وجه آخر للعزلة: قراءة في رواية “نرجس العزلة” للروائي باسم خندقي – صفاء أبو خضرة/ الأردنّ

الكاتبة صفاء أبو خضرة

نرجس العزلة، رواية الأسير باسم خندقجي، وهو الصحفي والشاعر والروائي، صاحب المؤبدات في سجون الاحتلال الاسرائيلي.

في روايته ثمة أسئلة كثيرة تطرحُ نفسها، هل أراد باسم في عزلته النرجسية أن يصلنا بعبارة جان بول سارتر”الآخرون هم الجحيم”؟ أم أراد أن يعطي العزلةَ قداسة من نوع آخر كما رآها سيوران “لصنع الابداع الخلاق”؟

بعد قراءتي الأولية اكتشفت أنه أراد أن يعلن ثورتهُ الخاصة، استقلاليتهُ، أرادَ أن يعلن أنه غير محدود، وأن القضبان التي يقبع خلفها عصية على حصر أفكاره وقولبتها في قوالب جاهزة ومحكمة الإغلاق، بل إنها هشة في وجه تأملاته ونقده لمجتمع يرزح تحت الاحتلال وتحت قوالب مجتمعية أخرى ليست بأقل من الاحتلال ذاته.

عندما يكتب أسير محكوم بالمؤبد، فهدا يعني أننا أمام طائر فينيقي يسعى للانبعاث من وحدته وعزلته ليولد من جديد بهيئة أخرى، على هيئة شاعر يساري اختارَ عزلة يقتفي خلفها أثر نفسه وأثر قصيدة يحط رحاله فيها ويحيى من جديد بعد علاقات غير وطيدة مع الحب، بل مع الهجر والحرمان والغربة داخل وطن محتل ومكلوم.

الكاتب باسم خندقجي

نحنُ في “نرجس العزلة” أمام عمل روائي ينبض بكل ما يخص الوطن من عادات وتقاليد عارية تماماً من أي زيف أو رتوق، بل سعى إلى وضع النقاط على الحروف كما هي، غير ملونة، ببياضها وسوادها، بقتامتها وبشاعتها، بفرحها وحزنها، دون أن يملي على قلمه النابض بالشعر ما يزيف الواقع لتجميله، بل تركه على سجيته وبدائيته، وهدا ما أضفى على الرواية شكلاً حقيقياً لوجه زيّفه الإعلام الموجه وحاصرته السياسة.

ورغم إصرار باسم خندقجي مؤلف الرواية على أن عمله هذا ما هو إلا “منثور روائي”، وقد وضح دلك في صفحة رقم 8 “إن هدا المنثور لا يمت إلى الواقع بأي صلة وإن حدث فهدا محض صدفة أو محض عشق”. وأكده أيضا في نهاية الرواية بقوله “هدا المنثور الروائي كتب في صيف 2010 وجرى التعديل عليه في شتاء 2016″، إلا أننا أمام بنية محكمة البناء الروائي، وأعتقد أن الروائي مارس هنا نرجسية الشاعر المنبعث من قصيدة حطت على كتف الفكرة وعادت إليه رواية بكل ما تحتويه من تفاصيل.

الرواية مقسمة إلى خمسة أجزاء، تعددت فيها الأصوات، فاستعمل ضمير المخاطب والـ هو والأنا ، وقد أضفى هدا التنوع الصوتي تجدداً والتحاماً في كل مرة مع الأحداث والشخصيات والأفكار بتصور جديد.

ولا ننسى كيف اقتنص باسم الواقع وحاك نقده حياكة ذكية غير مباشرة ومباشرة في آن وتمثل بقوله: ” …لم تنخرط بفتح الدكاكين في المجتمع المدني والأهلي، دكاكين مختصة في التمنية “المستميتة…”.ص28 مشيراً بدلك إلى الأموال التي تصرف على حساب الشعب الفلسطيني دون أن يطاله شيء منها.

“لقد سخرت من كل هؤلاء رافضاً رفاهية التمويل الغربي، فضلت الوحدة وطالبت بالكثير من الخدلان..” ص 29.

كما انتقد أيضاً الفصائل والنزاع الداخلي الفلسطيني والسلطة دون توجس، مشيراً إلى أن الاحتلال يركب هدا النزاع لمزيد من الهدم والتفكيك في جسد الوحدة لتسهل عليه مهمته في التقسيم والتوغل أكثر في رحم الأرض المسلوبة.

وقد اتخد أسلوب التوازي في نقد المجتمع الفلسطيني دون تجميل أو إسفاف، بأن صور المرأة الخائنة المتمثلة في والدة صديقه التي كانت تغوي الرجال مقابل المرأة المناضلة التي صبرت على استشهاد ابنها وتمثلت بوالدة صديقه أمجد، وأعتقد أن هذه رمزية للخيانة مقابل الوطنية وقد ظهرت فعليا بعد اتفاقية أوسلو، حتى أنه تطرق إلى الفن مقارناً بين الفن الهابط والفن الدي يؤدي رسالة وطنية من خلال الإشارة إلى الفنانة “سناء موسى”، أيضاً انتقد الحزب اليساري الدي انتمى إليه ولم يلغ عبره دفاعه عن الدين وقناعته وتمثل دلك بقوله: “فاليوم لم يعد اليسار يساراً في ضبابية الفكر والهوية هدا ما كنت تقوله لأًصدقائك، كنت تنتمي إلى يسارك الخاص”.

أما المكان فكان حاضراً، بل أنسنه على طريقته، وتمثل بمدينة نابلس التي جعلَ منها إنساناً متحركاً يهرول تمثل بقوله: “مدينة من جبليْن، نهدان مكتنزان بالنور والنار”  ص18، وهي “مدينة من عادتها السير بكامل كسلها وبطئها “ص: 41، كما كانت حيفا حاضرة أيضا، مدينته التي أحب ورفض العودة اليها كلاجىء، بل أراد أن يلتحم بها كامرأة اشتهاها دون شرط أو قيد اسمها حيفا.

وأكثر ما لفت انتباهي في هدا العمل الجميل، أن باسم خندقجي لم يكتب من داخل زنزانته، بل حلق عبرها ليكتب بنفَس الحر المحكوم بالحياة، فقد خرج من أسطورة الفلسطيني المقاوم دائما، الفلسطيني الدي لا يتألم ولا يحبط والضحية في كل الأوقات، بل وضّح تماما أنه مقاوم فعلا لكن بوجع، حر لكنه محتجز، محلق لكنه أسير، بشر ككل البشر.

كل ما تم دكره، لا ينسينا الشاعر المنسي الباحث عن قصيدة يرسم بها وطناً من كلمات متخداً بذلك بعداً أسطورياً ليدخل قلب الصراع، وقد تجلى دلك بقوله: “لن أقوى على خراب آخر، سأمارس عشقي للوطن باعتدال وحيادية إلى أن أصرخ صرختي الأخيرة” ص173.

وبالعودة إلى عزلة بطل الرواية، الشاعر الدي حدد عزلته بأسبوع، وبكل سلاسة مضينا معه إلى ماضيه وحاضره، إلى كل النساء اللاتي أطلق نمادج كثيرة منهن، المتحررة والمتدينة الصديقة والمتزنة والخارجة عن قوانين رسمها المجتمع، وأدخل في السياقات نظرته غير المتزمتة والحريصة على معاملة المرأة ككائن حي مثلها مثل الرجل، وتمثل دلك بالسماح لشقيقته بأن تتزوج من رجل تحبه وكان على علم بعلاقته معها.

ونخلص هنا إلى أن بطل الرواية الشاعر المعتد بقصيدة هاربة، وحبيبة خارجة عن سلطتها الأنثوية وكانت سبباً في عزلته لسؤال بعدة رؤوس: هل كان البطل متعباً على طريقة همنغواي بقوله :”إن ابتعادنا عن البشر لا يعني كرها أو تغيرا، فالعزلة وطن للأرواح المتعبة”، فأطلق على نفسه رصاصة أخيرة اسمها العزلة؟

وفي الختام أجزم بأن باسم خندقجي نجح على لسان بطل الرواية بإيصال رسالة عميقة جداً بكل فرادة وسلاسة ونجح في إدخال القارئ إلى عالمه المتخيل والحقيقي دون متاهات.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*