شاركت يوم السبت 17.04.2021، الذي صادف يوم الأسير الفلسطيني، في حفل إطلاق آخر الإصدارات لأسرى يكتبون، وكان حدثًا يتيمًا في فلسطين، وبدل أن نقيم الدنيا ونقعدها في ذاك اليوم من أجلهم وجدنا الجميع يصمتون صمت أهل القبور.
صمتُنا عارُنا!
بدأت مشواري التواصلي مع أسرى يكتبون خلف القضبان لاهتمامي بأدب السجون، ويبقى السؤال مفتوحًا حول تعريفه – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟ جاء أسرانا ليشرّعوا الباب وتعريفه ليصبح أدب السجون الحداثيّ هو الأدب الجميل الذي يُكتَب خلف القضبان بغضّ النظر عن موضوعاته، تجنيساته ومضامينه!
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، تجعله يحلّق ليعانق شمس الحريّة؛ وحين يُنشر له كتاب يعتبره عرسًا شخصيًا وثقافيًا ووطنيًا رغم أنف السجّان وقيوده.
نعم؛ الكتابة متنفّس لأسرانا، ولديهم الكثير ممّا يقولونه عبر أقلامهم الحرّة، وإنسانيّتهم العالية المستوى، واختراق كلمتهم للزنازين وأسوار السجون حريّة لهم؛ وهناك صعوبات جمّة في إيصال تلك الكلمة لتحلّق وإيّاهم في سماء الحريّة.
رُغم الصعوبات أصدر أسرانا في السنة الأخيرة العديد من الإصدارات لتكون شوكة في حلق السجّان وباقة أمل بحريّة قادمة لا محالة؛
وهذا المساء نحن في حضرة أحرار نابلسيّين اخترقوا الزنازين والقضبان وأتحفونا بإصداراتهم.
أصدر الأسير كميل أبو حنيش “الكبسولة”، “وجع بلا قرار”، “مريم مريام” وغيرها؛ كميل متعدّد المواهب وغزير الانتاج، يكتب المقالة والشعر والرسالة والرواية والنقد، آخر إصداراته: “جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي”.
جاء في الإهداء: “إلى من يحرسون أرواح الأمكنة وصهيل الأزمنة وصدى التاريخ في أعماقهم…”.
قدّم له الدكتور محمود العطشان: “هذه محاولة نقديّة تسعى للبحث عن بؤرة في حلكة الأسر، استطاع الأسير كميل أبو حنيش فيها أن يتخطّى الزمان والمكان، إلى اللامحدود مخترقًا قوانين الأسر بعد أن ظنّ جلّاده أنّه تملّك زمام حركته ووقته، فهذه الدراسة سياحة في عوالم شعريّة مختلفة اصطفاها الشاعر لشعراء من عصور مختلفة، مكثّفًا الحديث فيها الزمكان (الزمان والمكان) في أقوالهم ضمن رؤية جديدة انبثقت من كونه وجد المفر فيها بعد أن حكم عليه اللا مفر أو من بعد ظنّه أن “كل ما سيكون.. كان”.
يتميّز الكتاب بشموليّته وعمقه، رغم أن كميل في الأسر بعيدًا عن الشبكة العنكبوتيّة والغوغلة التي تغلغلت لعالمنا وهو يجهلها، وبعيدًا عن القصّ واللصق الذي اكتسح عالمنا، اعتمد 75 مصدرًا ومرجعًا.
جاء نقده نصيًا تحليليًا جماليًا، معتمدًا على الإلهام والقدرة على تحليل النّص الشّعري.
وروايته “الجهة السابعة” قيد الطبع، وكتبت في التظهير: “تعاصفنا حول احتراق الجهة السابعة، الحبّ والحلم والفانتازيا وما بينهما، وصال أيروس والشهوة الجنسيّة التي تهزمها أروى الحبّ فيموت الماضي حلمًا ويحيا حلم الآتي، والانبعاث يحلّق في سماء اللقاء، ناقشنا الصوفيّة والموت والانبعاث، فكميل عاش الموت بعض المرّات قبل أسره، صار الموت أنيسًا بشريًّا، ملازمًا كالظلّ، يعود لفقدان رفاقه فادي ويامن دون وداع، وموت جدّته عريفة التي قاربت المائة عام بانتظار عناقه وفارقت الحياة دون وداع أيضًا، وفنجان القهوة مع صاحبه الشهيد ورجاؤه لتبادل الأدوار… ولَو للحظة!
أصدر الأسير منذر مفلح سرديّة “الخرزة”؛ تدور فكرة السردية حول التجربة النضالية، فيرصد كثيرا من أحداث الانتفاضة الثانية، وفترة المطاردات وملاحقة قوات الاحتلال للمقاومين، وتنطلق من حكاية حقيقية؛ من تلك الخرزة التي وجدها الكاتب منذر في ثنية إحدى جيوب بنطاله بعد اعتقاله بأيام في مركز التحقيق لترافقه ردحاً من السنين وتختزن ما اختزنته من سنوات وظروف، فيربط من خلال هذه الخرزة الأحداث التاريخية بالموروث الشعبي بالأحداث المعاصرة، ليبني نصا متحركا في أزمنة مختلفة وبيئات متعددة.
يعيد منذر تعريف السجن والعلاقة مع السجّان والزنزانة، وتعزيز الأحاسيس والمشاعر، بعيدًا عن البطولات والأسطرة، لا بطولات في السجن، يحمل وصايا رفاق دربه الشهداء، ما بين الأزمنة والأمكنة، ليرسم خارطة وطن حلموا به، ليحتل المشهد، ويعود معهم من الهامش الذي أراده لهم الآخرون، كي يحتلّ صدر روايتهم شاء من شاء وأبى من أبى.
مما جاء في التقديم: “تُعتبر الكتابة متنفّسًا للأسير، تدفعه نحو الأمام، تجعله يتنفّس شكلًا من أشكال الحرية، واليوم يحقّق منذر حُلمَه في الانطلاق الروحي المحلّق؛ ويخرج من ظلمات السجن إلى النور، من عالم النسيان إلى عالم الخلود”.
كتب منذر حين وصله خبر خروج السرديّة من المطبعة: “لم يعد السجن يتّسع لي، ولم يعد بمقدوره احتجازي.. مُقسماً لكل مشكّك بكل المعتقدات بأني الآن حُر”.
أصدر الأسير باسم خندقجي “طقوس المرّة الأولى”، “أنفاس قصيدة ليليّة”، “نرجس العزلة”، “خسوف بدر الدين”، “مسك الكفاية” و”أنفاس امرأة مخذولة”؛
تجربة باسم مختلفة ولافتة للنّظر، لا يكتب عن تجربته في الأسر، وهو بذلك يختلف عن سجناء كُثُر كتبوا عن عالم السّجن وتجربتهم فيه، وتكاد أعمالهم تقتصر على تجربتهم ومحيطها، بدأ بالشعر؛ وانتقل لكتابة الرواية؛
“نرجس العزلة”؛ رواية شاعر أحَب امرأة البدء، لاجئة من قرية السنديانة قضاء حيفا، حبيبته الأولى وأوّل العشق وأوّل الدهشة وأوّل حيفا ،أحبّها وخذلته لتتزوج غيره وتعيش في الخليج، وعلاقته مع فاديا النابلسية المُغايرة، وحُبّه لامرأة الهويّة والدهشة الحيفاويّة التي يشتهيها ويقرر العزلة الحارقة ومن ثم يقرّر ألّا يزور حيفا لأجلها كما زار قرطبة ليصير شاعرًا بلا مدينة … بلا وطن… بلا شعر …
تحاشى النوح والبكاء والشكوى، وتحاشى استجداء رحمة القارئ وشفقته. فهذه كلّها من دلائل الهزيمة. والهزيمة عار على من سلّحته الحياة بالفكر والخيال فنراه يتوق إلى السير في ركاب الظافرين ويكره مماشاة المُنهزمين ووُفِّق في ذلك.
يلجأ باسم في روايته “مسك الكفاية- سيرة سيّدة الظلال الحرّة” إلى التّاريخ ولا يكتب عن عالمه. كتب الرواية لمُحاربة التغيير والقمع فنجح بكشف العيوب ورأى من مهمّته عدم التستّر عليها، أعاد لنا التاريخ في رواية بأبعاد رمزيّة، كتب الحاضر بأحداث الماضي، فحاضرنا امتداد طبيعي لأحداث الأمس. ثار ضد قمع الانسان في كلّ زمان ومكان، وكأنّي به يرمز لحاضرنا بأسلوب حداثيّ بامتياز.
“خسوف بدر الدين“؛ يسرد لنا باسم في الرواية الحدث التاريخيّ مطعّمًا بالأجواء الصوفيّة مرتكزًا على شخصيّة بدر الدين التي أوقعت التاريخ والمؤرّخين في حيرة من أمره، ليجعلنا نستنبط الحالة الإنسانيّة عامّةً، وحالتنا العربيّة والفلسطينيّة خاصّةً لرفض الوضع القائم والتمرّد عليه.
أمّا روايته الأخيرة “انفاس امرأة مخذولة”، فكتب الأديب المقدسيّ محمود شقير في التظهير: “أمام قسوة الواقع، الذي يحياه الفلسطينيّون، تسعى رواية باسم خندقجي إلى خلق واقع فنّي ممعن في قسوته، كأنّه بذلك يقصد تعرية وضعنا الراهن الملتبس بعد سنواتٍ من الانتفاضة الأولى التي انفجرت في الأرض المحتلّة للتحرّر من الاحتلال، فلم نتحرّر منه ربّما بسبب خلل فادح في التنظيم وارتكاب الخطايا والأخطاء”.
كتب لي في الإهداء: “الأسرى ليسوا مجرّد أرقام بل هم مبدعون”
أصدر الأسير وائل الجاغوب “رسائل في التجربة الاعتقالية”؛ يصوّر بدايةً أحلام الحريّة وكوابيس الأسر، الاعتقال والزنازين والتحقيق بأساليبه الوحشيّة والقمعيّة، وأشرسها الوحدة في الزنزانة وخِدعة “غرفة العار”، المليئة بالعملاء و”العصافير” لمحاولة ثنيه عن الصمود وابتزاز اعتراف منه، منعه من التواصل مع محامي لأكثر من شهرين، حرمانه من التواصل مع عالمه لتصله أخبار رفاقه واستشهادهم بالقطّارة، المواجهة اليوميّة مع السجّان والنضال ضدّ ممارساته القمعيّة وساديّته.
يصوّر رحلته ليتعرّف على أرضه ووطنه السليب وجغرافيّته عبر السجون التي مرّ بها خلال رحلته الاعتقالية؛ يسير مكبّل اليدين والقدمين فوق ترابها، وحين حدّث رفاق زنزانته عنها شعر بأنّه مرشد نضالي لجغرافيا وتاريخ؛ المسكوبيّة المقدسيّة، بتاح تكفا، عسقلان، الجلمة، الدامون، عتليت، هداريم، هشارون، تل موند، كفار يونا، الرملة، بئر السبع، شطّة، الجلبوع، نفحة قلب الصحراء، النقب الصحراويّ وغيرها، وحين تسلّقت “البوسطة” المقيتة جبل الكرمل قفزت إلى ذاكرته عبارة غسان كنفاني على لسان ليلى، بطلة قصّته القصيرة “شيء لا يذهب”: “باستطاعتك أن تغادر حيفا، أن تهرب منها، لكنّك في يوم ستأتي، لا بدّ لك من أن تصحو، وتكتشف، وتندم”!
ينتقد بحِرقة موقف الشارع الفلسطيني تجاه قضيّة أسرانا، بما فيهم الأسرى المحرّرون، “ما أن تغادر الأسر حتى يغادرك أو تسعى لذلك، فلا تقوم بما عليك القيام به، في الأسر ترى الأمور بمنظار الأسير، وخارجه ترى الأسر بمنظار من هو خارجه، لا يعود يعنيك الكثير من أشيائه…عندما تكون في الأسر تنتقد، تشتم، تتذمّر، وما أن تغادر حتى تصبح في الواقع الذي كنت تستنكره، وكم من ثائرٍ انتقل من موقع المستنكرِ إلى المستنكرَ!!”، إهمال قضيّة الأسرى لأنّ الأسير يشعر بالفرق الشاسع بين الاهتمام به قبل أسره وانعدامه بعد الأسر وكأنّ الغياب القسري يُسقط الاهتمام.
ويبقى الأمل بالحريّة والحلم بها محلّقًا في فضاء المعتقل، إيمانًا بما قاله باولو كويلو: “الحالمون لا يمكن ترويضهم”!
أصدر الأسير ياسر أبو بكر: “أسفار العتمة”، “كيف ننجح 1″، “كيف ننجح 2″؛ إصداره الأخير: “أشكال الفساد ومخاطره على حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في سجون الاحتلال ووسائل علاجه”.
يتناول وضع الحركة الأسيرة والفساد المستشري داخلها، يأكل الأخضر واليابس، ما يجري في الشارع الفلسطيني يدلف سريعًا عبر القضبان من فساد ومحسوبيّات ممّا يعرقل مرحلة التحرّر وبناء الدولة التي نحلم بها.
تناول ظُلم ذوي القُربى ومضاضته القاسية المؤلمة، الاحتقان الداخليّ القاتل، ومحاولات تدجين الحركة الأسيرة تمامًا كما هو هناك خارج القضبان، محاولات القمع التنظيمي والانهيار القيَمي، تصوير السجن كأكاديميّة ما هو إلّا تجنٍّ على الحقيقة، سحق المنظومة، وما يراه هناك خلف القضبان لا يراه زلُم أوسلو ورجالاتها، ويتمنّى أن يفيقوا من سباتهم العميق ليراجعوا أوراقهم من جديد.
أصدر الأسير عمار الزِبِن: “عندما يزهر البرتقال”، “من خلف الخطوط”، “ثورة عيبال”، “أنجليكا”،”الزمرة” ورواية “الطريق إلى شارع يافا”: تروي قصة المستوطن الصهيوني الذي أساء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الخليل، وكيف ردت الخلية على الإساءة بعمليتين بطوليتين في سوق “محني يهودا” وطريق بن يهودا في القدس عام 1997. جذبتني عناوين فصولها: حوار في المغارة، هنا .. بيت المقاومة، المسدس والعنق الجميل، الدم يُحيي الدم، ذو الفقار والعودة للمغارة، قبل أربعين يوماً من العملية، شيفرة الأردن وأنوف مخابرات العالم، سوق “محني يهودا” وجراح ” دير ياسين”، الرصاصة القاتلة والاستطلاع، معشوقة المظلومين وشارع الحسبة والعربة المفخخة، بن يهودا ولحن النسف يعزفه الفنان وغيرها.
أمّا الأسير أحمد العارضة فصدر له يوم الثلاثاء ديوانه “أنانهم
“، الذي نحن بصدد إطلاقه اليوم، وسيتناوله العزيز فراس حج محمد، الذي يقوم في الآونة الأخيرة بالكثير من أجل أسرانا وكتاباتهم، من توجيه وتحرير وتنضيد، وكتابة التقارير حول كلّ جديد منها وتعميمها لكلّ حدب وصوب.
لكلٍّ اسم وحكاية؛ كلّ أسير له قصة لم تحكَ بعد؛ وهناك ضرورة ملحّة لتوثيقها، لأن في توثيقها تشكيل “فسيفساء لأسطورة نضالية يشهد لها التاريخ”.
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ مشوار قلب حياتي رأسًا على عقب، ومنه انبثق مشروع “لكلّ أسير كتاب”؛ “من كلّ أسير كتاب”، “لكلّ أسير رسالة” و”حملة المليون أسير”؛
“أثر الفراشة لا يُرى… أثر الفراشة لا يزولُ”، وها نحن نشهد حِراكا حول الأسرى رغم محاولات تهميش قضيّتهم، بعيدًا عن فزعات العرب الموسميّة؛
الإعلاميّة قمر عبد الرحمن بدأت برنامجها وتر النصر حول الأسرى وكتاباتهم،
انطلق في عمان مشروع أسرى يكتبون من خلال نشاط مجموعة “أكثر من قراءة” ومن بعدها مع رابطة الكتاب الأردنيين، ندوة كلّ أسبوعين؛
الصديق خالد عز الدين بمبادرة صوت الأسير والإعلام الجزائري؛
الدكتورة لينا شخشير في مبادرتها المميّزة “قناديل الأدب/أسرى مبدعون”،
إنّه فعلًا رفيف جناحي فراشة من شأنه، في ظروف مواتية، أن يتحوّل إلى إعصار/ تورنادو، وكأنّي بتلك الفراشة تهمس: لا تيأسوا!!!
قلتها عدّة مرّات، وأكرّرها لعلّها تصل: من تواصلي مع أسرى يكتبون لمست خيبتهم وحسرتهم من التسويفاتِ التي لا أولَ لها ولا آخر، فكلّ من تصله رسالة أسير ورغبته في نشر إصدار له يُسمِع كلمات الترحاب تحت شعارِ: “أقل الواجب”، إلا أنه سرعان ما يتبيّن أن الوعود الرنّانة شيء والمتابعةَ والتنفيذَ شيء آخر، ومقولة “أقلُّ الواجب” شعار وقول فارغ يطلقونه في سماء الحريّة الغائبة المفقودة، بلا قيمة، تأكلُها الأيامُ والشهورُ ببطءٍ حتّى تضيع ولا يبقى منها ما يؤكلُ، وكم من مؤسّسة أخذتْ على عاتقها تبنّي الإصدارِ، ولكن كلّها وعود ذهبت في مهبّ الريح.
من على هذه المنصّة أناشد كلّ القيّمين على الكلمة الإبداعيّة من وزارات، مؤسسات واتحادات كتّاب بواجب تبنّي كتابات الحركة الأسيرة، وبالأخصّ تلك الوليدة خلف القضبان والزنازين، وليس مِنّة، فعلًا وليس قولًا، فعلًا وليس ضريبة كلاميّة موسميّة.
نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين.
الحريّة لكافّة أسرى الحريّة
حسن عبادي
(مداخلة في ندوة “حروف مضيئة في عتمة الزنازين” في نابلس يوم الخميس 29.04.2021; مبادرة منتدى المنارة للثقافة والإبداع)