ألحكومة من أمامكم..والطناجر الفارغة من ورائكم!
ينادي المنادي أبو شادي ويجوب السهل والوادي..والأزقة وطرقات الحيّ الترابية..ويجلجل صوته عاليًا: يا سامعين الصوت..صلوا ع النبي..بلاغ صادر عن “الباب العالي”..سنحبس عنكم الماء..بدءًا من السابعة صباحًا وحتى إشعار آخر..فاستعدوا يا أخاير..واحتاطوا واملأوا البراميل والطناجر!
وتعلن نساء الحي حالة الطوارئ..فقد قمن فارعات دارعات..ونضَون الثياب عن السواعد..وبدأن بالبراميل..ثم الطناجر..ثم ألحقنها بالأباريق والجرار والقناني والخوابي والزهريات والكاسات والطاسات والغلايات..ولم يبق إناء فارغًا..تحسبًا واحتياطًا وخوفًا مما تخبئه الأيام القادمات
مخزن الذخيرة يكفي ثلاثة أيام وثلاث ليال..والحمد لله على كل حال!
**
تقترب الساعة..وينشق القمر..وتنفد آخر قطرة من احتياطي الماء قبل عودة المياه إلى مجاريها..يسيطر القحط والمحل والجفاف..تبحث عن شربة الماء مشتهاة فلا تجدها حتى في علب العرائس!
يا أهالي الحيّ الكرام..الحكومة من أمامكم..والطناجر الفارغة من ورائكم..فليس لكم والله إلا عين العذراء!
عليكم بها..ففيها الدواء والشفاء من داء انقطاع الماء!
**
يا نسيم الروح قولي للرشا لم يزدني الوِرد إلا عطشا *
أما “عين العذراء”..فنبع خير ثرّ لا ينضب..هنا ماء الحياة
هنا عذب ماء لم تلوّثه يد الحضارة..بارد في الصيف ودافئ في الشتاء…
كنيسة البشارة..أم الخير..ورأس النبع..
ومن هذا النبع يعبّ الأهل في الناصرة..يعبّون يعبّون فلا يتعبون ولا يرتوون..فتزداد وجوههم نضارة ويزدادون شبابًا!
يا نسيم الروح قولي للرشا لم يزدني الوِرد إلا عطشا
يقول الراوي: كانت العين عينًا..وكانت العذراء عذراء
وقبل أن تطأها أقدام الحضارة!..
كنّا نتشعبط على الحيطان..ونعتلي سطح العين..ونتفرج من عل على الازدحامات والمزاحمات والمدافشات والطوشات والاشتباكات بين “روّاد” العين الصغار ورائداتها من النساء والصبايا
*
* تتساقط الأكاليل..وتنحل دكة السراويل
نجلس على سطح العين ونشاهد ما تحتنا بالبث الحيّ والمباشر
ساحة الوغى تغصّ بالفتيات والنساء اليعربيات المقاتلات
نستمتع بالمشهد!..
يطلّ الفتية الصغار من فوق سطح العين ويقومون بدورهم في صبّ الزيت على النار! فيقدمون مساهماتهم المباركة في إشعال نيران الطوشات..قشورالبرتقال تتساقط على رؤوس المتشاجرات..وتتناطح على الرؤوس الجِرار..فتتساقط الأكاليل..وتنحل دكة السراويل..وتنهمر الألفاظ النسائيّة “المنتقاة” على الطبلية..والخارجة من “الخيرات” اللاذعة التي يحفل بها قاموس الأبجدية..ويتدفّق سيل هدّار من تحت الزنّار..وتفيض عين العذراء..بما تيسّر من إبداعات الهجاء!
ونستمتع أكثر حين نسمع “التشاقيع” المغروفة من قاع الدست..والتي تجد طريقها إلى ما تحت الزنّار فنازلًا..وتصب في أقصى الجنوب..في المناطق الاستوائية!
ونشارك في عرس “الولدنات” والمشاغبات و”الطوشات” الصغيرة حول حقّ الأولوية في دلو من ماء زمزميّ تجود به السيدة العذراء..على عباد الله البؤساء!..
وتتصاعد وتيرة الازدحامات والطوشات وتنهال الشتائم النسائية
المقذعة التي لم تترك عضوًا في جسد الأنثى إلا وأجهزت عليه
ولعنت أبا أبيه وأم أمه وأخت أخته..وقضت عليه قضاء مبرمًا..
تشليخ الشعر وتمزيق المناديل وحل الشنتيان..سادة المشهد..وسادة المرحلة!
مشاهد فولكلورية نقائضية هجائية جريرية فرزدقية بامتياز
يعجب المشهد الصبية الصغار..فيصفقون ويصفّرون ويطلقون صيحات النصر و الفرح..عندما يشتبك الطرفان..فتسقط صبيّة..ويتمزق منديلها..ويسيب شعرها..ويُحلّ زنّارها
وتثور “الحميّة”..وتزداد ثورة الفريقين اشتعالًا..وتخيّم رائحة البارود على الجوّ في هذا المشهد الرائع!
كانت مشاهد فولكلورية نقائضية هجائية جريرية فرزدقية عبسية ذبيانية ممتعة..لا أحلى ولا أجمل..وخاصة في نظر الفتية الصغار..الذين يعشقون “الفرجة” على الطوشات الحماسية التي يقوم بها الكبار من الصبايا والنساء..ويستمتعون بوابل المسبّات المقذعة التي تمطرها الفتيات اليعربيات..فارسات “الطوشات”..وأميرات المشهد!
وتنتهي المعركة بثلاث فتيات يحملن على رؤوسهن ثلاث جرار مائلات..ويسرن مختالات يحملن لواء النصر في معركة الماء
إنه فولكور شعبي بامتياز!
**
يلتقي العقربان..ويتعانق العاشقان*
وحول العين قصص وحكايا..يُهتك الستار..عن كثير من الأسرار..وتتبادل الصبايا حكايات العشق والأخبار!!
الدنيا ليل!
عقربا الساعة متأهبان..إنهما على موعد مع العناق!
تولد الحكايات..ويماط اللثام عن الأسرار النائمة في مكامن الحرمان..وعلى ضوء القمر..يولد العشق العذري..وتكون نظرة فابتسامة فسلام فكلام..وبلوغ أقصى ما تطمح إليه الأحلام..قبلة “عذرية” حرّى تحت جنح الظلام!
وينبري المشاغبون المراهقون لممارسة ولدناتهم وطموحاتهم لهتك الحجاب عن أسرار الليل!
فالليل أبو ساتر!
ستر الله على ولاياكم وعلى أعراض العباد!
**
حكاية خالتي أم جورج..وطرفة بن العبد النصراوي*
في الناحية الأخرى من عين العذراء..من الطابق الثاني..تطل أم جورج جرايسي عقيلة أمين الشاويش..على المشهد الفولكلوري
المشهد جميل ومثير للفضول..غير أنها لا تملك الموهبة اللازمة للمساهمة في الطوشات الشعبية..وتعترف بينها وبين نفسها عن عجزها على مجاراة الأخريات في مباريات “التخصصات” الشتائمية!
*
إذا القوم قالوا: من فتى!؟ خلت أنني عُنيت فلم أكسل ولم أتبلد
فأين أنت يا عبد الله؟ أين أنت يا صديق طرفة بن العبد وتوأم روحه!؟
لتحقيق الحلم بالحصول على تنكة من الماء الزلال..تتوجه العيون إلى عبد الله..
يكون الصبي على أهبة الاستعداد.. فينبري متطوعًا..ويوكل له أن يقوم بهذه المهمّة..ويكون مبعوثًا خاصًا لأم جورج..إلى العين..ساحة الوغى!
الدنيا منتصف الليل!
يلتقي العقربان في رأس الساعة..فيتعانقان عناقًا شديدًا..ثم يفارق الأكبر الأصغر..ويلتقي العشاق في الحدائق الخلفية..ويشق العقرب الكبير طريقه إلى اليوم التالي!!
نحن بعد منتصف الليل!
والمعركة على الماء على أشدّها!
يخرج الصبيّ من المعركة..ينفض عنه زخات الماء وزخات الشتائم ويعود سالمًا غانمًا..باسمًا!
تنكة طافحة بالماء الزمزميّ العذب..غنيمة من معركة طاحنة..قميص “مشلّخ” وآثار صفعة أنثوية على الوجه..نيع مفتول..وجرح طفيف في الخدّ الأيمن!!
وتفرح أم جورج..وتتحرك مشاعر العطف لمرأى الصبيّ..فتجود بما تيسر من كرمها الحاتمي!
يمدّ الصبيّ يده إلى جيبه..فيتحسّس القطعة المعدنية..ويطير القلب فرحًا!
خمسة قروش؟..كنز!
نعمة كريم!
يقول في سرّه..
وينام آمنًا مطمئنًا قرير العين!
وحالمًا بمعركة أخرى سيخوضها مساء اليوم التالي..
**
* مسك الختام
يقول الراوي: ما زلتَ يا عبد الله في بداية الطريق..فانتظرني هناك على بوابة الحنين..لنسمر مع حراس الذاكرة..ونوقظ الملفات النائمة..فنروي لكم ما تيسر من أرشيف الزمن الجميل.
**
(من كتاب “جداريات نصراوية”- شرفات على الزمن الجميل)
**