ثلاث ساعات في حضرة الثقافة والأدب والوطن – زياد شليوط

ساعة.. ساعتان.. بل ثلاث ساعات وأكثر مرت كلمح البصر.. لم ننظر خلالها إلى الساعة ولم نأبه لعامل الوقت. كيف لا وقد قضيتها بصحبة قامَتَيْنِ أدبيّتينِ سامقتَينِ ومثقّفَيْنِ كبيرَيْنِ ومربِّيْينِ عَلَمَيْنِ ولغويّينِ بارعَينِ ألا وهما الكاتبُ الأريبُ الأستاذ فتحي فوراني والكاتبُ الحصيفُ الأستاذ محمد علي سعيد، وقد جلستُ أستمعُ إليهما وهما يغرفان من محيط ذكرياتهما ويسكبانها في جرار الفكر والأدب والثقافة، لغةً عربيّةً صافيةً، وأنا أستمتعُ بلمعانها الرّقراق وأتزوّدُ بطعمها خاصّ المذاق. فيها تبادلنا كتبنا الصادرة حديثا والحاملة لهموم المجتمع والوفاء لكل من ساهم في بنائه وتعزيز قيمه الإنسانية من “أقمار خضراء، معجم الوفاء للراحلين من الأدباء، أمواج الكلام وأقواس وحزازير طريفة لأعزائنا الصغار، وكلها شكلت قيما جيدة جاءت الرياح وعبثت بها نحو السيء فالأسوأ، في زمن الردّة والتكفير والشعوذات.

سافرنا مع أسماء عديدة من رواد الحركة الأدبية الفلسطينية في بلادنا، أذكر منها أسماء الراحلين منهم خاصة: راشد حسين، محمود درويش، غسان كنفاني، فوزي عبد الله، إميل توما، إميل حبيبي، عصام العباسي، حنا إبراهيم، سميح القاسم، فاروق مواسي، داود تركي، طه محمد علي ومن الأحياء أذكر اسما استثنائيا حنا أبو حنا. ويعرج على المربين القدامى الذين غرسوا في طلابهم حب اللغة العربية واكتشفوا مواهب طلابهم الأدبية وهي تحبو على أبواب الأدب والثقافة أمثال حبيب حزان، مطانس مطانس ونعمة الصباغ. ونلج إلى سنوات الستين والخمسين من القرن الماضي، حيث عشنا معا في ظل الخيمة العربية والاشتراكية الأممية، وشكل الزعيم العربي جمال عبد الناصر ظاهرة عروبية لم نشهد لها مثيلا، وكان الشعب العربي من الخليج إلى المحيط يلتف حوله، وشكلت وفاته الفجائية والمبكرة صدمة كبيرة كان من الصعب مواجهتها وتفادي مفعولها، ويروي لنا الكاتب فتحي فوراني من خابيته النصراوية والناصرية، خطبة الكاهن الوطني سمعان نصار الشهيرة، التي ألقاها في الجنازة الرمزية للزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر يوم رحيله في الناصرة، وقد ابتدأها الكاهن بهتاف “الله أكبر” مكررا إياه ثلاث مرات وقد رسمها أديبنا لوحة في “جداريات نصراوية” على النحو التالي: “ويروح الكاهن الوطني سمعان نصار.. يلقي خطبة وطنية تهزّ المشاعر وتكهرب الوجدان.. يعدّد فيها مآثر العملاق الأسمر.. ويصور آثار الصاعقة التي زعزعت نفوس العباد وزلزلت المشاعر وأشرفت على الطعنة النجلاء التي غرسها سيف الغياب المفاجىء والمستحيل في الخاصرة العربية”. ونترحم على تلك الأيام التي ساد فيها المدّ القومي، حيث لا انقسامات على أسس طائفية ولا من يسأل عن الدين والطائفة، الكل يعيش مع الكل بأخوة صادقة، حيث لم يكن أحد يحلم بأيام نصل إليها تنتشر فيها أفكار “داعشية” هدامة لمجتمعنا ومستقبله إذا لم يتم تدارك هذا التراجع الخطير، ونترحم بالتالي على قائد رفع اسم العرب في العالم وأمدهم بمشاعر العزة والكرامة.

ويخرج لنا الأستاذ فتحي من كنوز مكتبته الخاصة بعض الدفاتر القديمة، وخاصة دفتر الانشاء ويقرأ لنا بتأثر كبير ملاحظة معلمه وتعليقه الذي يدل على قراءة متعمقة لموضوع طالبه ويكتشف لديه براعم أدبية يتنبأ لها بمستقبل واعد، ولم يخب حكم المعلم في طالبه. كما يعرض لنا دفترا آخر وقد خطه بقلمه بخط أنيق انه ديوان قصائد نزار قباني، حيث لم تتوفر الكتب، فكان أبناء ذاك الجيل ينسخون الكتب على الدفاتر القديمة، بخط أنيق ليحتفظوا بها ويعودا لقراءة الكتب المنسوخة بخطوط أياديهم.

وينتقل الحديث إلى اللغة العربية وضرورة تعزيز مكانتها في أوساط شعبنا، خاصة أمم التهديد بتراجع مكانتها سواء من قبل السلطة وسن ما يسمى “قانون القومية” أو نتيجة الإهمال واللامبالاة من قبل أبنائها، وتطرح معضلة الإعراب وعلى سبيل المثال إعراب “الملك حكيما”، فالبعض يرى أنها حال والبعض يرى أنها تمييز وهو الأصح كما يتفق بين المتحاورين ومعضلات إعرابية أخرى.

ويأتي اللقاء في منزل الأستاذ الكاتب فتحي فوراني في حيفا على نهايته، وكأنه ينوي تجديد البداية، أخذنا عذب الكلام وصدقه وما تخلله من قفشات ممتعة وذكريات نادرة في أجواء من القداسة والعبادة في حضرة قيم ومبادئ وأفكار لا تموت وتبقى لها الحياة مهما علا نباح الحاقدين والممسوسين بالكراهية الذاتية.

(شفاعمرو – الجليل)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*