شارك الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل48 بوفد كبير في الأمسية الاحتفائيّة بصدور مجموعة أستلّ عطرًا لعضو إدارة الاتّحاد الكاتب والشاعر فهيم أبو ركن. وحضر الأمسية نخبة راقية من الأدباء والشعراء ومحبّي الأدب من الجليل المثلث والكرمل.
شارك في تقديم الفقرات رئيس مجلس البلد المضيف رفيق حلبي، والأمين العام للاتّحاد الكاتب سعيد نفاع الذي قدّم كلمة الاتّحاد، والكاتب فتحي فراني وقد قدّم المداخلة الرئيسيّة حول المجموعة، وشارك أيضًا كل من الشاعرة الفنانة ملكة زاهر، والشاعر عادل كيوان، الإعلامية رلى زعبي والشاعر فؤاد منصور. تولّت عرافة الأمسية الكاتبة آمال أبو فارس عضو الاتّحاد. ومسك الختام كانت فقرة زجلية للشاعرين توفيق حلبي وحسون حسون.
كلمة \ تحيّة الاتّحاد- سعيد نفّاع:
الأخوات والأخوة!
لن أستلّ هذا المساءَ عطرًا من “أستلُّ عطرًا- فهيم أبو ركن”، هذا سأتركه لزميلنا، زميلِ فهيم وزميلي، في أمانة الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل48 الأديب فتحي فوراني ليستّل كيفما يشاء، وأنا على ثقة أنّه “مستلُّ عطرٍ قدها وقدود”!
أنا وفي تحيّتي هذه باسم الاتّحاد العام للأدباء سأستلُّ عطورًا من حقول أخرى، على الأقلّ حقلين، استلَّ ويستلّ فهيمٌ منهما العطر.
فهيم وعلى مدى خمسة عقود، بدءًا ب”بحر النور” مجموعته القصصيّة الأولى مرورّا بروايته “العبوة النازفة” وانتهاء بعاشرته “أستلّ عطرًا”، اختار أن يرعى في الحقل الثقافيّ، فالموهبةُ إن لم يرفدْها الاختيار لن تنطلق، اختار وهو يعلم كما نعلم كلّنا أنّ الرعيَ في هذا الحقل من حقولنا لا يروي من عطشِ حلقٍ ولا يُشبع من جوع بطن، لا بل يزيد الرعاةَ عطشَ حلوق وجوعَ بطون.
لكنّ عزاء هؤلاء هو في إيمانهم بأنّ العقولَ أولى من البطون إرواء وإشباعًا.
فهم الظُلّام ومنذ البدء أنّه وكي تستعبد البشر، أمّة كانوا أو شعبًا في أمّة أو طائفةً في شعب أو مجتمعًا في طائفة، ما عليك إلّا أن تقطع جذورَهم الثقافيّة (غذاء العقول) وتجعلَ لقمة عيشهم (غذاء البطون) في يدك ومنها، من لقمتهم وعلى طريقة “من ذيلُه واعمل لُه شباق”، اتخِم بطون الزُلم بين ظهرانيهم!
وفهم فهيم وفهِمتْ الثلّةُ التي قرّر فهيم أن يكون منها ويرعى في مرعاها كما فعم أقرانهم في كلّ مكان وزمان، أنّ الثقافة هي ضمانةُ البقاء الكريم للبشر وجسر عبورهم نحو الحياة الأفضل. ولنا في حملة مشعلِ الثقافة بين الشعوب ألفُ مثل ومثل، ولعلّ لنا في مفكّري الثورة الفرنسيّة المثلَ الساطع، فقد عبروا نحو الثورة شاقّين الطريقَ قبل أن يعبر الثوّار.
وها فهيم يقول، وما أشبه اليوم بالأمس:
ها أنا أفتح صدري
فأطلقوا نحوه النارْ
لن تقتلوا فيّ الروحْ
وإن أثخنتم الجسدَ،
لن تقتلوا فيّ الروحْ
لن تقتلوا فيّ الروحْ
ويقول في القاسم فارس المنابر:
رغم عواصف الجراحْ
وأنين الرياح
يا من جُبلت من كفاحْ
عليك أشهِر وردًا…
أستلّ عطرا منك فاحْ
الأخوات والأخوة!
في بياننا الافتتاحيّ للمؤتمر الثقافي الأوّل عرّابة تشرين الأول 2019، قلنا:
“نحن هذه الفئةُ من حَمَلةِ القلمِ والريشة والإزميلِ والصوت، وكما ومع كلّ فئات أبناء شعبنا؛ العمالِ والموظّفين والفلاحين على ندرتِهم، والسياسيّين والمرأةِ فينا والرجل، لا فضلَ فينا لفئة على أخرى إلا بالتقوى، والتقوى في سياقنا هي مدى استعدادِ كلّ منّا أن يخرج من دائرته الصغرى والانكفاءِ على الذات إلى الدائرة الأوسعَ والذاتِ الأوسع.”
ونقول اليوم: نحن كأقليّة عربيّة في بلادنا بكلّ أطيافها بدأ يغلب علينا اليوم الانكفاء نحو ذواتنا على حساب الالتفات نحو مجتمعاتنا، يغلب علينا تساؤل الماغوط على لسان غوّار: “التطوشو؟!” و- “التبرشو؟!”. نعيش عزوفًا عمّا هو عامٍّ بنّاء ونقدّس كلّ ما هو خاصٍّ ومنه حتّى الهدّام، وتغلب علينا “العيشة لليوم اللي انت فيه” مبهورين بلمعان ألوان “جيبّات الليسنغ”.
شرعيّ أن يعمل المرء على “الأنا”، ولكن عندما يقتصر الأمرُ على “أناه” دون ال”نحن” فهذا من مِيزات المجتمعات المتخلّفة التي ستنهار عند أوّل منعطف، فلا بقاء ل”أنا” دون ال”نحن”!
فهيم فهم هذه القاعدة وخرج عن الدائرة الصغرى “الأنا” والانكفاء عليها إلى الدائرة الأوسع والذات الأوسع “النحن”، خرج بإبداعه يستلّ عطرًا نثرًا وشعرًا، وخرج باستعداده على العمل والنشاط التطوّعي “التبرّعي” “التضحويّ” عمومًا وفي صفوف الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل 48 عضوّا في أعلى هيئة فيه؛ الأمانة العامّة، يستلّ عطرًا من الحقل العام عاملًا على تنظيم الحركة الثقافيّة ونشر رسالتها الثقافيّة.
هذان هما الحقلان الخصبان المُشبعُان عطرًا أصيلًا من الزعتر والرتْم وشقائق النعمان والملّ والبطم والسنديان.
وهذا خير ما اخترت يا فهيم، فهنيئًا لك ولنا هذا الاختيار!
أما المداخلة الرئيسيّة – فتحي فوراني:
لنا عطرنا.. ولكم سيوف الجاهلية!
أيها الإخوة والأحبة… اسمحوا لي أولا أن أحيي الإخوة والأساتذة الذين عملوا على التحضير لهذه الأمسية الثقافية المميزة. فمثل هذا النشاط الثقافي المبارك يشكل ردًّا ثقافيًّا حاسمًا على الزمن المشوّه.. وردًّا على رياضة الطخ القومية التي تنشر سمها زعافًا في وطن الآباء والأجداد. فبوركتم أيها الأحبة.. وبورك عطاؤكم الحاتمي.
**
البرقية الأولى… قالت العرب: خير الكلام ما قل ودل. وهذا طلبه “الباب العالي” المسؤول عن تنظيم هذه الأمسية. فقد جاءني أمر “عسكري” ناعم من المبدعة العزيزة آمال بو فارس، طالبًا مني الإيجاز، وكنت قد فكرت في كتابة دراسة أدبية شاملة عن ديون “أستل عطرًا” للصديق المبدع الأستاذ فهيم أبو ركن. وأمام هذا الأمر.. لم يكن أمامي مفر.. وقلت في نفسي: أمري لله. لم يبق أمامي إلا أن أمتثل إلى أمر السلطان وألا أعصَ له أمرًا. ولأن الحديث طويل والزمن بخيل.. كان لا بد من اللجوء إلى لغة البرقيات التي تنتمي إلى عصر السرعة.. والتقيد بالأوامر العليا الصادرة عن المؤسسات الإدارية راعية هذا المساء في هذا البلد.
وهذه البداية تشكل البرقية الأولى.
**
البرقية الثانية: أيها الإخوة… من حيفا وبحرها جئت إليكم.. إلى أهلي وأحبتي وأصدقائي وطلابي الذين علمتهم عشق اللغة القومية في الكلية الأرثوذكسية العربية. لقد تخرج من معطفي العشرات والمئات من أبناء وبنات الثنائي الكرمليّ دالية الكرمل وعسفيا.. ولي علاقات حميمة مع العديد من الإخوة والأصدقاء والكتاب والشعراء والمثقفين من أبناء هذين البلدين الكريمين.. وبيننا عيش وملح واحترام متبادل ومحبة نبيلة وأصيلة لا أحلى ولا أجمل..
**
البرقية الثالثة: أحيي عريس الأمسية التكريمية الأستاذ المبدع فهيم أبو ركن على عطائه الثقافي وإبداعه المميز. يكفيه فخرًا أنه يعمل جاهدًا من خلال “دار النشر الحديث” على دعم الكتاب والشعراء في هذا الوطن. فـدار “الحديث” أصدرت ما يقارب الأربعين إبداعًا شعرًا ونثرًا لشعراء وكتاب هذا الوطن. ومواسم الخير على الطريق..
بالإضافة إلى صحيفة “الحديث” شاملة المضامين وواسعة الانتشار.. تنضم الأمسيات الثقافية والتكريمية التي كان لي شرف المشاركة في معظمها..
**
البرقية الرابعة: في الوقت الذي تسوده ثقافة استلال السيوف ومناطحة عبس وذبيان وقيس ويمن.. وتجري من تحتهم أنهار الدماء الزكية.. يقف صاحبنا المبدع الأستاذ فهيم على قمة كرملية عالية أبية.. متصديًا لصليل السيوف الجاهلية.. يستل الشاعر عطرًا ويشهر إبداعه الإنساني في وجه العصبية الجاهلية الحديثة.
يرفع الشاعر الراية.. ولسان حاله يقول.. لهم سيوفهم ودماؤهم.. ولنا وردنا الذي يتدفق عطرًا يملأ شذاه الكون.
**
البرقية الخامسة: في هذا الزمن الأغبر والمشوّه يكثر الدجل الشعري ويحفل المشهد الثقافي بالشعوذات البهلوانية المقنّعة بالزيّ الشعري.. فنقرأ كلمات عجماء ليست كالكلمات.. كلمات مدججة بالغموض المجاني والتعقيدات التي يستحيل فهمها وفك طلاسمها حتى على الفئة المثقفة. وهذه الخطيئة الملثمة والمقنعة بالزيّ “الإبداعي” وفدت إلينا من عصر ما بعد بعد الحداثة.
وعلى الضفة الأخرى نلتقي فئة أخرى أصيلة يجري في دمها عشق اللغة العربة.. تقف عينًا ساهرة.. وحارسة لأسوار اللغة وقلاعها الحصينة. ويحمل عريس هذه الأمسية شهادة انتماء إلى كتيبة الإبداع الأصيل. فعندما ندخل دواوين شعرائها نشعر بفرح الإبداع وينفتح أمامنا عالم المتعة الأدبية الشهية. فالأدب متعة.. وعندما تفتح الكلمة الشعرية الصادقة أبوابها وتعانق المتلقي وتحتضنه وتضمه إلى صدرها.. يحدث زلزال من الفرح على درجة عالية في سلم ريختر الإبداعي.
**
البرقية السادسة: لعريس هذه الأمسية الأستاذ المبدع فهيم أبو ركن.. حضور بارز.. وبصمات خضراء.. على المشهد الأدبي في هذا الوطن.
ومن أبرز الملامح في شعره أنه يمتاز بالصدق والإنسانية والبهاء والنقاء ووضوح الرؤية.. وهي من سمات المشروع الشعري التي نقرأها في الديوان “أستل عطرًا” بأقانيمه الثلاثة.. الوطنيات والوجدانيات والرثائيات.
فالشاعر حامل رسالة! ويسعى لمعانقة شمس الحرية!
**
البرقية السابعة: لقد جمع الشاعر مجد الإبداع من طرفيه.
يلتزم الأستاذ فهيم في مشروعه الشعري بمبدأ الحياد الإيجابي، فنراه يقف على مسافة واحدة من حدائق الشعر الكلاسيكي من ناحية، وحدائق الشعر الحديث، من ناحية أخرى.
لقد حافظ على علاقة طيبة مع الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي أهداه ستة عشر بحرًا من البحور الشعرية، فخاضها بحرًا بحرًا وأتقن السباحة والغوص فيها لاستخراج الدرّ الكامن في أعماقها الإبداعية..
وفي الوقت ذاته حافظ على الصداقة الحميمة مع المبدعة العراقية نازك الملائكة التي كشفت أسرار التجديد في كتابها “قضايا الشعر المعاصر”.. ففي هذا الكتاب خبأت نازك مشروع انقلاب على الخليل بن أحمد الفراهيدي وبحوره الشعرية.. وأصبح شعر التفعيلة الذي بدأ خجولًا.. سيد المشهد الشعري.
**
البرقية الثامنة: مبتعدًا عن التعقيد وعلى طول الطريق من الوطنيات إلى الوجدانيات إلى الرثائيات، ينتقي الشاعر في نصوصه العبارة الشعرية الصافية التي ترتدي رداء الصدق والخارجة من القلب لتصب مباشرة في القلب. فكلمته خارجة من أعماق قلبه وتعبر عن مشاعر صادقة تدخل إلى القلب بلا شور ولا دستور. في كتابه “فن الشعر” يقول أرسطو إن “الأدب عملية إيصال”. وشاعرنا حمل العبارة الشعرية وأطلقها إلى المتلقي.. فوصلت سالمة غانمة.. واكتملت عملية الإيصال الأرسطية.
**
البرقية التاسعة: لا أستطيع في الوقت المعطى أن أغطي الأقانيم الثلاثة الوطنيات والوجدانيات والرثائيات. فالحديث طويل والزمان بخيل. سأركز على حديقة الوطنيات. فالشاعر الذي يسيل نبعه رقراقًا ناعمًا في الوجدانيات.. يرتدي رداء نبي الغضب الذي يُخرج من جعبته سهامه ويطلقها على خارطة الدنيا العربية. يقف الشاعر على منبره بركان غضب رافضًا حال الأمة العربية.. وهو بهذا ينضم إلى كتيبة شعراء الرفض ومن رموزها نزار قباني ومظفر النواب ومحمد الماغوط وأحمد مطر.
غير أن عشق الوطن وحرارة الانتماء القومي هي ما يميز هذه الوطنيات.
**
البرقية العاشرة: كلمة عن الملامح الأسلوبية في “أستل عطرًا”. إذا ألقينا نظرة سريعة إلى الجعبة الإبداعية التي يحملها الشاعر، يتكشف أمامنا التناصّ مع المتنبي وطرفة بن العبد والانزياحات والتكرار والتوكيد وتوظيف الرموز التاريخية والتراثية والأسطورية. هذه الملامح هي الخطوط العريضة التي تميز قارورة العطر التي يحملها الشاعر ويستل منها ما طاب له ويرشها مسكًا على هذه الأمسية الثقافية.
**
أخيرًا.. يأبى الختام إلا أن يكون مسكًا، بوركت أيها المبدع العزيز حامل قارورة العطر الشذية، سلمت يا أبا سليمان ودامت ينابيع إبداعك الحاتمية… والسلام عليكم والسلام على زهرة المدائن التي تتطلع إلى حياة حرة كريمة لا تعرف معنى الدموع والأحزان. فشعبنا لن ينام وشراع الحق حطام… وكل عام ونحن جميعا بألف خير