وأجمل الشِعر الذي يثير في الروح الدهشة، فكيف حين تكون هناك ألف دهشة في ديوان حفل بالتمرد وتمرد اللحظة إلى درجة تقارب الجنون، هذا كان انطباعي الأولي بعد القراءة الأولى قبل أن أبدأ القراءة الثانية المتأنية لديوان “مداي ألف دهشة” للشاعرة الفلسطينية تفاحة سابا، فالديوان حفل بتمرد الروح والحروف والخروج عن المألوف بقوة الكلمات والصور، وهذا أعاد لذاكرتي ما تعرض له بعض من الذكور حين خرجوا عن المألوف بنصوصهم سواء كانت شعر أو نثر، فكيف حين يكون هذا الخروج من إمرأة في مجتمع ما زالت تحكمه ثقافة “العيب”؟
من الغلاف حيث تضع الشاعرة تحت العنوان عبارة “الحياة رحلة سفر” تبدأ الحكاية، فالشاعرة في حياتها لا تعرف الهدوء وتستغل كل فرصة للتجوال في العالم شرقا وغربا، ومن لوحة الغلاف التي لا يظهر فيها إلا قلادة مكتوب عليها بالانجليزية “Life is a journey” يشعر القارئ أنه سيرافق الشاعرة رحلتها في الحياة، ومن كلمات الاهداء التي تهدي بها الكتاب لكل من منحوها الدهشة تلو الدهشة، ولكل من رافقها رحلة سفرها المثيرة قائما مقيما فيها أو زائرا مؤقتا لها، يشعر القارئ أنه سيكون أمام رحلة من الدهشة، وفي ابحاري في جنبات الكتاب وجدت الأنثى بوجهيها، الأنثى المتمردة والأنثى العاشقة إضافة لفلسفة الحياة، فالنصوص تمنح القارئ أن يرى الوجوه جميعها حين يقرأ النص بهدوء بعد أن يتخلص من دهشة القراءة الأولى.
تمرد الأنثى هو صفة الديوان بشكل عام، ويبدأ هذا التمرد في 60 نصا توزعت على 164 صفحة من القطع المتوسط من طباعة ونشر دار الوسيط في رام الله، وهو الديوان الثاني للشاعرة بعد ديوانها الأول “إمرأة وعريَّة”، وبتقديم جميل ومسهب من د. راوية بربارة، ويبدأ هذا التمرد من نص “زهر اللوز”.. هذا الزهر الذي يتبرعم مع بدايات الربيع فيثير الأرواح بجمال خاطف كان بدايات الديوان، فسيدة النص في مخاطبتها للآخر تشبه حبها به لتوصل له الرسالة الأولى من رسائلها في ألف دهشة، وكأنها تعيد رواية ألف ليلة وليلة بشكل آخر وبناء شعري جميل، فتهمس له: “هكذا حبي لك، مبهر خاطف كزهر اللوز”، فهي تحضر بسرعة وتغادر بسرعة، ترفض الاستقرار والاستدامة ولا متعة لها بالبقاء وتهوى نضارة الاختفاء، وتترك الآخر عطشا لم يرتوِ: “قبل أن تشهق بغتة اللقاء، أو تطلق الآه، بغية المزيد من الإرتواء، أكون قد لملمت، ومض الدهشة وغادرت”، فهل هي رغبة بتعذيب الآخر أو رغبة بأن تبقى الذكرى لا تفارقه وحلم اللقاء من جديد؟ أعتقد ان رغبة بقاء الذكرى هي من تحكمها فهي تخاطبه: “بيضاء كالثلج عندك سأبقى، بيضاء الثلج.. أنا لا أموت ابدا”، وإن كان لون الثلج يشير لصفاء الروح إلا أن الثلج في الجانب الآخر شديد القسوة ببرودته، وهذا ما تشير اليه بقولها: “ستبتسم، ويعود إليك شبق الحياة، حين تراني كل موسم، شهية عصية، في زهر اللوز”، مع الاشارة أن زهر اللوز عند سيدة النصوص أنثوي مخالف تماما لوصف محمود درويش الذكوري بقوله: “كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها، فكيف يشعُّ زهر اللوز في لغتي أَنا، وأنا الصدى..”.
النص الأول يكشف نمط وأسلوب تفكير سيدة النصوص التي لا تكف عن مخاطبة الآخر في كل نص منها، تمرد الأنثى ونظرتها لنفسها، التعالي وإصدار الأمر، نظرتها للحياة والعلاقات وللحب بشقيه الروحي والجسدي، فهي تتكلم بلغة جديدة متمردة وجريئة غير معهودة، ففي نص “لو كنت الآن بين يديَّ” تظهر هذه الجرأة في ثنايا النص فتقول في بداية النص: “لو كنت بين يديَّ الآن، لمررت بشفتيَّ على كل تفاصيلك”، وتنهي النص بالقول: “وبشفتيَّ اللتين تمران على كل تفاصيلك، و.. تتركانك بخيار واحد لا بديل له، لا مثيل له، هو حق الطاعة”، وفي نصها” لغة جديدة” وهو آخر نص في الديوان تعبر عن ذلك بقولها: “تتعذر عليك قراءتي يا سيدي، فأنا لا أتمنع، ولا أتغنج أو أتدلل، كما تفعل النساء، لكني أستفز الرجل فيك”، وتقول في مقطع آخر: “أنا أجيد فن الإرباك”، وتنهي الديوان بآخر نص بقولها: “معي فقط تتعلم الحياة من جديد، ومعا فقط نلد لغة جديدة مشتهاة”، ونرى موقفها متجليا في نصها “قبلة وذبذبة لون” بهمساتها: “بيني وبينك، مسافة ضوء، مرة، ومسافة عتمةٍ، مرات..”، ونرى في نص “كل الجسور” الوجهين للأنثى فهي تبدأ النص بالقول: “كل الجسور إليك حلوة شهية، تلامس عندي رغبة وحشية”، لتنهي النص بتمردها المجنون بالقول: “كل الجسور إليك منسوفة، بقايا أطلال وحطام، أحلام باهتة منسية، وأنا مجرد شاهد عيان”، وحين نقرأ نصها “مداي ألف دهشة” والذي منح الديوان اسمه نرى التمرد متجليا فيه بالقول بعد مديح الذات بقوة: “أنا امرأة تحمل الألوهة، في تجويف رحمها، تلد المدى”، وتقول: “مداي مرتع في جنات الخطيئة، وبين ثمار جهنم إذا شئت، أنا امرأة، لا تعرف الطريق الواحد الأوحد، ولا تستهويني النهايات المفتوحة”، ونرى كيف تفكر أيضا بالتعامل مع الآخر بنص “عاريا من الأسمال”، حين تصف كيف ستتعامل معه بالقول: “كالعاصفة أجتاحك، أقتلعك من صومعتك”، وتقول أيضا: “لا أمنحك حق النقض، ولا مساحة من الوقت، لتلملم بقايا دهشتك، وتناثر أوراقك، المقاومة فعل جبان، هي فعل الرجال الذين لا يجيدون، فعل الاستسلام”، وهذا التمرد بالتعامل مع الآخر نراه في العديد من النصوص في الديوان مثل: لحظة توتر/ رحيل/ دخيل أنت/ كالجن اختفى/ أحبك بطريقتي/ في عمق أحزاني/ هكذا قالت العرافة/ قصة حب مجنونة/ أمنحها لك فقط/ لن أكون بانتظارك/ لا تدق أبوابي/ سيدة العشق الجهوري.
الأنثى العاشقة تظهر في نصوص أخرى حين تعود سيدة النص إلى واقعها كأنثى تحب وتخاف على حبها وتعلن احتياجها للآخر، في نصها “قصيدة لم أنشرها بعد” تتحدث عن الحب والخوف عليه فتتساءل: “ما الذي يمكن أن يحل بنا.. بالكون، لو انكسر الحب فينا؟!”، وفي نهاية النص تعبر عن احتياجها للآخر بالقول: “وقلبي يهتف: أحبك قصيدة نشرتها، وقصيدة أنشرها الآن.. وأخرى لم أنشرها بعد، تحتاجك يا سيد الوقت لكي تنظم دقاتها”، وفي نصها الجميل ” عيوننا تختصر كل الحكاية” تروي حكاية حب رائع يصل درجة الإنصهار يبدأ بلغة العيون: “عيوننا تلتقي، وتختصر كل الحكاية”، يلونه ورد أبيض يرمز للنقاء: “أهديك بالأبيض وردة”، وبالمقابل: “تهديني بالأحمر عِقدا، يلفني إليك”، والأحمر عنوان الثورة والعشق الجسدي فتكمل القول: “فنسكن، إلى عبق معبدنا العتيق الأسطوري”، واللون الأصفر رمز الغيرة لا يغيب: “نشعل بالأصفر نارا، تذيبنا وتحيينا”، والأزرق رمز الهدوء يحضرها بالقول: “تسقيني بالأزرق من مائك، أسكبه فيك، ونرتوي، إلى حد العطش الأبدي”، حتى الوصول للراحة برمزية اللون الأخضر: “بالأخضر نرقص، رقصة الفرح والحياة”، ففي هذا النص تعبير كبير عن الحب الروحي والجسدي حيث تقول: “ونتحد، وتختفي الألوان، وتختفي الوجوه والأشكال”، بينما تظهر رقة الأنثى ورغبتها وما تحتاجه من الآخر في نصها: “أحبكَ أكثر”، فهي تريد منه أن يداعب خصلات شعرها وأن يكون صدره وسادة أحلامها، أن تمر اصابعه على مهل جسدها من القدم للرأس، ويلفها بدفء ذراعيه وتحتضن أهدابه فرحها وترقص شفاهه على مبسمها، يعطرها برحيق مائه وتلامس أنفاسه رعشة صبوتها، فتهمس بعد كل هذا أنه عندها: “نصير جنونا.. نصير صلاة، ويصير الأحلى فيما إليه أصبو، أن أحبك أكثر”.
المشاعر الرقيقة الى درجة الاستسلام تتجلى في نص “ماذا عساي أن أفعل؟” حين تخاطب الآخر بالقول: “ماذا عساي أن أفعل، بعد أن صادفتك، وكان ما كان”، وفي نص آخر حمل عنوان “نرى ونعلم” تتحدث عن مشاعرها ومشاعر الآخر والوقوع بنار الحب ومحاولة اخفائها بالقول: “وكنا نعلم أنا لا نستطيع أن نتهرب، إلى ما لا نهاية، خفنا أن نرى وقع اللحظة، أن نحمل وزرها”، وتتألق هذه الأحاسيس والمشاعر في نص “كالنهر أنا”، فتبدأ الكلام بالقول: “أهدأ، أصير حلوة رقراقة، أفيض حبا، وأنسكب فيك”، بينما نجد نصا آخر هو “انتظري” تفيض به مشاعر الحب ولوعة الانتظار، تهمس لنفسها: “قال لي: “إنتظري ريثما أعود”، إرتحلت عيناي معه، محملة بكل القصص الممكنة، تعلقت بظهره المغادر، ولم يعد”، وتتواصل هذه المشاعر والصور الجميلة في نص “المطر ثالثنا” حيث الرومانسية المفرطة فيه بالقول: “هذا الطقس الضبابي، يليق بنا.. بلقائنا، والمطر ثالثنا.. أنتَ وأنا”، بينما في نص “أنسل إليك” نراها تعود إلى لغة الألوان، حيث تستخدم الأبيض والأصفر وسبق أن أشرت اليهما ولكن تضيف الليلكي، وهو لون يندرج بين تموجات الأزرق بهدوءه والأحمر بثورته فتقول: “أغيب عن كل الأشياء، إلا عن سكرة اللحظة، وأنتشي معك غيبوبتي، في، غمرة الليلكي، والأبيض، والأصفر”، وتتجلى هذه الأحاسيس والمشاعر بقوة في نص “حبات اللؤلؤ” ضمن عدة لوحات فنية في النص منها: “وخوفا أكبر، أن ترتعش حبات اللؤلؤ في عينيَّ، أن تنزلق، فترى عيناك، كم راودتني في أحلامي عن نفسي، كم راودتك”، ويصل العشق مداه في نص “ملكة، حصان وانسجام”، حين تصف تلك اللحظات الخاصة بشكل غير معتاد من امرأة في مجتمعاتنا، وتصفه بالحصان الذي تعتليه: “أمسكت اللجام، تمايل تحتي كالحصان.. يمينا شمالا”، فأستعيد من الذاكرة قصيدة نزار قباني “التفكير بالأصابع” حين يقول: “ماذا يهمك من أنا؟ ما دمت أحرث كالحصان، على السرير الواسع”، ونرى جمالية المشاعر العاشقة في نصوص مختلفة عبر الديوان منها: رهينة الترقب/ مناورة/ قصة آدم وحواء- القديمة الجديدة/ على دقات قلبك أرقص/ كذوبان حبة التمر في فمي/ ما زلت طفلة/ أتورط/ أنت مطري/ لحظة صدق/ ما دمت لست هناك/ على صهوة حبك/ ولادة عسل/ كم أشتاقك/ إيزيس/ كأحجار الهرم/ أسبح بلا قيد/ أريدك أكثر/
فلسفة حياتية ما بين النصوص هناك فلسفة خاصة تعبر عن جوانب أخرى لسيدة النصوص، فهي في نص “أحبك عندما تبكي”، ترى أن الجمال في الرجال حين يبكون فتقول: “أحببتك، ما أجمل الرجال عندما يبكون، لماذا لا يبكي الرجال؟”، وفي نفس النص تنتقل لفكرة أخرى: “هل تعلم يا صديقي، أني لا أحب الأطفال، ولا أفهم، كيف فور ولادتهم يحبهم الكبار، فعلاقتي بهم تبدأ، عندما يشهرون صوت إرادتهم، في وجه سلطة أهاليهم”، وفي نص “التقينا” نراها تبحث في فلسفة اللقاء بين الواقع والحلم، بينما في نص “عودة الغياب” نرى رؤيتها للتغيرات التي تطرأ على الحياة والتي ستصدم الغائبين: “عندما يعود الغائبون، لن يجدونا.. لن يتعرفوا على ملامحنا، سيلتقون ببقايا وجع الانتظار”، وفي نصين آخرين اوردت بهما ذكر آدم وحواء حيث نراها تفلسف فكرة الحلم والانتظار، وفي نص “على حافة الاختناق” ونص “إعلان فراق” نجدها تبحث في البرود العاطفي الذي يطرأ على الأرواح فيباعدها ويباعد الأجساد، وفي نص “لا أنوي النسيان” تتحدث عن المفارقة برغبة الرجال بأن لا يكون للنساء أية تجربة سابقة عليهم فتقول: “لماذا يريدون النساء، ممسوحة من كل شيء.. إلا منهم؟”، وفي نص “قصة حب لن تكون” تتحدث عن القلق والشعور بخيانة الآخر لها، فترى أن الحب المتكامل لن يكون: “هو قصة حب لن تكون.. بين رجل وإمرأة، أكثر ما يجمعهما فيها.. هو ما يفرقهما، موازين قوى.. شهوة”، وأيضا في نصوص أخرى منها “محاولات أخرى”، وتتفكر بالحياة في نص “السقوط إلى الوجع”، وأيضا في نصوص “إحتضان” و”توتر” و”نزيف” و”عصير المانجو”.
وهكذا نرى في الديوان أحاسيس هائلة تراوحت بين تمرد الأنثى وبين عشقها وفلسفتها للحياة، بلغة قوية وجزلة أعادت للذاكرة العديد من قصائد الشعر الحر، وتألقت الشاعرة من خلال اللوحات الفنية المرسومة بالكلمات، التشابيه المتميزة والجماليات المختلفة، النغمات الموسيقية، الصور المتنوعة بجماليتها، إضافة للتمرد الخارج عن المألوف، والعشق الرقيق، مازجت بين مشاعر الروح ورغبة الجسد بصور مختلفة، وواضح أن الشاعرة تمتلك ثقافة واسعة وقراءات مكثفة بالشعر وخاصة لنزار قباني وتأثر به، فأثار ما قرأته في مداي ألف دهشة.
“عمَّان 28/3/2021”