضه كل متنَوِّر، تكون بحاجة ماسة إلى الفكر الرافض والتشكيكي. تطرق إلى هذا “هشام شرابي” تحت عنوان “المسايرة” في الثقافة العربية السائدة ويقول طالما نساير من غير الممكن إحداث التغيير.
عنوان الكتاب الأول للشاعرة تفاحة سابا هو “امرأة وعرية”:
العنوان بالنّسبة للمؤلّف يمثّل خيارًا لِما يريد ان يقوله في المتن. ويعبّر عمّا يمثله النّص بالنّسبة إليه ككاتب له، ويدل ايضا عن علاقته هو بالنّص من خلال العنوان.
نحن نرى بأنّ عنوان النّص هو كاسم المولود، فأحيانًا نختار الاسم قبل الولادة وأحيانًا ننتظر إلى ما بعد الولادة وأحيانًا نسّمي المولود تيمّنًا بشخصيًة نقدًرها أو تأمّلًا مستقبليًا وفي جميع الحالات الاسم/ العنوان الّذي نعطيه للمولود/للنّص يعكس فكرنا وأحاسيسنا تجاهه، وما يجول بعالمنا نحن.
امرأة وعريه: عنوان لإحدى قصائد الكتاب واختيار الشاعرة لهذا العنوان يقول بأن مضمون القصيدة صاحبة هذا العنوان هو الاساس في كل الكتاب.
العنوان:
امرأة وعريه: هو إرداف خُلفي (2) Oxymoron وهو تعبير يمزج بين ضدين وينتج عنهما تعبير له معنى واضح وزخم. كلمة امرأة تحمل معانيَ من اللطف والاناقة والنعومة وما شابه وكلمة وعريه تحمل معانيَ فيها صعوبة وصلابة وهي ضد اللطف والنعومة.
وعُر الطَّريقُ: وعَر؛ صلُب وصعُب السَّيْرُ فيه.
الوَعْرُ: كلُّ شيءٍ صعب، عسير، ضدّ سهل.
الوَعْرُ: المكانُ المخيف والصلب.
مطلب وعْر: صعب المنال
وعرة: بالمحكية هي قطعة أرض تشبه جزيرة طبيعية تحتل مكانا بين البساتين.
في الإنجليزية wild, unruly, uneducated, uncivilized.
وأيضًا كلمة غابة بالعبرية “ياعر יער” وهي مِسَاحَةٌ شَاسِعَةٌ تَكْتَنِفُهَا الأَشْجَارُ الكَثِيفَةُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَتَكُونُ مَرْتَعًا لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ.
امرأة وعريه: هي امرأة غير ملتزمة بالأنماط السلوكية في المجتمع. تعمل ما تراه مناسبا، الأهم هو أناها.
سُئلت الشاعرة تفاحة سابا: “ما علاقة ما تكتبين بحياتك؟”
كانت إجابتها: “كثيرًا ما تُسأل الشاعرات والأديبات على وجه الخصوص عن علاقة نصوصهن بحياتهن الشخصية ويأتي هذا السؤال من باب التلصص على تفاصيل حياتهن وبهدف المس بأخلاقهن خاصة إذا كانت كتاباتهن جريئة وتتخطى حدود المقبول في مجتمعاتهن المحافظة المتدينة، مما قد يحمل الكاتبة وما تكتبه وصمة الدونية على عدة مستويات.
وبالتالي غالبا ما يأتي رد الكاتبات سريعا ويحمل استنكارًا وإنكارًا قاطعًا لأي علاقة ممكنة بين نصوصهن وحياتهن لدرجة تجعلك تعتقد أنهن يتملصن من أعمالهن ويعتذرن عنها وكأنها تهمة يجب إبعادها ونفيها عنهن بشكل حازم وفوري…”.
تقول الشاعرة أيضًا: “ردًا على هذا السؤال يهمني أن أوضح أن كل ما كتبته يوما وأكتبه اليوم أو سأكتبه لاحقا له علاقة مباشرة ووطيدة بحياتي…
كل نص من نصوصي يسير على وتيرتي ويحمل نبضي!
كل نص لي يحتضن جزءا من روحي، يضعها على المشرحة ويعالجها!
حياتنا هي أفكارنا وقيمنا ومخيلتنا وأحلامنا ومشاعرنا وتجاربنا ولغتنا ومشاريعنا… هي اللحظات التي تمردنا أو انسحقنا فيها، هي ما تراكم فينا من إدراك ومعرفة وخبرات ووعي…
حياتنا هي لحظات الكشف والاكتشاف والوصل… هي لحظات التخلي والانفصال
إذا لم يعبر أدبنا عن كل هذا فهو ميت لا روح فيه…
وإذا كتبنا خارج حياتنا نساهم في خلق ثقافة الموت التي تجتر ذاتها.
الأدب الحقيقي هو الأدب الحي النابض بروح وحياة صاحبه/ته… الكتابة هي فعل حياة وفعل تحرير.
أنا أكتب ذاتي لأني أحب الحياة وأحب الكتابة ولا أشعر بالإحراج أمام الحياة ولا الكتابة ولا أشعر بالحاجة إلى أي تبرير أمام رغبة أي متلصص يفصل الحياة عن الأدب عندما يخص الأمر النساء، كما وأتمنى على المبدعات إعادة الاعتراف بإبداعهن وأنسنة أنفسهن
– لا توجد تجربة سيئة في الحياة، إنما توجد تجربة موجعة أو مفرحة…
– تعاملنا مع ما يقابلنا من وجع أو من فرح هو ما يجعلنا نضع تجاربنا تحت مسميات “سيئة” أو “جيدة”…
– نحن نتاج تجاربنا بكل أنواعها شئنا ذلك أم أبينا…
– احتضاننا لأنفسنا وقبولنا لأنفسنا يحتم علينا احتضان هذه التجارب وتقدير مساهمتها في بنائنا…
– يتوجب علينا التصالح مع تجاربنا الموجعة التي غالبا نعرفها كسيئة والتوقف عن جلد الذات بسببها…”
أمثلة مختارة:
- قصيدة “سأخلد إليك”
عندما تضمني بين أهدابك
وأنت ذاهب في البعيد إلى نومك
سأدفأ وأهدأ
رغم الرعد والبرق
رغم الريح وزخات المطر
رغم الفرشة الباردة الخالية منك
ستغمرني ذكرى حرِّ جسدك
ورائحةُ أنفاسك العالقة على مسام جلدي”
- قصيدة “لم أجدك”
ولكني تعبتُ
ولم أجدكَ هناك معي
وتوقفتُ
ولم أجدكَ لتأخذ بيدي
وتراجعتُ
ولم أجدك لتدفعني
ورميتُ الإزميل
ولم أجدك لتسمع صوت ارتطامه بالأرض
وغادرتُ
ولم أجدكَ هناك لتراني وتمسك بي
آه لو تعرف كم كنتُ أريدك أن تمسكَ بي!
- “خرجتُ منك”
خرجتُ منك
منفوشةَ الشعرِ خرجتُ
ليس بسبب ليلةَ حبٍ ساخنةٍ
بل بسبب انحشار الأفكار في رأسي
تزاحمها…
تضاربها…
بسبب وخز الخيبة المندس فيها
ووجع تهاوي علامات الاستفهام عليها.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان في هذا الشعر هو: من هو المخاطب في هذه القصائد؟ ومن هو حبيبُها؟
يستطيع قارئ معين القول إنها تخاطب إنسان تحبه، ويستطيع قارئ آخر القول إنها تخاطب كيانًا روحانيًا، من هو هذا المخاطب إذن؟
الحب الإلهي في قصائد الشاعرة:
نشأ مصطلح “الحب الإلهي” بمعناه القريب في الحياة الروحية في الإسلام في القرن الثاني الهجري. وكانت الحياة قبل ذلك يحركها عامل “الخوف” من الله ومن عقابه، خرج التصوف من الخضوع لعامل “الخوف” إلى الخضوع لعامل “الحب “، “العبادة” من أجل محبة الله، لا من أجل الخوف من النار أو الطمع في الجنة.
يقول “جلال الدين الرومي”:
“عندما تعرف روحُك روحي معرفةً تامة، فإن كلا الروحين يتذكر أنهما كانا روحًا واحدًا في الماضي”.
“أنا لك فلا تُرجعني إليّ”
“لو أن صوتك قابل للعناق”
“يا حبيبي، ذُبتُ فيكَ، ما انتهيتُ، قُلتُ فيكَ، ما اكتفيتُ، أينَ أنتَ؟
يا حبيبي، ها دموعي، ها ضلوعي، فاقتلعها، لن يراني غيرُ حبٍّ، قد كواني
يا حبيبي، عبدُكَ المكلومُ قلبي، فاصطَفِيْهِ، عبدَ نورٍ من سراجِ نورِ ربّي”.
قصائد الشاعرة “تفاحة” هي قصائد حب فيه فكر وأحاسيس ورؤيا، فهي تربط بين الحبيب وبين الوجود. في قصائدها نجد تعابير تُلَمِح إلى ذلك: معبد، محراب، قِبلة، ناقوس، كاهنة، ربة الكون، إلهة وكلمات من الطبيعة مثل: برق، رعد، مطر، عاصفة وأرض وغيرها:
- عندما تضمني بين أهدابك (قصيدة “سأخلد إليك”)
وأنت ذاهب في البعيد إلى نومك
سأدفأ وأهدأ
رغم الرعد والبرق
رغم الريح وزخات المطر
رغم الفرشة الباردة الخالية منك”
- “كن شقيا مشاكسا (قصيدة سيدة العشق الجهوري)
لتصبح محراب عشقي وقبلة شوقي
حطم كلَّ معابد الناموس والأدب
لأدق لك ناقوسَ أجراسِ معبدي”
- تكرار حالات تؤدي إلى اللاوعي، فنجد في قصائدها: “سهرة الرقص، حتى الغياب، ليلة حب ساخنة، حتى التلاشي، تتوقف معه حركة الكون ويبدأ العد من جديد…” أما باقي الاشياء فلنلقها في قاع المحيط. هي حالات صوفية.
شعرية تفاحة سابا:
ما هو الشعر؟
الشعر أن ترسم فكرة بكلماتك،
أن تفاجئ بصورة غير متوقعة،
أن تسمع صوت الحالة بالأحرف،
إن قلت ماءًا اسمع خريرًا،
وإن قلت اختناقًا أسمع قعقعة،
إن تذكر عاصفة أسمع سادسة “بيتهوفن”،
إن تذكر القدر أسمع أنغام الخامسة،
إن تكتب عن السعادة أسمع كورال التاسعة،
إن تكتب عن عظيم أسمع أنغام الثالثة للموسيقي العظيم،
إن تكتب عن أحاسيسك، أسمع إيقاعات قلبك،
إن تكتب عن الرقص فيغمى عليك،
في الشعر أسمع أنين ناي في الحزن، واسمع تصفيقا عند الفرح،
الشعر أن تثير تعابيرك تداعي للأفكار، أن أرى مضامين ما- ورائية،
الشعر أن تكتب قليلا وتثير أفكارا كثيرة.
أن تفاجئني وتدهشني التعابير.
الشعر لغة داخل اللغة
الشعر كما يعتقد الشاعر الفرنسي “بول فاليري” (Paul Valéry) هو التردد الدائم بين النغمة والمضمون، يقول “الموسيقا قبل كل شيء” الشعر هو لغة منفصلة، أو على وجه التحديد هو لغة داخل اللغة”. معنى ذلك أن العربية، على سبيل المثال، هي اللغة الاعتيادية بالنسبة لأي ناطق بها، وفي مكان ما داخل حدود هذه اللغة ثمة لغة أخرى هي “لغة الشعر” التي يستخدمها بعض أبناء العربية أو بناتها، وحسب هذا التعريف ، يمكن مثلا الحديث عن “محمد مهدي الجواهري” أو “نازك الملائكة” أو “نزار قباني” على أنه شخص يكتب بلغة الشعر، ومعنى هذا ايضا أن من يريد أن يُوصَف بهذا الوصف عليه أن يمتلك جملة من المؤهلات الضرورية: اللغة المتدفقة، والملكة التعبيرية الفذة، والخيال المبدع، والقدرة على الخروج من فلك الكلمات إلى فضاءاتها الدلالية والإيحائية الرحبة، والإحساس بموسيقى الأصوات وإيقاع العبارات الخ. ففي ذلك ما يمكنه من عبور لغته الاعتيادية إلى لغة الشعر ومملكته”. (عبد الصاحب مهدي علي).
الشاعرةُ الأمريكيةُ “أميلي دِكنسُن” Emily Dickinson (3):
“إذا قرأتُ كتابًا وأحسستُ بقشعريرة لا يُمكن حيالها لأي نار أن تبعث الدفء في جسدي، عرَفتُ عندها أنني إنما أقرأ شعرا. وإذا شعرت كما لو أنَّ قمة رأسي لم تعد في مكانها، أدركتُ أنَّ ذلك هو الشعر. هذان هما سبيلاي لمعرفة الشعر، فهل ثمة سبيل آخر؟”
“سيمونيديس” من كاوس، شاعر غنائي يوناني (556 – 468 ق.م) يقول: “الرسم هو شعر صامت والشعر هو صورة تتكلم”. يوجد في كثيرٍ من القصائد توجهٌ بصريٌ مفعمٌ بالألوان والأشكال ونجد أحيانا عند بعض الشعراء أساليبَ من فنِّ الرسمِ.
“ليئه غولدبرغ” شاعرة عبرية وباحثة في الادب (1911 – 1970) تقول في مدخل “خمسة فصول في أساسيات الشعر”: “للكلمة في القصيدة دورٌ مضاعفٌ في اللون والأنغام، الكلمة ترسم وتعزف في الوقتِ نفسِهِ ” (4)
أمثلة:
- التكرار الاستهلالي (أنافورا Anaphora)
التكرار الاستهلالي “الأنافوره Anaphora” هو تكرار إيقاعي ومضموني يؤكد الفكرة ويشدد عليها ويبرزها. قد يكون التكرار حرف أو كلمة.
“سأخلد إليك”
عندما تضمني بين أهدابك
وأنت ذاهب في البعيد إلى نومك
سأدفأ وأهدأ
رغم الرعد والبرق
رغم الريح وزخات المطر
رغم الفرشة الباردة الخالية منك
ستغمرني ذكرى حر جسدك
ورائحة أنفاسك العالقة على مسام جلدي
رغم العاصفة التي تمر بنا
وتهز الأرض تحتنا
سيفوح عطر يدك وهي تمد الغطاء على جسدي
كيد فلاح يضم سنابل قمحه إلى صدره
رغم خوف المسافات التي تتسع بيننا
سأرى الطمأنينة على مبسمك
وأنت تحتضن يقين حضوري معك
سأشعر بالصفاء الذي يستوطنك
وسأراك معي رغم العاصفة التي تمر بنا
وسأخلد إليك وإلى سكينة نومي”
تكرار حرف “س” يدل على حدوث الفعل في المستقبل القريب وفي القصيدة تأتي لتدل على رغبة الشاعرة المتكلمة في تحقق الحالة الشعرية – الأمنية، والفرق بين “س” وبين “ســـــوف” أن سوف تــــدل على حــــدوث الفعل ولكن بمدة أطـــول من حرف السين. يتكرر حرف ” س” كحرف تسويف سبع مرات في القصيدة، وهو رقم مقدس في تراث أغلبية شعوب الكون.
التكرار الاستهلالي “رغم” خمس مرات جاء ليؤكد رغبة الشاعرة في تحقيق أمنياته على الرغم من كل الظروف.
“لم أجدك”
كالنحّات، كنت أحمل إزميلي بيدي
أنظر إلى قسوة الأيام فيك
إلى تحجر الدموع في مآقيك
إلى تصلب الحياة في شرايينك
إلى جفافك وتشقق أرضك
إلى نبضك البطيء حتى الموت
إلى حرائق حصاد العمر فيك
وبعين روحي كنتُ أراك أجمل!
وأرانا معا أجمل
وأنحت
مبهرة هي عملية النحت!
مع كل ضربة إزميل
يأتي الهدم… ويأتي البعث
لا فصل بينهما
معا يكونان: البناء والردم
كالنحات كان العرق مني يتصبب
كنتُ أتوجع وأنا أراك تفتح الجروح وتتوجع
كنتُ أحيانا بك أترفق
وأحيانا كالصاعقة عليك أتحطم..
كنتُ أعرف أننا معا نتشكل
ولكني تعبت
ولم أجدك هناك معي
وتوقفت
ولم أجدك لتأخذ بيدي
وتراجعت
ولم أجدك لتدفعني
ورميت الإزميل
ولم أجدك لتسمع صوت ارتطامه بالأرض
وغادرت
ولم أجدك هناك لتراني وتمسك بي
آه لو تعرف كم كنت أريدك أن تمسك بي!”
التكرار الاستهلالي “إلى….” هو تكرار إيقاعي ومضموني يؤكد فكرة التحول من شيء إلى شيء آخر أو التوجه المختلف ويبرزه. تكرار “كنتُ” جاء ليؤكد حدوث الشيء في الماضي وعدم حدوثه الآن.. وتكرار “لم” وهي حرفُ جزمٍ لنفي المضارع، وقلبِه إلى الزَّمن الماضي، تؤكد الشاعرة فيه عدم حدوث الأمر في الماضي وهذا مؤلم.
التكرار الاستهلالي في قصيدة “سيدة العشق الجهوري”: لا أقبع، ولا ألقاك، لا أتوارى ولا أتناثر 4 مرات. لتوكيد الرفض. كن 5 مرات لتوكيد الإرادة
“أنا سيدة العشق الجهوري المعلن
لا أقبع خلف الستائر
ولا ألقاك سرا
لا أتوارى خلف حجاب لأحتضن دمعك
ولا أتناثر إلى جزيئات لأستلقي في أهداب عينيك
……….
كن شقيا مشاكسا
كن رجلا يليق بسيدة العشق الجهوري المعلن
كن مطرا
كن مخلوقا فضائيا
كن أي شيء يليق بسيدة العشق الجهوري المعلن”
- الاستدارة:
افتتحت الشاعرة القصيدة وأنهتها ب: “ولكني خرجت منفوشة الشعر خرجت!” وجاء نفس السطر في وسط القصيدة للتوكيد. نسمي هذا المبني بالعبرية “שיר מעגלי” قصيدة تبدأ وتنتهي في نفس البيت الشعري. في هذا الأسلوب يكون غالبا المضمون وجدانيا ويريد الشاعر أن يحتضنه كاحتضان إي شيء نحبه. هنالك أمكانيتا تفسير: الاولى هي أن القصيدة لم تنتهِ وعمليا ربما تعود وتتكرر الحالة. والثانية في هذا المبنى نجد عدم مخرج من الحالة الشعرية وربما اختناق. فلندع المتلقي يقرر ويضع خاتمة تناسبه. في جميع الحالات الاستدارة. عندما تتكرر الجملة في وسط القصيدة وكأن الشاعر يريد أن يتوقف ويراجع حساباته He makes a review” ” قبل أن يستمر.
“خرجت منك”
خرجت منك
منفوشة الشعر خرجت
ليس بسبب ليلة حب ساخنة
بل بسبب انحشار الأفكار في رأسي
……….
بين اللحظة واللحظة اشتقتك
وبين النفس والنفس أسكنتك
………
وخرجت منك…
منفوشة الشعر خرجت منك!
ألملم الكسور والشظايا
أمسح الخدوش
………
رغم ختمك المنقوش في الروح والجسد؟
……..
ولكني خرجت
منفوشة الشعر خرجت!”
**
- الثنائية الضدية (الطريحة والنقيضة Antithesis & Thesis)
في قصيدة “لم أجدك”: البناء والهدم، يفتح الجرح ويتوجع، كل هذا يضخم فكرة: أريد ولا أريد. تنتهي القصيدة بألم الأمنية “آه لو تعرف كم كنت أريدك أن تمسك بي!”.
تحجر الدموع في مآقيك
تصلب الحياة في شرايينك
نبضك البطيء حتى الموت
يأتي الهدم… ويأتي البعث
لا فصل بينهما
معا يكونان: البناء والردم
- التلميح Allusion لما قاله “محمود درويش” في المقطع الأخير من قصيدة “دروس من كاما سوطرا”
“وانتظرها
إلى أن يقول لك الليل:
لم يبق غيركما في الوجود
فخذها، برفق، إلى موتك المشتهى
وانتظرها!”
**
قصيدة “ولادة عسل”
“رائحة جسدِك عطرٌ، كالنحل أشمه
اقطع المسافات نحوه
أحوم وأحوم حوله
حتى ألثمه
وعندما يتسرب رحيقه إلى شراييني
أكون قد حصلت على جرعتي منه، فأهدأ
……….
ربما تفك أسري من قيد خطواتي إلى ماض ميت
يمد لسانه ساخرا نحوي
أتجرعك رحيقا كطحين المخدر
كالمدمن ألقيك شفافا على فراش الحب
امر عليك…
أتشممك… أستنشقك
حتى أتوارى عن الكون فيك
وتغيب الأشياء
ويولد العسل!”
تكرار حرف الحاء 16 مرة. ما معنى هذا؟
يقول “ابن منظور” عن خواص حرف الحاء: بارد رطب وله طبع الماء، وهنا نجد الكلمات: قطرة(2)، جرعه، رحيق، أتجرع وهي كلمات تتماثل مع قول ابن منظور).
أمّا الشيخ الأكبر “ابن عربي” فقد قال: “اعلم أن الحاء من عالم الغيب وله من العالم، الملكوت وطبعه البرودة والرطوبة. (نجد هنا: تهد قوامي، سرطان الخوف، ثعابين الخرافات، أتوارى عن الكون، تغيب الاشياء). الحرف الهمزة 16 مرة والحرف الهاء 13 مرة يشكل داعما لحرف الحاء.. نهاية القصيدة:
“أتشممك… أستنشقك
حتى أتوارى عن الكون فيك
وتغيب الأشياء
ويولد العسل!” هي القمة. فيها رقصة الدراويش التي تصل في نهايتها إلى خروج الروح من الجسد والتحليق في الجو في حالة روحية سماوية وغيبوبة. واقول هنا: لا قيمة للمادة ولا قيمة للجسد. القيمة لما وراء الفكر، القيمة للتفكير في تفكير التفكير.
**
القصيدة عند “تفاحة سابا” هي لوحة فنية جميلة ترسم تلك الفتاة الاستثنائية، الرافضة في القصيدة توجه بصري لدرجة أن القارئ يرى اللوحة، مما يحقق ما قاله “سيمونيديس” من كاوس، شاعر غنائي يوناني (556 – 468 ق.م) بقوله: “الرسم هو شعر صامت والشعر هو صورة تتكلم”.
هوامش
- Hart, W.D. (1996) “Dualism”, inA Companion to the Philosophy of Mind, Samuel Guttenplan, Oxford: Blackwell, pp. 265-7.
- أبو جابر برانسي، ريما. (2013). الارداف الخُلفي (الأوكسيمورون) في الشعر العربي الحديث ومساهمته في بناء المعنى. إصدار: مكتبة كلّ شيء: حيفا ومجمع لقاسمي للّغة العربيّة: باقة الغربيّة.
- طنوس، نبيل. (2017). جريدة الإتحاد، الملحق. في 08.12.2017، حيفا.
- ليئة غولدبرغ. (1966). خمسة فصول في أسس الشعر. إصدار الوكالة اليهودية. تل-أبيب (باللغة العبرية)
**
نُشِر في مجلة “شذى الكرمل”، الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين الكرمل – 48.السنة السابعة، العدد الثاني- حزيران 2021. حيفا