عبد العزيز أبو أصبع عذرًا! – سعيد نفاع

ليس تقليديّا بتاتًا أن يفتتحَ مبدع انتاجَه باعتذار، عبدُ العزيز يفعلُها وفي إصداره الأول، “المحاصرون”، فيكتب:

“أمّا اعتذاري فهو للأموات الذين كان لهم دور مميّز، ولم أملك الجرأةَ الكافية يوم كانوا أحياء، لأواجهَهم بالحقيقة التي أتناولُها بالمسرحيّة، فلهم جلُّ احترامي وتقديري لسطوتهم وإخمادهم لأنفاسي، أنا وغيري ممّن رغبوا بقولها، ولم يقدروا عليها، لأنّنا كنا جبناء. فلهم منّا الرحمةُ، ولنا من بعدهم طولُ البقاء لإتمام دورنا الخالد في مسرحيّة النفاق الاجتماعيّ. اللّهم آمين.”

هذا الاهداءُ غيرُ التقليديّ أحدُّ من حدّ السيف ليس لما فيه من حدّة لفظيّة وجوهريّة، وإنّما لأنّ حدّةَ حدّ السيف كما حدّةُ القول ليست في الحدّة المجرّدة بل في فعل الحدّة في مفعول فعلِها وفاعلِه، ولنا في قوله: “لأنّنا كنّا جبناء”، وفي قوله: ” ولنا من بعدهم طولُ البقاء لإتمام دورِنا الخالد في مسرحيّة النفاق…” البيّنة البائنة.

يوم احتفينا، اتّحادُ الأدباء، برفيق درب عبد العزيز طيّبِ الذكر الشاعر محمود دسوقي يوم 30 نيسان 2015 قلت في كلمتي:

“عندما دمعَ يراعُ الدسوقي على فلسطينَ شعرا لم أكن قد ولدت، وعندما أطلق ديوانَه الثالث: “موكبُ الأحرار” (1963) وأخافَ الموكبُ الحكم العسكريَّ وصودر الديوانُ واعتقل الدسوقي وضُرب وما زالت أجزاءُ من جسدِه الشاهدَ الحيّ حسب شهادتِه، كنّا ما زلنا أطفالا…”

ووجدت في نفسي وأنا أكتب في عبد العزيز، الحاجةَ أن أعيد هذه الحقيقةَ لأنّها تصحّ كذلك فيه، فيوم انطلق عبد العزيز في رحلته النضاليّة في العام 1953، وكان في الصف التاسع، وقام بإقناع طلاب المدرسة بالخروج من الصفّ والانضمام الى مظاهرة تضامنا مع اضراب البلد الشامل ضدَّ الحكم العسكري، وكان أوّلُ اعتقال له وحكمت عليه المحكمة بدفع 100 ليرة، على ذمّة الكاتب محمّد علي سعيد، لم أكن ولدت يومها. وعندما أطلقوا ثلّةٌ قوميّة، في زمن عزّ فيها الطرحُ القوميّ، حركةَ الأرض، كنت طفلًا في الخامسة من عمري، وحين خاضوا معركة بقائها في مواجهة المؤسّسة وذوي قربى، لم أكن في جيلٍ يسعفني أن أعرفَ هؤلاء الناس وعن هؤلاء الناس، ولكن لاحقاً وبعد أن بلغت فأيُّ تبريرٍ غير مقبول!

أكتب هذا الكلام لأنّي مدين لعبد العزيز باعتذار وإن ليس لنفس الأسباب ولا من نفس الأسباب التي وجد هو نفسُه مدينًا باعتذار لمن سبقه. المرّة الأولى التي أعرف فيها عبد العزيز كانت حين هاتفني وتبادلنا حديثًا طويلًا أوائل العام 1999 قبيل الانتخابات البرلمانيّة وكنت أقود المفاوضات من قبل التحالف الوطني (هاشم محاميد) مع التجمع الوطني (عزمي بشارة)، وحين كان أبو أصبع من قيادة لجنة المبادرة القطريّة للوحدة الوطنيّة، ولم تسنح لي فرصةُ الالتقاء به إلّا عام 2014 خلال التحضير لإعادة تنظيم اتّحاد الأدباء، وكان طويلَ باع في الاطلاق، ومن الوجوه البارزة نضاليّا وثقافيّا التي شاركت في المؤتمر التأسيسيّ (إعادة البناء) في حيفا يوم 19 حزيران 2014، وظلّ عضوِا بارزا في الاتّحاد حتّى فارقنا.

قبل أشهر قليلة تمّ بيننا، عبد العزيز وأنا، وبناء على قرار هيئات الاتّحاد بتكريم الرعيل الأول من كتّابنا، الاتفاقُ أن ننظّم حفل تكريم خاصّا بعبد العزيز، ولكّن يدَ الموت اختطفته منّا وقبل أن نفعل… فعذرًا عبد العزيز!

لكنّ “العذر” موضوع العنوان هو ليس هذا، هو اعتذار منّي شخصيّا، وأعتقد أنّ كثيرين غيري مدينون به لك ولأمثالك، اعتذارٌ عن جهلنا إيّاكم ودورَكم الطلائعيّ النضاليّ القوميّ والثقافيّ النضاليّ، كلَّ هذه السنوات، رغم إنّنا ومنذ فتوّتنا كنّا في الصفّ الذي من المفروض كان أن يكونَ وإيّاكم في نفس المتراس.

قلت احتفاءً برفيق دربك النضاليّ والثقافيّ الشاعر محمود الدسوقي:

“عندما قرّرتْ الأمانة العامة تكريمَه، انطلقت من قناعتها أنّ “محمود” من الشعراء الذين غُمط حقُّهم وفقط لأنّه شبّ وترعرع وأبدع كقوميٍّ عربيّ، ولأنّ حركتَنا الأدبيّة مارست في فترات من عمرِها وما زالت في بعضِها تمارس “الشلليّة”، وسياسةَ “حك لي أحك لك” أو في لغة العصر الفيسبوكيّة “ليّكْلي حتى أليّكْلَك”، فيكفي أن تحازبَني أو تشاركَني انتماء أو “تشاللَني” لتصير فارسَ الكلمة الذي لا يُشقّ لك غبار، حتى لو كنت تعيدُ الحياةَ وعظامُها رميم للمدرسة البرناسيّة (الأدب للأدب) ليبقى الوطنُ وهمومُ أهلِه من كلمتِك براء.”

نعم يا عبد العزيز أيّها الدّمث صاحب القلب الواسع، عذرًا!

ولعلّ بعض عزاء لنا في الحقيقة، أنّا ومنذ انطلقنا عام 2014 في الاتحاد سويّا نقشنا على رايتنا القناعة القائلة:

الحركةُ الثقافيةُ، كلّ حركة ثقافيّة، بأدبِها وفكرِها وفنّها لدى كلّ شعب يرنو العلا، تتقدّم الصفوف بخطواتٍ، وكلما كانت هذه الخطواتُ واسعةً كلّما كانت الشعوبُ إلى رُقيّ، ففي تاريخِنا نحن، وعندما نخرّ السوسُ حياةَ دولتنا السياسيّة ظلّت حركتُنا الثقافيّة في انطلاق لأنها تقدّمتها بخطوات، ولنا في القرون الثاني عشر وحتى الخامسِ عشر الدليلُ، وقبل أن يحشرَها العثمانيّون ولأربعةِ قرون بعدها في ذيولِ الصفوف هذا إن أبقت على صفوف، إلى أن انطلق روّادُها باعثين الحياةَ فيها في خضم بحرٍ من الأعداء ألدِّهم من بين ظهرانينا.

لم تتخلّفْ عن الركبِ المنطلقِ حركتنا الثقافيّة الفلسطينيّة ولكنها تعرضّت عامَ النكبة 1948 لعمليّة بترٍ ألدَّ وفي عزّ فتوتِها، إلا أنّه قام من بين الرماد روادٌ فأشعلوا نارَها رمضاء، ولكن البعضَ أراد لحركتِنا الثقافيّة أن تخطوَ حسب إيقاع طبولِ الصفوف التي ولّدتها النكبة رُعبا عند البعض من الغزاةِ الجدد وبندقةَ “أدلجةٍ” عند البعض الآخر تزلفا للغزاة الجدد، ولأنّ عبد العزيز أرادها نقيّة من النفاق السياسيّ والاجتماعي لا رُعبَ ولا تزلّف، ظلّ أو جُعِل أن يظلّ في الظلّ، وبُزّغَتْ شمسُ آخرين بعضُهم بحقّ وبعضُهم دون وجهِ حقّ.

اتخذ الرعبُ اليومّ عند ذاك البعضِ أشكالاً أخرى لا تقل خطورة على حركتنا الثقافية تجللها الانتهازيّة، وعند البعض الآخر اتخذت “الأدلجةُ” ألوانا أخرى تكللها الفئويّة، وما زال أصحابُها يصنِّفون الكلمةَ حسب أحرفها والعَلم، لا حسبَ جوهرها والقلم.

عبد العزيز عذرًا، ولكن…

الظلّ بعد النكبة واليومَ قابضا على عروبته وقوميّته ووطنيّته وكم بالحري في زمننا “زمن وطنيّة الرفاه”، كان وما زال كالقابض على الجمر، بدء في وجه حاكم عسكريّ فاشيّ، واليومَ في وجه خائف متحزّب أو جزوع “شلليّ” أو راجفٍ رفاهيّ من لظى ووهج الجمرات، فلا تستغربنّ أن مثلَ هكذا قولٍ ومثلَ هكذا قائلٍ تُذرى فوقَهما الرمالُ.

كلُّ الشعوبِ والأقليّاتِ منها حصرا، ترقى وتتخلّف طبقا لأساسين اثنين، حراكِها السياسيّ الاجتماعيّ وحراكِها الحضاريّ الثقافيّ، ويتناسب رقيُّها طرديّا وسلبيّا مع هذين الأساسين. حراكُنا السياسي الاجتماعي نحن الأقليّةِ العربيّةِ الفلسطينيّة في وطننا مأزومٌ، وحراكُنا الحضاري الثقافيّ وإن تخطّى بأمثال عبد العزيز هجماتٍ كبرى وعلى الغالب من أعدائِه، إلا أنه يتعرّض اليوم لهجمات لا تقلّ خطورةً ومن أصحابِه.

المهددُ اليوم هو ليس وجودُنا الجسديُّ في وطنِنا، المهدّدُ هو شكلُ هذا الوجود، فإما وجودٌ يقوم وفي صلبِه الانتماءُ العربيّ المشترك المتنوّر، أو وجودٌّ ظلاميّ مشوهٌ في صلبه الانتماءات الثانويّة طائفيّا ومذهبيّا وفئويّا انتهازيّا، في الأوّل بقاؤُنا وأما في الثاني فاندثارُنا.

هذا هو التحدّي الأساس أمام حركتنا الثقافيّة وهذا دورُها، وحتى تحملَ هذا التحدّي وتقومَ بهذا الدور، يجبُ أن تُنظّم وحدويّا وعلى أساس هذه البوصلة حفاظا على جوهرِ وجودِنا ورقيِّه.

وهذه هي البوصلةُ التي اعتمدها الاتّحاد في انطلاقته، البوصلة التي أردتَها يا عبد العزيز لشعبك، ونأمل ألا تضِلَّ عقاربُها عن كوكب الشمال مهما ادلهّم الليل، وكي لا تضلُّ لا بدّ أن نعمل كذلك على عزل “الرمّالين” ونفضِ الرمالِ التي ذروها عن كلّ جمرة (كلمة) أدخلت الدفء لخيمة طفل فلسطيني يوم كان حتى المقرورُ في ربوعِنا يخاف القربَ من الجمر، واليومَ حين صار الجمرُ (القول) بلا دفء.

كلماتك يا عبد العزيز:

“نحن سكّان هذه المدينة العظيمة، صغيرها وكبيرها، شبّانها وشيوخها، رجالها ونساؤها، نقدّم مشهدًا بهلوانيّاً ونضمُّه إلى مسرحيّة العرب الكبرى الهزليّة في هذا العصر… مشكّلين بذلك مع بقيّة الفصول والمشاهد الأخرى، ملحمةً متكاملة في هذا الزمن الأغبر…”

كلماتُك هذه في إهداء “المحاصرون” وما جاء بعدها، جمراتُ دفء كانت وما زالت وستبقى رغم الرمال ورغم “الرّمّالين”.

طابت ذكراك وعطُر ثراك!

سعيد نفّاع

الأمين العام ل: الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48

الإنتاج: أواسط حزيران 2020

الإخراج: الطيبة، اليوم 22 أيّار 2021 يوم الاحتفاء بالذكرى

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*