لم تحظ مدينة في الدنيا، ما حظيت به مدينة القدس من حضور لافت في الشعر والأدب العربي المعاصر، وذلك لأهميتها التاريخية، بقدسيتها وتراثها، وباعتبارها قلب فلسطين النابض وعاصمتها، وإننا لعلى ثقة ويقين أنها على كل لسان فلسطيني وعربي.
فالقدس تمثل في الأدب موتيفًا ومركب من خاصيات تاريخية وثقافية ومكانية وأسطورية ترتبط بها كمكان إنساني معيش، وكرمز كنعاني وفلسطيني وتاريخي وديني، وما تثيره هذه الخاصيات من انطباعات ولواعج وأحاسيس ومشاعر وجع وألم، وما تعنيه من ايحاءات ودلالات ذهنية تلتحم بوعي المبدع والشاعر الفنان، وتشكل جماليات الصورة للمكان.
والقدس ليست فكرة فحسب، بل هوية وانتماء، وارتباطنا بها وجدانيًا، ويحمل أبعادًا وطنية وقومية وسياسية واجتماعية ودينية. ولا أظن أن أي شاعر فلسطيني لم يذكر القدس في شعره، ولم يتغنَ بها وبمجدها. ولعل الأرض الفلسطينية تنبت شعراء يحملون الهم الوطني والوجع الفلسطيني، والقدس تمثل كل ذلك في مشاعرهم وأحاسيسهم ووجدانهم.
وتقف شاعرتنا الفلسطينية المبدعة ابنة طرعان الجليلية د. روز اليوسف شعبان متألقة بقصيدتها الرائعة “زهرة المدائن” التي تضمنها ديوانها الشعري “أحلام السنابل”، حيث تمزج فيها التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل بكل صوره، وتصف فضلًا عن البعد التاريخي، المعاناة الخاصة لأهلها، والصورة الذهنية، فتقول:
في غنجٍ ودلالٍ تمخطرتْ
أمام تاريخٍ مضى وتاريخٍ آت
حمرةٌ مشوبةٌ بخجلِ العذارى
يخطُفُ الأبصارَ
وجديلةٌ مطوقّةٌ بتاجٍ ذهبيَ
يأخذُ بمجامع الألباب
في غنجٍ ودلالٍ تمخطرتْ
تنتصبُ أمامَها أشجارُ الزّيتون
تعلو فوق أسوارٍ
تمتدُّ بعيدًا في الآفاق
تروي قصصًا مضتْ
وقصصًا ستُروى
لتاريخٍ آت!!
في غنجٍ ودلالٍ تمخطرتْ
في شموخها رائحةُ البخور والعنبرِ
تعبَقُ في فضاء الأسواق
تخترقُ الكنائسَ
والمساجدَ والآفاق
تنشُدُ مزمورًا
مُلفّعًا بالأماني والأشواق
في إبائها تمضي
تروي حكاياتٍ جسامًا
يبوس وأورسالم وإلياء
المسيحُ بنورهِ
وأحمدُ في معراجِهِ إلى السّماء
صلواتٌ للمحبّةِ والإخاء
في عَليائها تسمو
ترنو إلى ذُخْرِ الأمجاد
تطوي قصصًا
تعبقُ
بتاريخٍ مضى وتاريخٍ آت!!
تنشدُه
في سكينةٍ واعتداد!!
هذه القصيدة التي تقدم وتشرح نفسها دون عناء، بمنتهى الروعة والفتنة، وتتبدى فيها ملامح الأصالة، والشعور الوطني العفوي الصادق، وقد أبدعت الشاعرة في مبانيها، ومعانيها، وسبكها في نسيج متكامل الترابط، متسلسل الصور، متتابع الأسلوب، سهل اللفظ، رقيق التعبير، خفيف التلقي. إنها قصيدة عذبة وحريرية وشفافة إلى أبعد الحدود، تثبت وتؤكد على شاعرية روز شعبان، وعلى موهبة غير متكلفة، وذات إحاطة بما تريد قوله والبوح به، من المعاني والصور والأبعاد التاريخية والمكانية والجمالية والفنية.
أستاذة روز اليوسف شعبان، أجدت الوصف والتعبير، فبورك حرفك ويراعك وإحساسك الوطني الباذخ، ودمت في عطاء وتألق متواصل، ودامت القدس في شموخٍ وإباء.