يوم جاءنا “أبو سلام” وفي يده استمارةُ الانتساب للاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48، كانت الأبواب في وجهه مشرعة وبطاقةُ دخوله عملٌ إبداعيّ فيه عن أهمّ حدث في تاريخنا الحديث، النكبة، أكثرُ من كثير معنىً بأقلِّ من قليل كلامًا.
قيلت وستُقال كلمات كثيرة في تكريم “أبو سلام” وهو لا شكّ يستحقّ، ولكنّي لا أعتقد أن هنالك كلماتٍ أقوى على تكريم الإنسان من كلماتِه هو، حيّا أو ميْتًا!
يكتب أبو سلام في كتابه – “مذكّرات شخصيّة ذاكرة جمعيّة”:
“سيّارة رحلة أم ترحيل؟
عمري اليوم سبعةٌ وسبعون عامّا لا أستطيع أن أجزمَ، حقّا وقطعًا، أنّ كلّ ما سأرويه عمّا واجهته في طفولتي من أحداث النكبة التي أصابت شعبَنا الفلسطينيّ… هو ذكرياتٌ شخصيّةٌ وخاصّةٌ كانت قد علقت بذهني الطفوليّ، أم أنّها اختلطت بذكرياتٍ رواها لي والدي وإخوتي الكبار حين كبرت.
لكنّني أذكر شخصيّا بالتأكيد أن الأرضَ لم تسعْني فرحًا حين شاهدت سيّارة الشحن (الرحيل س. ن.) تقف بالقرب من بيتنا في الحَدَثة، وأهلُ بيتي وآلُ عمّي يحمّلونها بعضَ الأثاث و… . غمرتني الفرحةُ يومها، لأنّه كانت تلك المرّةُ الأولى التي أشاهد فيها السيّارة، والمرّةُ الأولى التي سأسافر فيها…”
في هذه الفقرة قولٌ هو الصدقُ بعينه بين الكمّ الهائل من أقوالٍ عن تلك الفترة فيها من “الرأي والقياس” الكثيرُ، ولا قيمةَ كالصدق يمكن أن يتحلّى بها إنسانٌ تعلو على هذه القيمة، لأنّ كلَّ قيمة أخرى هذه أساسُها. في هذه الفقرة يضعُنا أبو سلام في مواجهة المفارقةِ الفلسطينيّة العجيبة: فرحُ الطفولة لذاك الجيل الممزوجُ بمأساة لا يدركونها، مأساةٍ ستُفقدهم لاحقّا طفولتَهم.
ولا يلبث أبو سلام أن يروحَ يفتّش عن طفولته المفقودة بعد سبعةٍ وسبعين عامًا، لأنّه كان قد نسيها في خضمّ عمله طوال حياته ألّا يفقد أطفالُ أبناء شعبه الباقين طفولتَهم، فيكتب:
“أعيدوا لي طفولتي!
طالت إقامتُنا في كوكب أبو الهيجا… ولم يستوعبْ عقلي الطفوليّ يومَها ما يجري حولي من أحداث من أحاديث الكبار في السنّ. لقد تغيّرتُ كثيرًا… لقد كبرت خلال شهرين. تقولون وهل ينضج ويكبر الطفل في شهرين؟
أجيبكم: أعمارُ أطفال اللاجئين ليست كأعمار الأطفال العاديّين. لأطفال اللاجئين زمنُهم ومقاييسُه وهمومُه المختلفة عن الأطفال العاديّين… لم أفتقدْ لبيت أهلي ورغد حياتي فقط، وإنّما افتقدت طفولتي حين كنت ما زلت طفلًا. فقدت براءة الطفولة ولغةَ وأحاديثَ وألعابَ الطفولة… أعيدوا لي طفولتي!”
لعلّ أكبرَ تكريم لعادل أبو الهيجا وأطيبَ ذكرى يكونان إن أحسنّا نحن تذويتَ رسالته التي في كلماته اللاحقة، وأكثرَ إن أحسنّا أن نُرضع أجيالَنا حليب هذه الرسالة. فبعد انتهاء الحكم العسكري وانقضاء ثمانيةَ عشرَ عامّا على الهجر يزور عادل وأهلُه الحدثة، يقف على أطلالها ويكتب على نسيمها رسالتَه:
“الصبر (الصبّار) هو زرعُ العرب الذي لا يموت، وإن اقتلعوه تعود جذورُه لتنمو… شهادةً حيّةً على عروبة الأرض وأهلِها في مواجهة من دخلها مغتصبًا ومحتلّا. أتساءل: لماذا لم نتعلّم من الصبّار كيف نشرّش أبدًا في تربتنا ولا نرحل ونُهجّر؟”
طاب ثراه!
وطابت ذكراه!
سعيد نفّاع
الأمين العام لاتّحاد الأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48.
أواسط تشرين الأول 2020
ألقيت في حفل التأبين طمرة 3 تموز 2021