مأتم في الجنّة – سعيد نفاع

 

(قصّة من المجموعة التي تحمل اسمها)

                     

لا أعرف ما الذنب الجديد الذي ارتكبت أكبر من ذنوبي الكثيرة، حتى عجّل الله جلّ جلاله واصطفاني من بين كلّ خلقه مرسلًا رسلًا من لدنه اختطفوني حيّا لم يرجُ له إمامٌ مصلٍّ رحمة ولا إسكانًا في جنّات خلد، لم يبكه أعزّة ولا ناحت فوق رأسه أحبة ولا دمعت على وجنتيه الباردتين الصفراوين الرجال، ولا ألقِيت الخطب العصماء في وداعه مستحضرة قس بن ساعدة الأيادي من عكاظ الجاهلية المستنيرة.

هكذا اختطاف على عجل من بين الرصاص المتدفّق في غزة مدرارا.

لم يختطفني الرسل كما اختطاف العلماء في البصرة وبغداد من بين صراخ وعويل ذويهم، بعد نعف كتبهم مثلما لم تُنعف منذ أن لوّنت أحبار كتبها مياه دجلة على يد المغول. ولا كما اختطاف الآمنين في نابلس من بين نظرات الأطفال الشاخصة المخنوقة الحناجر خوفًا من البكاء. فلا هم أغمضوا عينيّ ولا هم صفّدوا معصميّ، لكن حتى بدون إغماضٍ ولا تصفيد لم أستطع الرؤية ولا النطق ولم أستطع الحراك. ولم أُدفَع داخل سيارة جند بين لطم ولكم ورفس، هكذا اختطاف لم يُبقِ منّي إلا بقيّة إدراك، اختطاف هادئ ناعم، ثم إقلاع وطيران أنعم دون مطبّات جويّة، وحطُ دون جعير محركات وعويل عجلات ودخان.

عندما عادت إليّ الرؤية وعاد إليّ النطق وعاد إليّ الحراك تباعًا، نفضت عني غبار السفر مجازًا، فسفرتي لم تغبّرني ولا استفزّت العرق من مسامات جلدي ولا أتعبت رئتيّ المتعبتين أصلًا من الدخان الفرجيني، وهما بدورهما لم يجهدا قلبي زفيرًا وشهيقا.

هكذا براحة المستيقظ للتوّ “تجبّدت” فاركًا عيني بظاهريّ يديّ ساحبًا خطاي وجِلا في رحاب لا أوّل لها ولا آخر، لا هي جبليّة ولا هي سهليّة، لا هي صحراويّة صفراء ولا مرجيّة خضراء، لا هي شتويّة ولا هي صيفيّة.

لكني لم أدرك حتّها، وهذا ما سربلني خوفًا، إن كانت أرض إنسيّة أو جنيّة، وأنا الذي كبرت أخاف الأنس أكثر من الجنّ، فالرهط الأخير هذا على خلاف الأوّل لم يصبني مرّة لا بخير ولا بشرّ ولا أساء لي مرّة لا بذنب اقترفته ولا بغير ذنب.

وتابعت المسير لا شرقًا ولا غربًا، لا شمالًا ولا جنوبًا، فالشمس دليل التائهين تقبع تمامًا في مركز قبّة السماء لا خطّ استواء ولا مدار سرطان ولا مدار جديّ، هكذا تابعت المسير إلى غيهب المصير كما البعير الملقى مقوده على غاربه.

جاءت مع النسيم الذي ولا أعلّ، أصوات ونّست وحشة تيهي، حثثت خطاي ومع كلّ خطوة واقتراب صوت يخفّ خوفي. صارت الأصوات التي ما ميّزت أوضح، وإذ بها خليط من بكاء وعويل أطفال يقطّع القلوب، وما أن رأيت جمعهم وإذ هو نهر من آلاف الفتيان والأطفال متدفق في اتّجاه ما، ترفع ناصيتهم على الأكفّ أجسادًا من نور لا تميّز ملامحها، وحيث تلتوي الناصية يلتوي الجمع.

اقتربت رغم خوفي الشديد حتّى صرت أميّز الأوجه، ورحت أجول في الوجوه وإذ هي بغالبيّتها بنيّة غامقة أو قمحيّة تميل إلى السمرة. وبحكم حبّ الاستطلاع الذي لا نملك في الغالب سيطرة عليه، رحت أفتّش عن وجوه ربّما أعرفها دون أن أتعِب نفسي في السؤال من أين وكيف لي أن أعرفها، فاختطف ناظريّ وجهان لم أترك لحظة تمرّ لتقطع تواصل بصري وإيّاهما.

تهادى الركب حاطّا رحاله وحططت معه قريبًا بعيدًا رقيبًا لم يفارق الوجهان عينيّ، واثقًا تارة مترددًا أخرى من أنّي أرى وجهين أعرفهما جيدًا، وجهًا عرفته قرب جدار يلوذ بجسد يلوح بيده، وآخر معفرّ بالرمال ملقً على حقيبة مدرسيّة، ولم يغيّر النور الساطع منهما ملامحهما، فوجه إيمان ما زال وجهها لم تفعل السنون به فعلًا، مثلما لم تفعل رصاصات التأكّد من قتلها، ووجه محمد ما زال درّة تتلألأ فزعًا لا السنون غيّرته ولا الرصاص الذي خردقه.

كلّ ما هنالك أنّ دموعًا تجللهما لم تجد الوقت لتُسكب لا فرحًا ولا حزنًا يوم غادرا في رحلتهما غير مودّعين كعادة المسافرين المتوّقع طول سفرهم. خوف أن يضيعا منّي شددت أوتار صوتي قاصدًا مناداتهما لكنّ صوتي خانني إذ وجدت نفسي فاقدًا النطق، فهممت لأركض نحوهما وإذ بخاطفيّ الذين لم أرهم منذ أن أغمضوا عينيّ دون عصاب وصفّدوا معصميّ دون قيد محيطين بي سادّين عليّ الطريق.

– مسموح لك أن ترى فقط، وممنوع عليك الكلام أو تخطّي الحدود!

-….

– فبلّغ بما رأيت!

– لكنّي لم أفهم شيئًا ولا أعرف أصلًا أين أنا!

– أنت على حدود الجنّة!

– …..

– هل سمعت؟

– ماذا؟

لا أعرف إن نطقتها من شدّة الخوف…

– لا تخف، وبلّغ بالذي رأيت!

– وبما أبلّغ ومن؟

– بلّغ بما رأيت! ألم تر محمد وإيمان؟

– رأيت!

– وكيف رأيتهما؟

– على ما أظنّ يبكيان… فلماذا؟

– إنّهما في مأتم… ألا تبكون في المآتم؟!

– بلى نبكي!

– ظننّاك أذكى من ذلك، أمّا وقد كنت أوّل من صادفنا وجئنا بك ولا مفرّ، فالأطفال في الجنّة يقيمون الأعراس للوافدين قتلا بأيادي الأعداء ويقيمون المآتم للوافدين قتلا بأيادي أهاليهم!  فبلّغ!

– ….

– لكن الله يقبل الكلّ شهداء، وإلى أن يأتيه هؤلاء المُبكين الأطفال عندنا سيرى فيهم رأيه!

– …

– فبلّغ!

اطمأنّ قلبي أنّي لم أُختطَف لذنب ارتكبته مع أنّ ذنوبي ليست قليلة واستحقّ عليها حسابًا، ولكن مجرّد تأخير حسابي أثلج قليلًا قلبيَ الخائف … وها أنا أبلّغ.

سعيد نفّاع

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*