في تأبين طيب الذكر بروفيسور جورج قنازع – فتحي فوراني

تودّع من حبيبك كل يوم

 

الواقفون (من اليمين): جورج قنازع. فريد ميشيل نصار. عادل باسيليوس بواردي. الصف الأمامي (من اليمين): فتحي فوراني. فوزي جريس عبد الله.

أيها الإخوة والأحبة

أيها الأصدقاء

أسعدتم مساء

لست أدري كيف أحشر المحيط في قارورة صغيرة. إنها مغامرة سيزيفية محفوفة بالمحاذير والأسلاك الشائكة.

لن أتحدث عن الدنيا الواسعة لأخي وصديق الزمن الجميل بروفيسور جورج قنازع.

ولن أتحدث عن إنجازاته التربوية والتعليمية والأكاديمية التي نباهي بها والتي تركت بصماتها الخضراء على مسيرة الأجيال الصاعدة التي تخرجت من معطفه الأكاديمي.

ولن أتحدث عن المنارات المضيئة التي نصبها على دروب مسيرته الأكاديمية..لتهتدي بها الأجيال الصاعدة.

إنني لعلى ثقة أن الآخرين من زملائه وأصدقائه وطلابه ومحبيه سيفتحون الملفات..ويفتحون الشرفات للإطلال على هذه الفضاءات الثرية.

**

يطيب لي أن أعزف على وتر متفرد خارج السرب الثقافي الذي يحلق في سماء هذه الأمسية. سأتحدث عن مشهد قادم من سجل الزمن الذي تواضعنا على تسميته بالزمن الجميل.

  وربما لم يلتفت إليه إلا القليلون ممن تبقى من أبناء الجيل..الذين كانوا جزءًا من صُناع تلك المرحلة..أمد الله في أعمارهم.

**

الزمان: ستينات القرن الهارب.

والمكان: المدرسة الثانوية البلدية في مدينة البشارة والبشائر.

في هذا الثنائي المتفرد من الزمان والمكان..تتألق كوكبة من الطلاب الطموحين الحالمين بغد أدبي مشتهى. ويكون من أبرز الحالمين حاملي الرسالة طلاب في طفولة حنجلاتهم.. جورج قنازع وفوزي جريس عبد الله وأحمد حسين وتوفيق فياض وفهد أبو خضرة وجبران كسابري وكامل الظاهر ويوسف عبد الغني وفكتور جميل ارشيد وعادل بسيليوس بواردي وتوفيق يعقوب عواد  وبشارة سليم بشارات ونصري  سليم عواد وفريد ميشيل نصار وعلي حسين قدح وفواز حسن عبد المجيد وعثمان عبد الرحيم سعدي وعدنان داهود فرح وأنطون ميخائيل سابا وحسن زيود والعبد الفقير إليه تعالى كاتب هذه الكلمات وأسماء أخرى غابت في غابات الذاكرة الخؤون.

يبدأ نشاط هذه الكوكبة بالعتبة الأولى من مسافة الألف ميل..ويكون التدشين بجريدة الحائط والخربشات المتواضعة التي تطمح أن تنتمي إلى دنيا الأدب..وسرعان ما ينبتت للخربشات أجنحة فتنطلق وتصبح مجلة “الطالب” التي توليت مسؤولية تحريرها مع صديق العمر طيب الذكر فوزي جريس عبد الله..ونواصل المسيرة فتولد أسرة “الجيل الجديد”..ثم “ندوة الأربعاء” الأسبوعية التي اجترحنا عنوانها من العم طه حسين تيمنًا  بـكتابه “حيث الأربعاء”. وقد تكرم علينا طيب الذكر الأستاذ  فهد سمعان بغرفة جميلة في جمعية الشبان المسيحية لندوة الأربعاء الثقافية.

 كان الحبيب جورج واحدًا من الأعضاء النشيطين الذين لعبوا دورًا لافتًا في نشاطات هذه الندوة. أما أعمدة الندوة فتشكلت من خمسة عشر طالبًا من عشاق اللغة العربية وعشاق المطالعة وعشاق المغامرات الأدبية. كانوا يناقشون مؤلفات أدبية للمشاهير من قدماء ومحدثين ومعاصرين من أبناء هذا الوطن ومن العالم العربي. وأحيانًا يكون النقاش حول إبداعاتنا المتواضعة من قصة وقصيدة وخاطرة ومقال نقدي. وفي أحد هذه اللقاءات يكشف جورج المبدع الستار عن بيضة الديك..فيلقي قصيدة “ابتسامة في صورة” وهي  قصيدة جميلة ولكنها يتيمة نشرها لاحقًا في مجلة  “حقيقة الأمر” الأسبوعية..ولا أعرف له قصيدة غيرها..ولا أستبعد أبدًا أن تكون هنالك قصائد مخفية نائمة في أرشيفه الأدبي.

**

أيها الحبيب جورج

لقد نضَوت عن ساعديك.. وتحدّيت الصعاب واقتحمت عباب البحار الهائجة..لتحقيق الحلم الأكاديمي..والتاريخ شاهد..يسجل التاريخ أنك كنت من أوائل الطلاب في ناصرة البشارة الذين  طاروا إلى زهرة المدائن والتحقوا بالجامعة العبرية.. وهناك..عقدت قرانك على اللغة العربية لنيل اللقب الأكاديمي الأول..

كان هذا حدثًا  يحكى عنه..فقد أصبح سيد الأحاديث  في الأوساط الطلابية..في تلك الظروف الرمادية..ظروف الحكم العسكري!

**

أيها الأصدقاء

هل تعرفون قصة الفتى الأسمر..والطحين الأبيض؟

تكون لقاءاتنا اليومية بعد الدوام المدرسي..مرة في جمعية الشبان المسيحية..ومرة في نادي العمل الكاثوليكي..ومرة في المعهد الثقافي الناصري..ومرة في “جنينة أبو ماهر”..ومرة عند الموسوعة الصفورية طه محمد علي..ومرة في المشاوير النمساوية..ومرة تفتح صدرها لنا منازل الأهل والأصدقاء  والأحبة، فيلتئم شمل الطموحين في طفولتهم الأدبية.

أحيانًا تكون زيارة خاطفة نعرج فيها على بابور الطحين..الذي يملأ  سماءه الغبار الأبيض. إنها زيارة شهية إلى صديق الزمن الجميل. ينهض شاب أسمر مقنعًا بقناع من الغبار الأبيض..وتكون استراحة المقاتلين على كراسي القش قصيرة القامة. تسود الاستراحة دردشات أدبية..مع فنجان قهوة عدنية. هل تعرف يا حبيبنا جورج لغز ذلك الشاب الأسمر..المقنع باللون الأغبر؟؟

أنظر إلى المرآة! فالمرآة هي الحل. وعند جهينة حاملة المرآة..الخبر اليقين!

أيها الحبيب

أيها المنتمي إلى قائمة الرجال الرجال..لقد خرجت  من دنيا الغبار الصغرى لتحلق في السماء  الأكاديمية..وتبني دنيا أخرى..وصرت  مدرسة كبرى تخرجت  من معطفها الأجيال تلو الأجيال..الصاعدة نحو الغد المشتهى.

**

حبيبنا أبا شادي

ذات يوم..قبل يوم من رحيلك المفاجئ..بعثت لك برسالة نصّية تمنيت لك فيها الشفاء العاجل والانتصار على العدو المتربص بك في الغابة المظلمة..وكانت لديّ رغبة  جامحة لا حدود لها..أن أزورك في اليوم التالي..إلى أن..

طوى الجزيرة حتى جاءني نبأ..تمنيت لو كان قادمًا من عالم الأكاذيب الأسطورية!

صدقني يا أبا شادي..ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني..حتى أعيش هذه اللحظة الجارحة..وأقف هذا الموقف الذي لا أحسد عليه!

فقد ذهب الذين أحبهم ..وبقيت مثل السيف فردا..

أيها الحبيب..لن أقول وداعًا..فأنت ما زلت حيًّا..ورغم الحقيقة الجارحة العصية على التصديق..أرى ابتسامتك الحيية تضيء فضاء هذه الأمسية..وأسمع صوتك الهادئ في هذه اللحظة الرمادية..

نحن نحبك..نحب  هدوءك ودماثة أخلاقك وعطاءك الحاتمي

نحبك يا حبيبنا..أكثر مما تصور

ستظل حيًّا في ضمير شعبك..وتظل قنديلًا يضيء ذاكرة الأجيال الصاعدة

أيها الأحبة.

 حيطان الوطن مليئة بالعناوين المكتوبة بماء الذهب. ونحن نمر بها..ولا نلتفت إليها..وربما لأننا  أمّيون لا نجيد قراءة الأبجدية.  إقرأوا هذا العنوان الكبير المحفور عميقًا في ذاكرة الحيطان..وتذكروه دائمًا!

تودّع من حبيبك كل يوم.…فلا تدري الوداع متى يكونُ

أخيرًا..باسم الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيين الكرمل 48 أٌقدم أحر التعازي للأعزاء أم شادي وشادي وهشام وأحلام ولجميع الأحبة آل قنازع ولحام.

رحم الله حبيبنا جورج وأسكنه فسيح جناته مع الأبرار والصديقين والصالحين

**

نص الكلمة التي ألقيت في حفل تأبين طيب الذكر بروفيسور جورج قنازع. أقيم الحفل في قاعة سينمانا في الناصرة  بتاريخ 18-6-2021 وحضره جمهور غفير من الكتاب والشعراء والمربين والمثقفين الذين جاؤوا من جميع أنحاء البلاد لحضور حفل التأبين.  وكانت كلمات للإخوة والأساتذة: أ.د. محمود يزبك. د. عرين سلامة قدسي. أ.د. ميخائيل كريني. أ.د. إبراهيم جريس. أ.د. فيصل عزايزة. أ.د. علي أحمد حسين. د. راوية جرجورة بربارة. الكاتبة دعاء زعبي خطيب. الكاتب فتحي فوراني.

كما تخلل الأمسية مقطوعات موسيقية قدمها الطلاب: حنا بواردي. ليان فرح. ودانا عليمي.

تولّى عرافة حفل التأبين د. باسيليوس بواردي.

وفي ختام الأمسية وزعت على الحضور كراسة تحتوي مقالات كتبها أصدقاء جورج وصورًا من جميع مراحل حياته. وكان عنوان الكراس “لأنك أحببت وعرفت ورأيت”)

**

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*