الخُماسيّة الغزّاويّة – سعيد نفاع         

 

 – قصص قصيرة جدّا

(أعادة نشر)

القصّة الأولى

كيف أنقذ قسّام امَّه؟

كان حائط البيت قابضًا على رجلي أمّ قسّام بشدّة لا يريد لها أن تتركه ردّا لجميلها، إذ لم تتركه حين مزّقت الشظايا ظهره وظلّ واقفا. لم يقو على الوقوف أكثر فسقط، إلّا أنّه اتّخذ له متّكأ على كتف أخيه تاركًا لقسّام وأمّه، التي كانت زرعته الحياة وسط “عامود سحاب” وأرته النور بعد انقشاعه، فجوة وكوّة.

نام قسّام ملء عينيه ربّما للظلام الدامس الذي كان يلفّه، وللمرة الأولى دون أن تستطيع أمّه أن “توسّده” ذراعها، وإذ تمطّى على راحته حين عفا عن عينيه طول النوم، تناول ثدي أمّه البقي مدلّى على صدرها النائم يدرّ رغم رطوبة جسدها الحمراء الساخنة.

ترك الثدي واللبَان يسيل على ذقنه، وحين أدار عنقه الغض تلقائيا أو راحة له في الاتّجاه المعاكس، وداعب عينيه الصغيرتين النورُ الآتي من الكوّة التي تركها الحائط، حينها راح يحبو متسلقًا الرمال نحو النور وربّما نحو أصوات آتية عبر الكوّة، دون أن تقوى مناداة أمّه إيّاه بعد عجز ذراعيها، على صدّه.

وقف المُسعف المغبّر الوجه والثياب فاقد النطق والحركة وقسّام يحبو خارجا عبر الكوة هادئا يشق طريقه حبوا نحو النور متخطيّا وعورة المكان.

 

القصة الثانية

هادي يفشل في سباقه مع الشظايا!

كان هادي ابن السبع سنوات يركض في سباق محموم مع شظايا القذائف في بيت حانون، يركض في اتّجاه البحر مصمّما أن يغلب الشظايا غير مبال بالألم الذي يقاسيه أخمصا قدميه الصغيرتين من مخلفات القصف التي تملأ طريقه، فالمهمة التي حطّتها أمّه على عاتقيه الصغيرين كبيرة ويجب أن تنجز مهما كان.

لم يكن خيار أمّ هادي والتي لم تتخط بعد الربيع الخامس والعشرين والعالقة بين الركام ورضيعها فادي ابن الربيع ونيف وغزّة ابنة الثلاث ونيف وهادي، إلا أن ترسل هاديًا ابن السبع إلى الغرب مستغلة راحة اتخذتها القذائف ربّما بعد أن كلّت مثلما اعتقدت، لعلّه يأتيها وأخوته ببقيّة حياة كانت قد بدأت تفقدها.

رأى المنقذون عن بعد يدًا صغيرة مضرجّة لجسد مضرّج ترتفع من بين الحجارة المتناثرة في الطريق تشير شرقًا إلى كومة ركام. لم ينجح هادي على ما يبدو في سباقه هذه المرّة كما كان يفعل في الفصل حائزا على المركز الأوّل دائمًا، وكان آخر شيء رآه هادي قبل أن يغمض عينيه بين أذرعٍ حَملْته، أناسًا يركضون نحو الكومة التي بدأت والوجهُ الذي يحمله يغيبان عنه شيئا فشيئا.

هادي لم يعرف ولن يعرف إن كان فشل في السباق، لكن عندما يكبر فادي وغزّة سيعرفان.

 

القصة الثالثة

قطّة هاشم!

عاش هاشم يقاسم قطته الحياة وطعامه رغم احتجاج أمّه المؤمنة أنّ الله يبعث مخلوقاته ورزقها معها، ولكن هاشم والحقيقة تُقال كان يقتطع ما يطعمها من حصته في الوجبة القليلة أصلًا، حريصًا ألا يكون ذلك على حساب حصص أخوته الصغار الأربعة، وربّما هذا ما جعل الأمّ، إضافة لابتسامة الأبّ الهادئة، أن تكتفي بالاحتجاج.

يوم عاد هاشم بالقطّة صغيرة في طريق عودته من المدرسة لم يرُق الأمر كثيرا لامّه، ولكنّها قبلتها مقيمة إضافيّة في البيت الضيق ولكنّه الحنون وليس فقط لأنه من بيوتات “بيت حنون”، وصارت القطّة رفيقة صغارها المحبّبة فأحبّتها “على حبّهم”، وعندما كشفت سرّها دون هاشم والصغار صارت تقدّم لها من حصتها في الوجبة، ولم يسأل هاشم أمّه السبب، المهمّ أنّ تصرف امّه أفرحه وأراحه.

صارت القطة على غير عادتها وبعد تناول الطعام، بدل أن تروح تحك جنباتها جذلى بجنابه وأخوته، تخرج من البيت وتغيب لتعود قبل موعد الوجبات واعتاد أهل البيت ذلك غير قلقين ما دامت تعود، وانكشف سرّها حين عادت يوما يتهادى وراءها أربعة من الصغار. الفرح الذي غزا الأولاد مع دخولها ملأ البيت ضجيجا ولم يطُل حتى كان كلّ صغير بين أذرع صغير صار لاحقا القائم على الاهتمام به في الصغيرة والكبيرة، حتى الصغيرة ابنة السنتين لم تتخلف ولم تتخلف أم هاشم عن مساعدتها في المهمّة.

كادت ذراع هاشم تتمزّق بين قوة ذراع أمّه الراكضة به نحو مدرسة الأونروا وبين جسده الشادِّ إياه عودة نحو البيت، وإذ لم تترك له امّه فرصة وكانت سحبته هكذا بغتة حين بدأت القذائف تنهمر حول البيت، استسلم لذراعها ولغصّة طوقت حلقه وراحت تنهش فيه.

وظلّ هاشم وأخوته في مجمع الأونروا يقتطعون من وجباتهم الحصص والأم تحتفظ بها.

 

القصّة الرابعة

وبقيت عزّة في الصف الأول!

الأشياء التي أثارت استغراب عزّة عندما فتحت عينيها صباحا في مدرستها، مدرسة الاونروا، هو لماذا هي في المدرسة والعطلة بعد لم تنته، ومن أتى بها ومتى، ولماذا أتى الكبار إلى المدرسة، فالمدرسة للصغار، ولم تطلب إجابات على أسئلتها.

رغم حبّها العودة إليها، وكانت قد انهت الروضة وعاشت أيّاما شوقا في انتظار الصف الأول، لكن شيئا ليس طبيعيّا أعادها ومرة أخرى لم يشغلها ذلك، فهي تعرف أنّها كانت قد أغمضت عينيها في بيتهم الصغير على أطراف قريتها “خزاعة” فكيف فتحتهما في المدرسة، لم تعرف ولم تطلب المعرفة، وخطر على بالها الصغير أنّها ربّما الحرب هي من أغمضتهما في مكان وفتحتهما في مكان، لكن لم يكن هذا شاغلها المهمّ على ما يبدو.

عندما شقّت باب الغرفة المزدحمة امتلأت عيناها بعد أن غلبتا ضوء شمس آب اللاهبة بكثرة الناس في الساحة وأمام أبواب الغرف، كانت ساحة المدرسة تعجّ بالصغار والكبار. كان ضجيج الأطفال يملأ الأجواء لعبا ولم تذهب إليهم رغم حبّها اللعب، ما كان يشغلها غير ما يشغلهم على ما يبدو.

كمن يعرف جغرافيا المكان، لم يصعب عليها اختيار الاتجاه إلى الجناح الذي انتظرت الوصول إليه بشغف، وها قد جاء إليها المكان وقبل الأوان، وراحت تحثّ الخطى.

وقفت عزّة أمام باب غرفة كتب عليه “غرفة الصف الأول أ” وهي الغرفة التي انتظرتها أيّاما بشوق، ولم تترد فشقت الباب ودخلت، كانت الغرفة تعجّ تمامًا كما الغرفة التي استيقظت فيها، لم يمهل الانفجار الذي سمُع فجأة الأعينَ التي حطّت عليها أن تسأل غرضَها.

وبقيت عزّة في الصف الأوّل حين قُتل هناك حلمُها أن تصير ممرضة.

 

 

 

 

القصة الخامسة

وظلت القارورة في يد سجى!

(سجى طفلة غزيّة فقدت كل أفراد عائلتها تحت الردم)

حكت لي سجى في زيارة ما بعد منتصف ليليّة وقد افترشتُ وإيّاها كومة ركام غزيّة، حكت:

“إنّها رأت وجه أبيها الجريح في بدر أواسط آب، وما أن رأته حتى وقفت عيناها عن الدمع، فقررتْ ألا تبقى يتيمة الأب وسيكون القمر من هذا اليوم ولاحقا أباها، وتماما كما كانت تنتظر عودة أبيها من غيبته التي لا تعرف سرّها ستنتظر القمر من غيبته التي لا تعرف سرّها.”

وبعد صمت تابعت: “لن أبقى كذلك يتيمة الأمّ فمنذ اليوم أمّي الشمس فليست حرارتها أشدّ من حرارة قلب أمّي ولا نورُها أبهى، ولن أبقى ثاكلا فالزُّهرة وسُهيل أخواي.”

وأضافت: “هكذا لن أبقى وحيدة فعائلتي ستكون دائما معي ليل نهار وحين يغيب أحدها سيكون آخر معي، وصحيح أنّني لن أستطيع بعد اليوم ضمّهم بذراعيّ لكن سيكفيني أن أضمهم بعيني.”

عانى الأنبوبُ الخارقُ جدار بيت سجى وصديقُه القديم، في الأيام الأخيرة عناء شديدا لشحّ في بطنه، وليس لحرارة شمس آب الغزيّة فهذه مقدور عليها، وإنما من نيران مزّقت حناياه.

كانت سجى عائدة شرقًا حاثة خطاها بعد أن عجزت أقدامها عن الركض، وتضمّ إلى صدرها قارورة ماء ينتظرها جفافُ فم قمرها الجريح وشمسُها القاربت مقاومتُها الانطفاءَ النهايةَ ونجماها الباكيان المنطفئا اللألاء، والعرق يرسم على وجهها خطوطًا متعرجة مثلما أراد لها أن تُرسم، لم تستطع رغم الجهد الكبير الذي كانت تبذله أن تتخطى السيل البشرّي المتدفق رهوا غربا وحمَلها معه بعد أن عجزت عن مقاومته.

ظلّت القارورة في يدي سجى ملأى أيّاما إلى أن عادت بها إلى حيث يجب كانت أن تعود، ويًحكى أن مسعفًا قصّ على الأطباء في المشفى والبكاء يخنق حنجرته أنّه التقطها وهي تجلس على كومة ركام بيت في “الشجاعيّة” تسكب ماء من قارورة على قمّة كومة ركام، ولم تقبل أن ترافقه إلا بعد أن تأكدت أن آخر قطرة فارقت القارورة.

 

 

 

الخاتمة

الجفاف!

تتزاحم القصص في فم القلم حتى لم يعد يحتمل البكاء، فجفّ رغم وفرة الدموع فوقف، لكنّه وعد نفسه أن يدرّ مجددا حين يكبر قسّام، وهادي يسبق الشظايا، ويجد هاشم قطته، وتصير عزّة ممرضة، وتسقي سجى قمرها وشمسها ونجميها.

سعيد نفاع

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*