الكاهن سمعان نصار..نبع الصفا العذب! – فتحي فوراني  

 

الكاهن سمعان نصار..نبع الصفا العذب!

فلتنصبوا الأشرعة..ولتقلعوا إلى بحار بلا شواطئ!

**

 

 

  • واكتشفنا الجزيرة الخضراء!

في صحراء القحط الثقافي..كنا نتحرق عطشًا للعثور على  ينابيع  الأبجدية كي  نروي  عطشنا ونشفي غليلنا..وإذا ما عثرنا عليها..قفزنا من مكاننا وصرخنا فرحًا: “وجدتها..وجدتها”!

ونروح ننهل منها..فنعبّ نعبّ من كوثرها العذب..ولا نتعب!

لقد عثرنا على رأس النبع..واكتشفنا الجزيرة الخضراء..فسحرتنا حجارتها الكريمة..اللؤلؤ المنثور والماس والياقوت والزمرد واللازورد والفيروز والمرجان!

**

  • “المكتبة العصرية”..وسادنها الأستاذ سمعان نصار!

في سوق الروم في الناصرة..”نبع ثقافي” يرتدي زيّ مكتبة صغيرة..غير أنها ليست صغيرة أبدًا..وليست متواضعة أبدًا..فقد اكتشفنا فيها منجمًا علميًا ثقافيًا معرفيًا يخبئ في أحشائه ذهبًا خالصًا!

كان سادنها الأستاذ سمعان نصار!

وعلى رأس البوابة تتلألأ يافطة ثقافية تضيئها بخط عربي جميل..عبارة “المكتبة العصرية”..

دعوا عشاق اللغة العربية..يأتون إليّ..

فندخلها بسلام آمنين فرحين!

ونطرح السلام على الأستاذ سمعان نصار..فتتهلل أساريره..

  • يا هلا..يا هلا!

وينفتح أمامنا عالم مترامي الأطراف..يغصّ بآلاف الكتب..بدءًا من الكتب الكلاسيكية القديمة وانتهاء بالكتب “الحديثة” التي تخرّجت من عصر الانتداب الغارب!

المكتبة صغيرة نسبيًّا..ولكنها محيط ثقافي بلا شواطئ..سماؤها بلا حدود..يؤمّها الكثيرون من عشاق خير جليس”  طلابًا ومعلمين..شبابًا وصبايا..من الناصرة والقرى المجاورة..وآخرين جاؤوا من جميع أنحاء الوطن..لينهلوا العلم من عاصمة الثقافة العربية..

وفي ظروف القحط والحصار ترتفع جدران العزل الثقافي الشاهقة..وتُغلق في وجهنا الأبواب والنوافذ والشرفات في عواصم الثقافة العربية..القاهرة وبغداد وبيروت..فيزداد الشوق لتحطيم الحواجز والجدران..واقتحام  بساتين الأبجدية..فتنكشف أمام أعيننا دنيا خضراء واسعة..ويعلو صوت الدهشة  الذي يصبو إلى معانقة ربّة الجمال..لغتنا القومية!

ولا يلبث المتعطشون لمجالسة  “خير جليس في الزمان”..أن يجدوا ضالتهم المنشودة..فيصلوا إلى ما يصبون إليه..في “المكتبة العصرية”..

هنا نبع عطاء حاتمي..ومنارة شاهقة على خارطة الأبجدية في الناصرة.. عاصمة الثقافة العربية..في هذا الوطن الجميل!

**

  • “أنا الأرض العطشى..لا تحرميني المطر”!

أيها الأحبّة الصاعدون إلى العُلا!

الجدار الشاهق من أمامكم..والحصار الثقافي الخانق من ورائكم..فليس لكم والله إلا أن تنضوا عن سواعدكم..وتشقّوا طريقكم إلى الينابيع الحاتمية الأولى!

عليكم بـنبيذ الخوابي المعتقة..عليكم بـ”الدفاتر العتيقة” دفاتر آبائكم وأجدادكم!

أما “الدفاتر العتيقة” التي عاصرت عصر الانتداب..ومن قبله عاصرت عصر الإمبراطورية العثمانية..فأحالها الزمن والعصر الحديث إلى كتب صفراء لم يملّ الدهر من الارتواء من ينابيعها..وطاب له المقام..

في مكتبة طولها أربعة أمتار وعرضها ثلاثة..يستوي على عرشها سادن الكعبة الثقافية الصغيرة..الذي يوزع الخيرات المعرفية والأفكار التقدمية على الأجيال الصاعدة.

ومن صحارى العطش الثقافي..ينطلق صوت الشاعر راشد حسين من حناجر العشاق..”أنا الأرض العطشى..لا تحرميني المطر”!

**

لقد وردنا أنهار العم سمعان..ولم يزدنا الوِرد إلا عطشًا!

فهلموا..يا عشاق اللغة العربية!

هلموا أيها الطلاب والفتيان والمربّون والأدباء والشعراء والمثقفون!

واغرفوا من ينابيع الصفا العذبة..لترووا غليلكم!

واقرأوا ما استطعتم وما طاب لكم مثنى وثُلاثَ ورُباعَ وعُشارَ..وجاهدوا في الحرث والتنقيب في باطن الأرض الخصبة..وغوصوا في أعماق المحيطات الزرقاء..واستخرجوا الأسرار الكامنة في أحشائها ..فلا بد أن تحظوا بمعانقة حوريات الأبجدية العربية..لتغريكم بخيراتها من  “الروائع” الأدبية!

**
كانت مكتبته منارة للمطالعة..أطللنا منها على الكثير الكثير من “الروائع”..روائع التراث القديم وروائع الأدب العربي “الحديث” والآداب الأجنبية..ففي هذه “الواحة الخضراء”..اختبأ عالم كبير..عيونه ترنو إلى السماء السابعة..

هذه الخيرات الثقافية ساهمت في بناء الشخصية الأدبية والثقافية لجيل كامل من الشباب عُشاق اللغة العربية..إنهم شباب طموحون يتحدّون الحصار الثقافي..ويتركون بصماتهم على جدران المستحيل!

إنهم يسيرون على الشوك في المسالك والشعاب الوعرة..ويعصرون الصخر ماء زمزميًّا..وفي صدورهم يتفجر الشوق لمعانقة الكلمة وإشباعها ضمًّا ولثمًا..وفي قلوبهم حلم!

**

  • الاشتراك الشهري عشرة قروش..فقط لا غير!

أمامك خياران يا عبد الله:

اقرأ كتابًا وادفع قرشًا واحدًا..فقط لا غير!

ادفع واحمل!

أما الخيار الآخر..فتذكرة الدخول إلى الواحة الثقافية..عشرة قروش شهريًا..تدفع عدًّا ونقدًا..وإذا عزّ الدفع نقدًا..فتقسيطًا!

القروش العشرة يتيمة..عزيزة المنال..لا تجدها إلا في علب العرائس..وإذا حالفك الحظ وعثرت عليها فإنها تكفي لنغرف من ينابيع المعرفة ألوانًا شتّى..ونملأ موائدنا الأدبية  بأشهى ضروب الثقافة والمعرفة!

**

ينطلق المشروع “الاقتصادي”..قرشًا على قرش!

فتتجمع القروش في الحصّالة الصغيرة..ثم تنطلق من قاعدتها كي تفلح الآفاق..وتشفي غليل الفتية وتشبع النهم الثقافي!

بعشرة قروش تستطيع أن تشتري “عالمًا” وتغوص في بحار تنفتح على بحار وراءها بحار..بدءًا ببايرون وشيلي وأوسكار وايلد مرورًا  بجورجي زيدان ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي والعقاد والمازني وطه حسين و”الدكاترة” زكي مبارك..وانتهاء بالقصص البوليسية للّص الظريف أرسين لوبين الذي ابتدع شخصيته الكاتب الفرنسي موريس لابلان..ومن بعده تطلّ علينا الكاتبة الإنجليزية أغاثا كريستي!

فالأبواب مفتوحة على مصاريعها..نستطيع أن نختار ما نشاء..ونقرأ عددًا لا حدود له من الروايات والقصص القصيرة والدراسات والأبحاث والدواوين الشعرية!

وكل هذه الخيرات الثقافية ..بعشرة قروش!

 

  • حافظوا على كرامة الكتاب!

ندخل “المكتبة العصرية”..فنجد الأستاذ الأنيق الملبس منهمكًا في  ترميم أطلال الكتب المستهلكة وتجليدها وإصلاح  ما جار عليه الزمن!

يحمل قنينة الصمغ والشرائط اللاصقة الملونة..ويقوم بإصلاح “ذات البين” وجمع الشمل بين أوراق الكتب المشتتة التي تفرّقت أيدي عشاق المطالعة..ويطلب من الطلاب والشباب أن يصونوا الكتاب ويحافظوا على كرامته..لأنه سيواصل حمل الرسالة..سيخدم زملاءنا وإخوتنا وأخواتنا وأولادنا من بعدنا..وعليه يجب أن يظل الكتاب أنيقًا ونظيفًا وجميلًا بعيدًا عن التأثيرات الدخيلة القادمة من دنيا الزيت والزعتر! فقد كان هذا الثنائي من “ثوابت” عهد الطفولة..يتسلل من شطائر الحرمان البائسة التي تنام إلى جانب دفتر الحساب واللغة العربية وجزء “عمّ” من القرآن الكريم..تأويها  “المحفظة القماشية”  التي يعود نسبها إلى سلالة  كيس السكر “أبو حزّ أحمر”..رحمه الله وأسكنه فسيح جناته!

الأستاذ سمعان يستوي على عرش “إمبراطوريته” الصغيرة..إلى جانبه راديو ترانزيستور يصدح عاليًا ويزف بشرى تأميم قناة السويس..ومن خلف الرجل صورة باسمة للزعيم القومي جمال عبد الناصر!

**

  • يفرش له السجاد الأحمر..ويدخل الكنيسة آمنًا!

ذات يوم يكون القرار المفصلي..فينتقل سادن “المكتبة العصرية” من جبهة تحمل رسالة.. إلى جبهة أخرى تحمل رسالة!

يقول الأستاذ سمعان نصار  لمعشوقته الثقافية: وداعًا!  فيواصل تأدية رسالته في خدمة شعبه على جبهة أخرى..يرتدي الرجل ثياب الكهنوت..وعلى الجبهة الروحية..يرفع الفارس الراية ويواصل مسيرته الوطنية!

يُفرَش له السجاد الأحمر..ويدخل  الكنيسة آمنًا..ويصبح فيما بعد “أبونا سمعان” كاهن طائفة الروم الأرثوذكس في الناصرة!

ويكون العرس الروحيّ عرسًا!

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر..فلتعرف الأجيال الصاعدة أن “أبونا” سمعان نصار والقائد فؤاد نصار سكرتير الحزب الشيوعي الأردني..أخوان شقيقان نبتا من منبت عزّ واحد ورضعا من ثدي أصيل واحد!

فالمجد والخلود لهكذا رجال!

**

سقى الله أيامك يا أبانا سمعان!

فاسمك مطرز بحروف من نور..ومعلق على جدران القلب والوجدان!

وذكراك خالدة وباقية..مهما طال الزمان!

**

(من كتاب “حكاية عشق”- سيرة أدبية)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*