زغاريد الحرّية
قصّة قصيرة
بقلم: نعمان إسماعيل عبد القادر
في الأوّل من شعبان، بعد الصّراع الطّويل والمرير، والّذي استمرّ أكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام، نطق القاضي “المبجّل” أخيرًا بالحكم، واعلن عن براءته، وعن اسقاط التّهمة بالخنق وكتم الأنفاس عامدًا متعمّدًا، وبقتل الرّوح مع سبق الإصرار.. وكانت قد ضاقت به ذرعًا وضاق بها ذرعًا وقالا: “هذا يوم عصيب”.. وبحنكة مُوَكَّلِهِ وفطنته، “والّذي يُشار إليه بالبنان”، وبعد أن اختلطت الأوراق واختلط الحابل بالنّابل، استطاع إقناع ذلك القاضي “المنتشي” أنّه لا يملك بيتًا، ولا أيّ شيء من أملاك الدّنيا، وأنّ البيت الّذي كان يسكنه، مُستأجر من والده، والوثائق تثبت ذلك.. فأحسّت أنّ حالتها قد أصبحت حرجةً، وكأنّ شيئًا قد توقّف في مجرى التنفس كاد يخنقها. أفكار كثيرة، وتهيّئات، دارت في رأسها، ثمّ شعرت كأنّه يريد أن يتفجّر. مع كلّ ذلك فقد تحرّرت هي من سجنه وخيانته ومن عبوديّته، وتحرّر هو من سجنها ومن نكدها ومن عبوديّتها، فعانق الاثنان تمثال الحرّية.. ساعتئذ انطلق كلّ واحد إلى عالمه وانطلقت الزّغاريد والاحتفالات في بيتيهما ووزّعت الكنافة والبقلاوة والحلوى احتفاءً بالانتصار. وأُنشد النّشيد الوطنيّ.
شهود العيان
قصة قصيرة
كان من الدّاعين للحرية بجميع أصنافها، فصار من المحافظين الحافظين لأعراف قومهم ووطنهم. كان من أنصار التّغيير والتّحرر الفكري، والتّطور الحضاري، والتطلّع إلى الحاضر والمستقبل، فصار من أعظم المنتقدين لأولائك الَّذين يدّعون العلم والمعرفة ويقلّلون من شأن الإنسان وينسبون أصله إلى فصيلة القرود. واعتاد بعد احتدام النقاش معهم، أن يردّد جملته المشهورة: “علمتم أشياء وغابت عنكم أشياءُ”. وكانت جدته إذا ذُكرت كلمة القرد في حضرتها، تُبَسْمِلُ بصوت عالٍ؛ لأنها تظنّ أنّ القرود يُنسبون في أصلهم إلى البشر وقد مسخهم الله وجعلهم في هيئتهم الجديدة بعد أن عصَوْا ربهم وتمادَوْا في عصيانه ومخالفة أمره، فصاروا عبرةً للآخرين.. وتظنّ أنّ بسملتها هذه، قد تُبعدها وتقي السّامعين من الأذى وتبطل مفعول السّحر لأعظم السّحرة.. كان من محبّي الغناء، فصار الغناء عنده مكروها. شاهد الموت بأمّ عينه فأحياه الله من جديد ،كما يقول.. ويقول أيضًا: “يا سادتي.. يا كرام.. لم يكن أحد يشكّ في أنّ حياتي قد أوشكت على الانتهاء، لكنّها كانت على عكس ما كانوا هم يظنون وقد كتب الله لي حياة جديدة”.
ويستأنف حديثه موضّحًا لجمهوره بصوت جهوريٍّ بأنَّ الحادث الّذي تعرّض له، كان بمثابة اختبارٍ من الله.. فتاب إلى الله.. وهو يستحقّ الثناء على إعادته للحياة. ومن ثمّ راح يدعو النّاس للعودة إلى الطريق الصّواب، وأن لا يكونوا من المُفلسين الخائبين”.
ويقول أحد شهود العيان: “إنّه ذات يوم، بعد أن أنهى تعبّده وعاد إلى بيته، وبعد أن وجد النّاس قد تجمّعوا حول منزله يراقبون تحركات رجال الشّرطة بزيّهم الرّسمي وغير الرّسمي، حاول الفرار من المكان، لكنْ أُلقي القبض عليه بسرعة. ثم عُرف السّبب فيما بعد، وبَطُل العجب. وصار حديث الناس في مجالسهم وهم يردّدون متعجّبين: “أي ساحر هذا؟! حتى القرود تعجز عن فعل ذلك”.. وأدرك النّاس السّرّ في توبته وحُسن سيرته، بعد انقلاب السِّحر على السّاحر، وصودرت المزرعة بكلّ معدّاتها، فصار من الخاسرين…”.