مقدّمة:
يطرح عبد الله الغذّاميّ في كتابه النّقد الثّقافيّ، قراءة في الأنساق الثّقافيّة العربيّة،[1] فكرة الأنساق الثّقافيّة الّتي تسرّبت من الشِّعر، وبالشّعر لتؤسّس لسلوك غير إنسانيّ، وغير ديموقراطيّ، وكانت فكرة (الفحل) وفكرة (النّسق الشّعريّ وراء ترسيخها، ومن ثمّ كانت الثّقافة – بما أنّ أهمّ ما فيها هو الشّعر – وراء شعرنة الّذات وشعرنة القيم.[2] ويذهب الغذّاميّ بمعنى النّقد الثّقافيّ في كتابه، إلى نقد للمتن الثّقافيّ والحيل النّسقيّة، الّتي تتوسّل بها الثّقافة لتعزيز قيمتها الدلالية،[3] وهذا النّقد معنيّ بنقد الأنساق المضمرة الّتي ينطوي عليها الخطاب الثّقافيّ، بكلِّ تجلياته وأنماطه وصيَغه، ومن مظاهر هذه الحيل كما لخّصها في كتابه.[4] ومن الأفكار الأساسيّة الّتي جاءت في الكتاب، ما يلي:
- تغييب العقل وتغليب الوجدان.
- إعطاء الجماليّ قيمة تتعالى على الفعليّ.
- جرى في ثقافتنا تبرير كلّ قول شعريّ، وكلّ شخصيّة شعريّة، إلّا أنّ غرس أنماط من القيم ظلّت تمرُّ غير منقودة، ممّا منحها ديمومة وهيمنة سحريّة. ويدعّي الغذّاميّ وجود الجمال في الشّعر العربيّ، ولكنّه ينطوي على عيوب نسقيّة خطيرة جدًّا، ويزعم أنّها كانت السّبب وراء عيوب الشّخصيّة العربيّة ذاتها، فشخصيّة الشّحّاذ والكذّاب والمنافق، فمن جهة شخصية الفرد المتوحّد- فحل الفحول ذي الأنا المتضخّمة النّافية للآخر، من جهة أخرى، هي من السّمات المترسّخة في الخطاب الشّعريّ، ومنه تسرّبت إلى الخطابات الأخرى، ومن ثمّ صارت نموذجًا سلوكيًّا ثقافيًّا يُعاد انتاجه، بما أنّه نسق منغرس في الوجدان الثّقافيّ، ممّا ربّتة صورة الطّاغية الأوحد “فحل الفحول”. ويزعم الغذّاميّ، أنّ الاختراع الشّعريّ الأخطر، هو شعر المديح، الّذي بدأ في نهاية العصر الجاهليّ، عند النّابغة الذبيانيّ (ت. 605 م)، وعند الأَعْشَى مَيْمُون (ت.7ه/629م)، وهو خطاب متكسّب مبنيّ على التّضخيم، التّرغيب والتّرهيب، (شعر المديح ومرادفه شعر الهجاء)، وتقوم ثقافة المديح على النّفاق والكذب، ويقبل بها الأطراف الّذين دخلوا في هذه اللّعبة مشاركين، وقد استمتعوا بها حتّى صارت ديدنًا ثقافيًّا واجتماعيًّا مطلوبًا ومنتظرًا،[5] ممّا أدّى ثقافيًّا إلى سقوط الشّعر، وبروز الشّاعر، وتصوير الحقّ بصورة الباطل، وتصوير الباطل بصورة الحقّ، ممّا أدّى إلى قتل الحقيقة، فأصبح الممدوح منحوتًا بلاغيًّا، وهذا أدّى إلى اختراع الفحل، المتجلي بالفحل الشّعريّ، الّذي تحوّل إلى فحلٍ ثقافيّ، يتكرّر في كافّة الخطابات والسّلوكيات الاجتماعيّة الثّقافيّة والسّياسيّة.[6] وعبر هذه العمليّات الّتي ظلّت تتوالد وتتراكم غير مراقبة ولا منقودة، جرى تخليق نوع من الأصنام البلاغيّة ذات السّلوك النّسقيّ المترسّخ، من حيث تضخّم الأنا الّذي هو مخترع شعريّ، ومن حيث منح الثّقافة للّذات الشّعريّة مزايا وصفات متعالية، وتنزيهها من النّقد، وتبرئتها من العيوب، الأمر الّذي جعلها صنمًا بلاغيًّا، تصنعه الثّقافة بيدها
لتظلّ تخضع له وتذلّ بين يديّ مصنوعها النّسقيّ، وهذا أسهم إسهامًا فعّالًا في خلق وتصنيع شخصيّة (الطّاغية)، وقدّم نموذجًا ذهنيًّا ثقافيًّا عن الصّفات اللّازمة لنشوء الطّاغية.[7]
ويعتمد الغذّاميّ بشكلّ خاصّ في هذا السّياق، شاعرين عبّاسيين، الأوّل أبو تمّام (ت.231ه/ 845م)، والثّاني، أبو الطّيب المتنبي (ت.354ه/ 965م)، ويرى الغذّامي بالمتنبّي، شاعرٌ مكتمل النّسقيّة، وهو أقلّ الشّعراء بحسب رأي الغذّاميّ، اهتمامًا بالإنسانيّ وتحقيرًا له، وهو الّذي هزأ بالحُبِّ والتّشبيب، وهو الشّاعر المفرط في ذاتيّته، وفي أناه الطّاغية، وفي تحقيره للآخر.[8] وكذلك يصف أبا تمّام بالرّجعيّ في نسقيّته، وأنّ حداثته الّتي أشار إليها نقّاد عصره والنقّاد اللاحقون، ليست سوى حداثة شكليّة تتعلّق بلغة المجاز. ويأخذ الغذّامي الرّئيس العراقيّ السّابق صدّام حسين، كمثل سياسيّ لهذه النّسقيّة، كما يصفها، ويلخّص النّسق في هذا السّياق بأربع سمات:
- الذّات الممدوحة، مندمجة مع الذّات المادحة في فعل مشترك فيما يشبه العقد الثّقافي، والتّواطؤ
العرفي القائم على المصلحة المتبادلة بين الطّرفين، مع تسليم المؤسسة الثّقافية بذلك. 2. في النّسق الشّعريّ لا ترى الّذات غضاضة من التّحدث عن ذاتها، ونسبة الأمجاد إليها نسبة
مجازية، لا يشترط لها دليل غير دعوى الذّات وتصديقها لما تقوله عن نفسها.
- في النّسق الشّعريّ، يأخذ مفهوم الفحولة معنى هو أقرب إلى العنف والبطش.
- في ثقافة النّسق لا مكان للمعارضة أو مخالفة الرأي، والآخر دائمًا قيمةً ملغيّة.[9]
وينتقل الغذّامي، إلى العصر الحديث، ويزعم أنّ الشّاعرين نزار قباني وأدونيس، تولّيا بشكلّ خاصّ، إعادة الرّوح للنّسق الفحوليّ، بكلّ سماته وصفاته الفردية المــُطلقة والفحوليّة التّسلّطيّة، وأنّهما حقّقا عودةً رجعيّة إلى النّسق الثّقافيّ القديم المترسّخ، وأنّه تجدّد وازداد ترسّخًا وقبولًا على يديهما كممثلين فحوليين لذلك النّسق. وعبر الاستفحال الّذي يمثله نزار، والتّفحيل الّذي يمثّله أدونيس، ستجري إعادة النّسق إلى نشاطه وفاعليّته، وسيجري تحويل مشروع الحداثة العربيّة من ثوريتها على النّسق، إلى خضوعها التّام للنّسق وانضوائها تحت شرطه الثّقافي والذّهني.[10] ويركّز الغذّاميّ على أدونيس متّهمًا إياه كأحد أشدّ ممثلي الخطاب التّفحيليّ بكلّ سماته النّسقيّة، رجعيّ الحقيقة، وإن بدا حداثيًّا وثوريًّا، وأنّه يمثّل النّسق الفحوليّ، ويعيد انتاجه في شعره وفي مقولاته. بدءًا من الأنا الفحوليّة وما تتضمّنه من تعالي الّذات ومطلقيتها، إلى إلغاء الآخر والمختلف، وتأكيد الرّسميّ الحداثيّ، كبديل للرّسميّ التّقليديّ، وكأنّما الحداثة غطاء لنوع من الانقلاب السّلطويّ بهدف إحلال طاغية محل طاغية، كما هو المفهوم المحرّف لمعنى الثّورة. وما نجده لدى أدونيس بموجب رأي الغذّامي هو تأسيس لنوع من الخطاب اللّاعقلاني، وهو الخطاب السّحراني، وبالتّالي تأسيس حداثة شكلانيّة تمسّ اللّفظ والغطاء، بينما يظلّ الجوهر التّفحيليّ، هو المتحكّم بمنظومتها النّسقيّة ومصطلحها الدّلاليّ المضمر.[11]
هذه المقدّمة تلخّص فكرة أو نظريّة الغذامي في كتابه النّقد الثّقافيّ، الّذي أراد عبره أن يرسّخ مفاهيم النّقد الثّقافيّ، فإنّ النّقد الأدبيّ الّذي يؤدّي دورًا هامًّا في الوقوف على جماليّات النّصوص، وفي تدريبنا على تذوّق الجماليّ، وتقبّل الجميل النّصوصيّ، لكنّه على الرّغم من هذا أو بسببه، أوقعتنا في حالة من العمى الثّقافيّ التّام النّابعة من العيوب النّسقية المخبّئة من تحت عباءة الجمالي. ولذلك يدعو الغذّاميّ إلى موت النّقد الأدبيّ، واحلال النّقد الثّقافيّ مكانه، أي تحويل الأداة النّقديّة من أداة في قراءة الجماليّ الخالص وتبريره وتسويقه بغضّ النّظر عن عيوبه النّسقيّة، إلى أداة في نقد الخطاب وكشف أنساقه.[12]
سؤال البحث:
- هل الأنساق الثّقافيّة القائمة قد تسرّبت من الشِّعر وبالشّعر، لتؤسّس لسلوك غير إنسانيّ، وغير ديموقراطيّ، لتؤسس لشخصيّة الطاغية؟ وبكلمات أخرى، هل الشّعر العربيّ هو المسؤول الأوّل، كما يدّعي الغذّامي، عن الأنساق الرجعية القائمة في الثّقافة العربية؟
- هل تطغى على الشّعر العربيّ أو على معظمه، بقديمه وحديثه، النّسقية الرّجعية كما يرى الغذّامي؟
- هل ما يدّعيه الغذّامي بالنّسبة لنسقيّة الشّعراء المذكورين موضوعيّاً ودقيقًا؟
- هل يمكن للنّقد الثّقافيّ أن يحلّ محل النّقد الأدبيّ، والإعلان عن موت النّقد الأدبيّ؟
تساؤلات ونقد عام لكتاب النّقد الثقافي:
قد نتّفق مع أهميّة النّقد الثّقافيّ الّذي يجب أن يقف إلى جانب النّقد الأدبيّ في حالات كثيرة، وأرى بدوري أنّ هنالك ثمّة إشكالات كثيرة في طرح الغذاميّ، ومنها تعامله مع الشّعر كأداة عقليّة خالصة، لها دورٌ وظيفيّ تربويّ، رغم أنّ الشّعر هو فنّ، وقد يكون الفنّ لأجل الفَنّ، وليس لأجل غاية غرضيّة، كما يرى الفيلسوف الألمانيّ عمانوئيل كانت Immanuel Kant))، (ت 1804م) وقد نظر كانت إلى أن الفنّ أنّه عمل يهدف إلى المتعة الجماليّة الخالصة، أي أنه حرّ، لا غايّة وراءه سوى اللّذة الفنيّة، دون ما قد يتلبَّس به من أفكار وفلسفات أو أخلاق أو قيم اجتماعية أخرى.12 ولذلك فإنّ المتلقّي عامّةً يتعامل مع الشّعر كحالة فنيّةٍ جماليّة، أكثر من تعامله معه كمادّة فكريّة، رغم أنّ الشّعر لم يخل مرّةً عبر تاريخه، من الحكمة والرّؤية الفلسفيّة.
وقد تكون الاشكاليّة الكبرى في طرح الغذّاميّ، كامنة في تصورّه أو تصويره للشّعر، كأنّه هو المسيطر الرّئيسي، على العقل، والعقليّة العربيّة، والّذي تسرّبت من خلاله الأنساق، الّتي انتجت الإنسان العربيّ بجلّ مفاهيمه وسلوكيّاته، وهل فعلًا يمتلك الشّعر كلّ هذه القوة؟! والسّؤال الأهمّ، هل الإنسان العربيّ يعيش في حالة شعريّة، تؤثر على أنماط تفكيره وسلوكه إلى هذا الحدّ الّذي صوّره الغذّاميّ؟ ولماذا لم يتحدّث الغذّاميّ عن ظواهر هامّة خرجت عن وعلى النّسق الّذي يتحدّث عنه، مثل شعر الصّعاليك، والشّعراء القرامطة وغيرهم، من الّذين أضرموا الثّورات السّياسيّة والاجتماعيّة والطّبقيّة؟! وهل الشّعر العربيّ طوال القرون الماضية، وصولًا إلى زمننا الحاضر، كان ولا يزال على وتيرة واحدة أو ضمن سياق ونسق محدّد لا يخرج عنه؟! وهل شاعر كأبي العلاء المعري (ت.449ه/1057م)، الثّائر فكريًّا وعقائديًّا، يُعدّ من شعراء النّسق؟ وكيف يمكن تصنيف أبي نواس (ت.198ه/813م)، المتمرّد على الأعراف الاجتماعيّة، ولماذا لم يشر الغذّاميّ لأحد من هؤلاء في كتابه الضّخم حجمًا، والّذي لا يخلو من الإطناب، والاسترسال والتّكرار، ومحاولة تأكيد المقولات مرّةً بعد أخرى، رغم أنه يتنقد بنفسه هذا الأسلوب، ويعتبره جزءًا من النّسق، كي يتّسم كتابه هذا بالموضوعيّة والنّزاهة العلميّة. لكنّ الغذّاميّ، كان قد اتّخذ أسلوب التّعميم على الشّعر العربيّ برمّته، وعلى الشّعراء الّذين اتّخذهم لإثبات نظريّته من ناحية أخرى، والتّعميم هو النّقيض للموضوعيّة الّتي تشكّل أهم سمات البحث العلميّ والنّقديّ كما يرى الأستاذ محمد العباّس، والذي يقول في هذا السّياق: لقد تغافل الغذّاميّ تقصّدًا وانتقاء عن موجات نسقيّة، كانت تتشكّل بصورة مضادّة في نفس الحقبة الّتي رسم معالمها، إذ لم يبين مثلًا كيف نجا أبو نوّاس من تلك النّسقيّة، ربّما ليقبّح الخطاب الشّعريّ، ويحمّله كلّ أوزار وانحرافات الذّات العربيّة، وكأنّ الشّاعر العربيّ يبدأ قصيدته من منطلق قيميّ جمعيّ مهيمن وينتهي بها؟ رغم وجود شعر المحبّين والعذريين والمتصوّفين والمقهورين والمهمّشين الّذين يصعب على الغذّاميّ أن يحشرهم ضمن قراءته النّسقيّة التّنميطيّة. 14 والجدير بالسّؤال الجادّ أيضًا، انطلاقًا من كلام الأستاذ محمّد العبّاس، أليس المفهوم والتّراث الدّينيّ ، والأيدولوجيّات السّياسيّة هم الأكثر سيطرةً على العقليّة والسّلوك في المجتمعات العربيّة؟ وماذا عن نسقيّة التّراث الدّينيّ، أليس لها أيّ تأثير متوارث منذ قرون؟ وهل جمهور الشّعر العربيّ، أوسع من جمهور المستمعين إلى الخطب الدّينيّة، والمتأثّرين من الإيديولوجيّات السّياسيّة؟ إذن فإنّ الغذّاميّ، كما يبدو ، يضخّم دور الشّعر، وتأثيره على الأفراد والمجتمعات العربيّة، ولا سيّما المجتمعات العربيّة المعاصرة، الّتي لم يعد فيها الشّعر هو ديوان العرب الوحيد، كما أنّه لم يكن أيضًا في الماضي في حقيقة الأمر ديوان العرب الوحيد، وخاصّة منذ بدايات عصر التدوين التّي ساهمت في نهضة الأجناس الأدبيّة المنافسة للشّعر، كما يرى محمّد رجب النّجار الذي يقول: هل يعقل أن نلغي تراث ابن المقفّع والجاحظ وابن قتيبة وأبي حيان التوحيديّ والكنديّ والفارابيّ والغزاليّ وابن رشد وابن سينا وابن حزم وابن طفيل وابن خلدون وغيرهم كثير، لصالح (وهم) أو (سحر) أو (غواية) مقولة الشّعر ديوان العرب، أم أنّه آن الأوان للحدّ من هذه التّعميمات المطلقة والمبالغات ذات النّزعة الخطابيّة التي ينطوي عليها ترديدنا بوعي أو لا وعي لهذه المقولة وكثير غيرها من المقولات/ المسلّمات على إطلاقها من غير أن تكون مقيّدة بسياقها الثّقافي وشرطها التّاريخي أو الحضاري ّالذي أكّدنا عليه. 14
___________________________
- محمد رجب النجار مجلة العربي يونيو 2002
ويذكر الغذّاميّ، الرّئيس العراقيّ السّابق صدّام حسين بإسهاب، كنموذج للنّسقية السّياسيّة، وكنموذج للطّاغية، وبغضّ النّظر عن صدق أو عدم دقّة هذا الإدّعاء الّذي ليس هو موضوع النّقاش معه، إلاّ أنّ اختيار صدّام حسين دون غيره من الحُكّام العرب، في بحث علميّ ونقديّ، يشير إلى عدم موضوعيّة البحث، ويشكل انتقاصًا لمصداقيّته، كونه أخذه كنموذجٍ وحيد، دون حتّى الإشارة العامّة إلى غيره ولو بدون تسميات.
وهذه الإشكاليّات تأخذنا إلى التّدقيق بآراء الغذّاميّ، المتعلّقة بنسقيّة الشُّعراء الّذين يشكّلون برأيه محور النّسقيّة الفحوليّة والرّجعيّة العربيّة، وقد صوّر الغذّامي، فحولة المتنبّي بالإضافة إلى أبي تمّام، من منطلق كونهما شاعرين مادحين متكسّبين، والمديح هو جزء هامّ من النّسق الفحوليّ الّذي أسّس لشخصيّة الشّاعر الفحل/ المادح، والطّاغية/ الممدوح برأيه، وضرب أمثلة من قصائدهما ومن قصائد شعراء آخرين ومنهم جرير (ت.110/ 728م)، كي يثبت نسقيّتهم، عبر تصوير الكذب والنّفاق والفحولة، وإلغاء الآخر وازدرائه في قصائدهم على حدّ تعبيره.
ولم يأخذ الغذّاميّ أيّ جانب مشرق أو إيجابيّ لدى شاعرين بحجم المتنبّي وأبي تمّام، وقد أخرج شعر المديح من سياقه التّاريخيّ، وحكم عليه بأحكام المفاهيم المعاصرة، فشعراء تلك العصور، لم يكن لديهم عامّةً إمكانيّة العيش الكريم دون التّكسّب من الشّعر، ولم يستطيعوا الوصول لمكانة عالية كشعراء دونه، فالشّعر حينها كان بمثابة الإعلام في عصرنا، والمنطق العقليّ السّليم، لا يُبقي مجالًا للشّكّ أن المتلقّي لشعر المديح لم يكن يأخذ المعاني بحرفيّتها، بقدر ما يأخذه جمالها، فهل يعقل أن يصدّق أحدٌ كلّ الصّفات المبالغ فيها للمدوحين من أمراء وملوك ، في قصائد المديح؟ لا شكّ في أنّ المستمع إلى هذا الشّعر كان يهتم للجانب الجماليّ، والبلاغيّ في حالات التّضخيم، ولا يأخذ المعنّى بحرفيه من ناحية عقلية.
المتنبّي وأبو تمّام:
يقع الغذّاميّ نفسُه في نسقيّة الحكم العامّ والأحاديّ، مستعينًا بالاجتزاء، والأجزاء لدعم فكرة عامّة، وقد استعان بالنّماذج الشّعريّة الّتي بموجب تفسيرها أو تأويلها، تجسّد فكرته عن نسقية هؤلاء الشّعراء، ولكنّه اتّهمهم بهذه النّسقيّة اتّهامًا عامًّا، وألغى أيّ دور إيجابيّ لمشروعهم الشّعريّ، وهنا يقع الغذّاميّ كما يبدو، بأسر النّسقيّة الّتي ينتقدها. ويتهم الغذّاميّ المتنبّي أنّه يحتقر المرأة،[13] مستشهدًا بمقاطع من أبيات شعر له، فيذكر صدر أو عجز الأبيات الّتي يقول فيها:
إذَا كَانَ مَدْحٌ فالنَّسِيبُ المـُقَدَّمُ | أكُلُّ فَصِيحٍ قالَ شِعرًا مُتَيّمُ |
النّسيب: التّشبب بالنّساء، وشبب بالمرأة: قال فيها الغزل، ولعله من تشبيب النار وتأريثها.
المتيّم: الّذي استعبده الهوى. يقول المتنبّي: اعتاد الشعراء أن يقدّموا النّسيب في أشعارهم كلّما مدحوا، فأنكر هذه العادة، وقال: أكلّ فصيح يقول الشّعر متيّم بالحبّ حتّى يبدأ بالنّسيب؟ يعني ليس الأمر على هذا، فلا تجارهم في هذه العادة.16 وفي هذا البيت بالذّات، الّذي يستشهد به الغذّاميّ لإثبات نظريته، يدعو المتنبّي بالخروج عن النّسق القائم في عمود الشّعر، ويرى أن التّغزّل بالنّساء يجب أن يكون صادقًا، وليس مجرّد عادة جرت في قصائد المديح ، تُفتتح بشعر النّسيب.
وأعتقد أنّ الغذّاميّ لم يوفق حتّى باختيار البيت الّذي يجزّئه لكي يلبسه نظريته وادّعاءه.
ويستشهد الغذّاميّ أيضًا بصدر هذا البيت: وغــــــــــــــــــير فــــــؤادي للغـــــــــــواني رميةٌ وَغَــــــــــــيرُ بَنَاني للزّجَـــــــــــــــاجِ رِكَاب
الغواني: الحِسان، والرّمية: الطّريدة الّتي ترمى. يقول: إنّ قلبي لا تصيبه النّساء بسهام ألحاظهنّ، إذ لا أصبو إليهنّ، وإنما أنا عزوف النّفس عنهنّ، وكذلك لا أحبّ الخمر ومعاقرتها، فبناني ليست مطايا للزّجاج؛ أي لا أحمل كأس الخمر بيد.17
وللخوذ منّي ساعةٌ ثمّ انثني فلاة إلى غير اللقاء تجابُ
وبفهم عادي لهذه الأبيات، نرى أنّ المتنبّي لا يعبّر سوى عن انشغاله بالبحث عن المجد الّذي يلهيه عن الانشغال بالخمر والنّساء والملذّات، ولا يوجد فيها هزأ بالحبّ والتّشبيب. وقد تغاضى الغذّاميّ في الوقت نفسه، عن كل ما ورد من أبيات حبّ وجدانيّة في ديوان المتنبّي، وتجدر الإشارة إلى أنّه رغم أنّ شعر الحبّ والغزل لم يأخذ القسط الأكبر من مجمل أشعار المتنبّي، ورغم أن شعر الحبّ والغزل بقي فاتحة قصائد مديح بشكل عامّ لديه، إلاّ أنّ الكثير من هذا الشّعر يعبّر عن وجدان صادق ومشاعر جيّاشة، بخلاف ما يدّعي الغذّاميّ، وقصّة حبّ المتنّبي لخولة أخت سيف الدّولة معروفة، وهي الّتي رثاها بحرقة ولوعة وألم وصدق مشاعر، وقد تكلّم عنها محمود محمد شاكر بإسهاب عن حبّه لخولة، 18 وكتب عنها الكثيرون من الباحثين.
وأستشهدُ بهذه الأبيات من شعر المتنبّي المبّكر:
أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ | وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ | |
جُهْدُ الصّبابَةِ أنْ تكونَ كما أُرَى | عَينٌ مُسَهَّدَةٌ وقَلْبٌ يَخْفِقُ | |
مَا لاحَ بَرْقٌ أوْ تَرَنّمَ طائِرٌ | إلاّ انْثَنَيْتُ وَلي فُؤادٌ شَيّقُ | |
جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي جَرّبْتُ مِنْ نَارِ الهَوَى ما تَنطَفي | نَارُ الغَضَا وَتَكِلُّ عَمّا يُحْرِقُ | |
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُه | فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشقُ19 |
وقد تغاضى الغذّاميّ أيضًا، عن صدق حبّ المتنبّي لسيف الدّولة، الّذي عبّر عنه مرارًا حتّى بعد رحيله عنه، وانقطاع التّكسّب والمنفعة الشّخصيّة منه، وقد اتّهمه باحتقار سيف الدّولة، مستندًا إلى قصيدة واحرَّ قلباه، التي فسّرها الغذّاميّ بتفسير مختلف عن غيره، من شارحي ديوان المتنبّي، كالمعريّ والبرقوقي والأفليلي والواحدي واليازجي وغيرهم، والتّي هي قصيدة عتاب، وقد يكون الغذّامي قد ظلم المتنبّي بأن يُقيّمه الغذّاميّ بتقييم منفعيّ فحسب، وكما هو معروف أنّه امتنع من مديح الكثيرين من كبار عصره، رغم أنّهم توسّلوا منه المديح، ومنهم الوزير المهلبيّ، أحد أخطر رجالات عصره، ومن ناحية أخرى قد مدح المتنبّي فاتك المجنون بقصيدة وجدانية، فقط لإعجابه بصفاته الحميدة، غير طامع منه بالمال أو العطايا، والّتي مطلعها:
—————————-
17 عبد الرّحمن البرقوقيّ، شرح ديوان المتنبّي (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص 187
18 محمود محمّد شاكر، المتنبّي- رسالة في الطّريق إلى ثقافتنا (جدّة، دار المدنيّ، 1987)، ص 337-343.
- 19. المتنبّي، ديوان المتنبّي (بيروت، دار الجليل، د.ن.)، ص 28.
لا خيل عندك تهديها ولا مال
|
فليسعد القول إن لم يسعد الحالُ 20 |
وقد آثر المتنبي سيف الدّولة على غيره، ليس من منطلق المنفعة والتّكسّب فحسب، رغم حقيقة اغداق سيف الدولة عليه بالمال والأعطيات الكثيرة، بل لأنّه رأى فيه الأمير والقائد العربيّ الّذي ينسجم مع رؤيته وطموح العرب باستعادة مجدهم، وقد عبّر عن هذا الحبّ غير المشروط بالمنفعة والتّكسّب وبصدق، مرارًا، وهذان البيتان نموذج لذلك:
أحبّكَ يا شمس الزمانِ وبدره | وإن لامني فيمَ السُّها والفراقدُ |
وذاك لأنّ الفضل عندك باهر | وليس لأن العيش عندك بارد |
فهو في هذين البيتين، يعرض لسيف الدّولة في لباقة وظرف، بأنّ أمراء غيره يلومونه في الانقطاع لصاحب حلب، ومنهم مرتفع القدر ومعتدله، ولكنّه لا يحفل بلوم هؤلاء الأمراء، ولا يستجيب لإغرائهم، لا إيثارًا لما يمنحه الأمير من لين العيش وخفضه، بل إكبارًا لفضل الأمير ومجده وتفوّقه على غيره من الأمراء.21
ولم يذكر الغذّاميّ، التأثير الإيجابيّ لشعر المتنبّي على سيف الدّولة، بما يتعلّق بشحذ الهمم في حروب الدّفاع ضدّ الغزاة البيزنطيين الّذين استهدفوا ثغور الشّام. وتناسى أو تجنّب الغذّاميّ شعر الحكمة عند المتنبّي، الّذي لا يزال مؤثرًا في الوجدان العربيّ حتّى يومنا هذا. واستطاع الغذّاميّ برأينا الادّعاء أنّ النّسق موجود وقائم في بعض قصائد المتنبّي وأبي تمام وغيرهما من الشّعراء، فهو قائم في الشّعر العربيّ وفي الثّقافة العربيّة ذاتها، ولكنّه اختار محاولة النّسف الكامل للشّعر العربيّ، عبر تحميل الشّعر العربيّ المسؤوليّة الكاملة عن الخراب الفكريّ العامّ.
وحتّى عندما ذكر الغذّاميّ كتاب الحماسة، لم يذكر منه سوى نماذج المديح، وتغافل عن الأبواب الأخرى الّتي جمعها أبو تمّام، كالرّثاء والنّسيب على سبيل المثال، والمعروف أنّ أبا تمّام، قد جمع من أشعار العرب ما يتوافق مع رؤيته الشّعريّة جماليًّا، طارقًا الأبواب الشّعريّة المعروفة في عصره، ولكن الغذّاميّ لا يستشهد سوى بما يتوافق مع رؤيته، ولا يشير ولو بإشارة بسيطة، إلى أنّ هناك ما هو خارج النّسق عند الشّعراء الّذين يذكرهم. وفي هذا السّياق يقول عبد المنعم الفيا: علينا أن ننظر إلى ظاهرة المديح في سياقها التّاريخيّ والاجتماعيّ الّذي أفرزها حتّى لا نحاكم فنّ المديح بأثر رجعيّ. ولكن الغذّامي رغم ربطه للنّقد الثّقافيّ بالتّأريخانيّة الجديدة، إلّا أنّه لم يطبّق أهمّ شروط هذه التّأريخانيّة، وهو ربط الأحداث والظّواهر بعللها وسياقاتها التّاريخيّة، وعدم النّظر إليها بشكل مجرّد، وكأنّها ظاهرة أزليّة مبتورة الصّلة بحركة المجتمع المتغيرة أبدًا. إنّنا نضع العربة أمام الحصان حينما نحمّل الشّعر المسؤوليّة عما يصفه بالخلل والعيوب الخطيرة في الشّخصيّة العربيّة. فالشّعر والشّاعر، كلاهما نتاج الشّروط التّاريخيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، وعلاوة على ذلك، إنّ الشّاعر المداح، كان يصدر عن منظومة جماليّة تحدّد أغراضًا للشّعر بعينها لا حيلة له في الخروج عليها. ويعد فنّ المديح أهمّ هذه الأغراض الشّعريّة. لذلك القول بأنّ الطّغيان والاستبداد السّياسيّ اختراع شعريّ، هو قلب لمنطق الأشياء. 22
_______________________
20 ن. م.، ص 486.
21 طه حسين، مع المتنبّي (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتّعليم والثّقافة، 2012)، ص 223.
22 عبد المنعم الفيا، العدد الأخير (57) من مجلة كتابات سودانيّة.
نزار قبّاني:
وبالنسبة لنزار قبّانيّ أيضًا، فقد صوّره الغذّاميّ، على أنّه شخصيّة فحوليّة محتقر ومحقّر للنّساء، أي أنّه أخذ منه جانبًا أحاديًّا بما يتوافق مع نظريته عن النّسق، ولم يأخذ الجوانب الأخرى من شخصيّته، ومنها الرّجل المناصر للمرأة، والعاشق الصّادق، ولا شكّ أن نزار كغيره، مرّ بتجارب مختلفة، انعكست على رؤيته الشّعريّة وقصائده، ولا يمكن أن نختزل مشروعه الشّعريّ الّذي دام أكثر من نصف قرن، بحكم أحاديّ الجانب، وعلى سبيل المثال، فقد تجسّد عشق نزار المخلص لزوجته الثّانية بلقيس، الّتي كتب لها قصائد وجدانيّة في حياتها، ورثاها بأجمل قصائد الرّثاء العربيّة في مماتها في حادث الانفجار في السّفارة العراقيّة في بيروت، ويجمع نزار في هذا القصيدة الوجدانيّة الحارقة، الرّثاء المتألّم والحبّ الصّادق، والنّقد الجارح للأنساق العربيّة فكرًا وسياسة ومجتمعًا وأنظمةً وغيرها.
شكرًا لكم …/ شكرًا لكم …فحبيبتي قتلت/ وصار بوسعكم / أن تشربوا كأسًا على قبر الشّهيدةْ
وقصيدتي اغتيلت/ وهل من أمـّةٍ في الأرض/ إلّا نحن تغتال القصيدة؟
بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل/ بلقيس كانت أطول النّخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي/ ترافقها طواويسٌ/ وتتبعها أيائلْ / بلقيس يا وجعي/ ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى /من بعد شعرك سوف ترتفع السّنابل؟
يا نينوى الخضراء/ يا غجريّتي الشّقراء/ يا أمواج دجلة/ تلبس في الرّبيع بساقها/ أحلى الخلاخل…
قتلوك يا بلقيس / أيّة أمّةٍ عربيّةٍ / تلك الّتي / تغتال أصوات البلابل؟
أين السّموأل / والمهلهل/ والغطاريف الأوائل؟ / فقبائلٌ أكلت قبائلْ
وثعالبٌ قتـلت ثعالب/ وعناكبٌ قتلت عناكبْ
قسمًا بعينيك اللّتين إليهما/ تأوي ملايين الكواكب/ سأقول، يا قمري، عن العرب العجائبْ
فهل البطولة كذبةٌ عربيّةٌ؟ أم مثلنا التّاريخ كاذب؟
بلقيس لا تتغيبي عنّي / فإن الشّمس بعدك/ لا تضيء على السّواحل
سأقول في التّحقيق: إن اللّص أصبح يرتدي ثوب المقاتلْ 23
ولماذا لم يذكر الغذّاميّ قصائد نزار قبّانيّ الّتي هجا فيها الأنساق العربيّة، سياسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا، وحتّى عقائديًا على مستوى التراث الديني، مثل قصيدة خبز وحشيش وقمر، وهوامش على دفتر النّكسة، وسائر قصائده السّياسيّة، الّتي جُمعت بمجلّدين ضخمين ضمن أعماله الكاملة. ورغم أنّه لا يمكن انكار بعض تجلّيات الفحولة كما يصفها الغذّاميّ في بعض أشعار نزار إلاّ أنّنا من ناحية أخرى، نجد له قصائد حبّ صادق، وقصائد ومواقف يناصر فيها المرأة ويدعو لحريتها واعلاء مكانتها إنسانيًّا ومساواتها بالرّجل، ونجد في قصائده السّياسيّة نضالًا ضد النّسق الّذي يحاربه الغذّاميّ في كتابه النّقد الثّقافيَ.
__________________________
23 نزار قبّاني، الأعمال الكاملة- المجلّد الرابع (بيروت، منشورات نزار قباني، 1993)، ص 9-17
أدونيس:
أمّا بالنّسبة لادعاء عبد الله الغذّاميّ المتعلقة برجعية أدونيس ونسقيّته، نراه قد كرّس جهدًا أكبر وأعمق، ممّا فعل بالنّسبة لأبي تمّام والمتنبّي ونزار قبّاني، وذلك يعود برأيي، لحقيقة أنّ أدونيس ليس شاعرًا فحسب، بل هو منظّر للشّعر والثقّافة والحداثة الشّعريّة، ويعتبر أحد آباء الحداثة الشّعريّة المعاصرة كشاعرٍ ومفكّرٍ ومنظّر، فهو الأب الحداثيّ، كما يعترف الغذّاميّ نفسه، وهو أكثر شاعر عربي حارب الأنساق الرّجعيّة على جميع الأصعدة.
ومن الجدير تلخيص رأي الغذّامي المتعلّق بأدونيس، الّذي يدّعي أنه هو أب النّسقيّة الجديد، ووارث النّسق الشّعريّ. ويرى الغذّاميّ أن الظّاهرة الأدونيسيّة، قد ظهرت لتكون مشروعًا حداثيًّا في ظاهرها على مستوى التّنظير، والكتابة، حيث أتى أدونيس عارضًا رمحه الفحوليّ، أو التّفحيليّ، ممثلًا الذّائقة النّخبويّة والحداثيّة، فكريًّا وتأسيسيًّا، وبالتّالي فإنّ أدونيس، كأبي تمّام، حداثيّ وتجديديّ في ظاهره، رجعيّ في حقيقته حسب رأيه. ويدّعي في جملة ادعاءاته، أنّ تحوّل علي أحمد سعيد إلى أدونيس تحوّل نسبيّ، هو تحوّل من الفطريّ والشّعبيّ إلى الطّقوسيّ، والفحوليّة الجديدة من حيث هو اسم مفرد بديل من الاسم المركب، ويحمل مضامين وثنيّة ومتعالية وهيبة أسطوريّة. 24
ويحدّد الغذّاميّ السّمات العامّة للخطاب الأدونيسيّ في النّقاط التّالية:
- مضادّ للمنطقيّ والعقلانيّ.
- مضادّ للمعنى، وهو تغيير في الشّكل ويعتمد اللّفظ.
- نخبويّ وغير شعبيّ.
- منفصل عن الواقع ومتعالٍ عليه.
- لا تأريخيّ.
- فرديّ ومتعال، ومناوئ للآخر.
- هو خلاصة كونيّة متعالية وذاتيّ.
- يعتمد على إحلال فحل محل فحل، سلطة محل سلطة.
- سحريّ، والأنا فيه هي المرتكز
وحُكم الغذّاميّ على أدونيس قد يكون أكثر تجنّيًّا من حكمه على غيره، من الشّعراء الّذين ذكرهم في كتابه، وكأنّنا به وقد احتاج إلى تسديد ضرباتٍ أقوى، كي يحاول اقناعنا بأنّ الأب الحداثيّ، والمتمرّد الأكبر على الثّابت في الموروث الثّقافيّ العربيّ والإسلاميّ، ليس سوى وريث النّسقيّة القائمة منذ الشّعر الجاهليّ. وإنّما ليس من الصّعب برهنة الفجوة الشّاسعة بين ادّعاءات الغذّاميّ المتعلقة بأدونيس وبين الحقيقة. ولذلك سنقوم بتفنيد السّمات العامّة (للخطاب الأدونيسيّ)، كما يطرحها الغذّاميّ، وذلك من خلال الاستعانة بنماذج من شعر أدونيس وآرائه، وأراء نقّاد وباحثين، ومنظورنا الشّخصيّ لشعره وآرائه.
————————–
- 24. عبد الله الغذّاميّ، النّقد الثّقافيّ، ص 271-272
أ-) اِدّعاء الغذّاميّ بأنّ أدونيس بشعره وآرائه، مضادّ للمنطقيّ والعقلانيّ ومضادّ للمعنى، وهو تغيير في الشّكل، ويعتمد اللّفظ.
أولًا: لو كان الشّعر كلّه منطقيًا لتحوّل إلى مقالات علميّة، أو نشرات أخبار، والشّعر هو فنّ وجداني، ولا يمكن أن يكون عقلانيًّا وذهنيًّا بالمطلق، هو تمفصلُ العقل والمشاعر، ولو كان عقلانيًّا بالمطلق لتحوّل إلى مقال فكريّ أو فلسفيّ، ولكنّ أدونيس بالذّات يُعدُّ شاعرًا متّسمًا بالفكر في معظم أشعاره، ولذلك فإنّ ادّعاءات الغذّاميّ هذه مستغربة.
في هذه النّماذج من قصائد أدونيس، سنرى إن كانت حقًا كما يدّعي الغذّاميّ؟
مهيار وجهٌ خانهُ عاشقوه / مهيار أجراسٌ بلا رنين / مهيار مكتوبٌ على الوجوه
أغنيةٌ تزورنا خلسةً / في طرقٍ بيضاءَ منفية / مهيارُ ناقوسٌ من التائهين
في هذه الأرض الجليلية.
***
ضيّعَ خيطَ الأشياء وانطفأتْ/ نجمةُ إحساسه وما عثرا
حتى إذا صار خطوُهُ مِن مَلَلِ/ جَمّع أشلاءَهُ على مَهَلِ / جَمّعها للحياةِ، وانْتَثَرا.
***
يهبطُ بين المجاذيف بين الصّخور/ يتلاقى مع التائهين/ في جرار العرائس/
في وشوشاتِ المحارْ/ يعلنُ بعث الجذور/
بعث أعراسنا والمرافئ والمنشدين/ يعلنُ بعثَ البحارْ 25
فهل هذه النّماذج على سبيل المثال لا الحصر، وإن كانت تعتمد المجاز، مضادّة للمنطق والعقلانيّ والمعنى كما يزعم الغذّاميّ؟ وقد يكون في شعر أدونيس الّذي وصفه هو نفسه مرات عديدة بالتّجريبيّ، ما يبدو للقارئ غير المعتاد على هذا قراءة الشّعر الحداثيّ الغامض، ما يتنافى مع منطقه الشّخصيّ، لأنّ الكثيرين من القرّاء يقرؤون من ذاكرتهم، ويستصعبون قراءة نصّ خارج أصداء ذاكرتهم، والأهمّ كون الشّعر انزياح عن المنطق المباشر، عبر مجازاته واستعاراته، ولولا هذا لابتعد الشّعر عن شاعريّته، فالشّعر لا يُقرأ بأسلوب الرّياضيات والفيزياء وسائر العلوم الدّقيقة.
ب) ادّعاء الغذّاميّ بأنّ أدونيس نخبويّ وغير شعبيّ:
صحيح أن أسلوب أدونيس فيه غموض، ومبتعد بشكل تام عن المباشرة، وقد عبّر عن رأيه في هذا الصّدد في كتاب زمن الشّعر، حيث يقول: أنا لا أبشرّ بالغموض، وهذه مناسبة لأشير إلى أنّ في حياتنا الشّعريّة شعبذة تتخذ من “الغموض” ستارًا لتخفي عجز أصحابها عن الإبداع. إنَّ من يحارب الشّعر الحداثيّ باسم “الغموض”، يحارب الأعماق من أجل أن يبقى على السّطح، ويحارب البحر من أجل أن يبقى في السّاقية، ويحارب الغابة والرّعد والمطر، من أجل أن يبقى في الصّحراء.
_______________________
- 25. أدونيس، أغاني مهيار الدّمشقيّ، الأعمال الشّعريّة المجلّد الأوّل (دمشق، دار المدى للثّقافة والنّشر، 1996)، ص 146- 147، 151.
تصوّروا الإنسان أو العالم “واضحًا”: لن يكونا آنذاك أكثر من تسطّح هائل، ولن يكون فيهما مكان للشّعر. 26
وشِعر أدونيس وإن كان معظمه غامضًا فهو ليس مبهمًا، ومن يعتاد على قراءته، ويتحكّم بمفاتيح نصوصه ومغاليقها، فإنّه لن يجد أيّ صعوبة في فهم قصائده، رغم أنّ النّصوص الإبداعيّة العالية قابلة لتعدّد القراءات والتّأويلات، ولكن هناك الكثير من السّهل الممتنع في شعر أدونيس، وأكتفي بهذا المقطع القصير من كتاب كامل، يحوي على تنوّعات لقصيدة حبّ واحدة، وأرى أنّ معظم هذا الدّيوان كتبه أدونيس بأسلوب السّهل الممتنع كونه شعر حُبّ
خرج الوردُ من حوضهِ لملاقاتها / كانت الشّمس عريانةً في الخريفِ / سوى خيط غيمٍ على خصرها
هكذا يولدُ الحبُّ في القرية / الّتي جئتُ منها27
ت) اِدّعاء الغذّاميّ أنّ أدونيس منفصل عن الواقع ومتعال عليه:
للوجوه التي تتيبّس تحت قناع الكآبة /أنحني، لدروب، نسيت عليها دموعي
لأبٍ مات أخضر كالسّحابة / وعلى وجهي شراع أنحني/ ولطفل يباع / كي يصلي وكي يمسح الأحذية/ ولصخر نُقشت عليه بجوعي / أنّه مطر يتدحرج تحت جفوني وبرقٌ
وليت نقلت معي في ضياعي ترابه / أنحني ـ هذه كلّها وطني، لا دمشق28
***
ها أنا أتسق أصعد فوق صباح بلادي / فوق أنقاضها وذراها
ها أنا أتخلّص من ثقل الموت فيها / ها أنا أتغرب عنها لأراها / فغدًا قد تصير بلادي29
هل في هذه النماذج انفصال عن الواقع وتعالٍ عليه كما يدّعي الغذّامي؟!
ث) اِدعاء الغذّاميّ أن أدونيس لا تأريخيّ، فرديّ ومتعال، ومناوئ للآخر: عن علاقة الشّعر بالتّأريخ، يقول أوكتافيو باث: كلّ قصيدة هي محاولة للمصالحة بين الشّعر والتّأريخ لصالح الشّعر. ذلك أنّ الشّاعر، حتّى عندما يندمج في المجتمع الذي يعيش فيه وعندما يشارك فيما يسمّى مجرى العصر، هذه الحالة المتطرّفة الّتي بات تصوّرها في عداد المستحيل ينشد دومًا التّملّص من طغيان التّأريخ. إنّ جلّ المحاولات الشّعريّة الكبرى، من القول السّحريّ، والقصيدة الملحميّة إلى القصيدة الآليّة، تدعو إلى جعل القصيدة بوتقة ينصهر فيها التأريخ بالشّعر، الواقعة بالأسطورة، الأساليب العاميّة بالتّصويريّة، التّأريخ DATE الّذي لا يمكن أن يُكرّر.30
___________________
26 أدونيس، زمن الشّعر (بيروت: دار العودة، 1996)، ص 158
27 أدونيس، أوّل الجسد آخر البحر (لندن: دار السّاقي، 2003)،ص 19.
28 أدونيس، ارم ذات العماد- الأعمال الشّعرية المجلّد الأوّل (دمشق: دار المدى للثّقافة والنّشر، 1996)، 259.
29 ن. م.، ص 256.
- 30. أوكتافيو باث ، MAGIS، CARLOS H. LA POESÍA HERMÉTICA DE OCTAVIO PAZ، EL COLEGIO DE MÉXI ، 1978
بحسب هذا التّعريف لعلاقة الشّعر بالتّأريخ كنموذج، فإنّ أدونيس شاعر تأريخيّ بامتياز، وقد يكون من أكثر الشّعراء العرب
تأريخيّة، وعمله الشّعريّ الضّخم، الكتاب ــ أمس المكان الآن، بمجلّداته الثّلاثة الضّخمة، من أكثر الأعمال الشّعريّة المعاصرة
تأريخيةً، وفي “الكتاب” الّذي صدر جزؤه الأوّل عام 1995، يتابع أدونيس مشروعه الفكريّ الّذي بدأه بديوان الشّعر العربيّ،
والثّابت والمتحول، ومتجاوزًا به أيضًا، موضوعة وجوب إعادة قراءة الشّعر العربيّ في ضوء الحاضر، إلى وجوب إعادة النّظر في الذّات العربيّة من خلال معاينة التّاريخ العربيّ بأكمله على ضوء الحاضر.31
واستشهد بنموذج من “الكتاب- أمس المكان الآن”:
قالوا: ” أُحرق جسم الحلاّج / وذرَّ رمادًا// في دجلةَ/ قالوا: فاضت دجلةَ حُبًّا / صوتُ الحلاّج كنايٍ / في طبقات الكونِ، دمٌ كونيٌّ/ ويعيش وحيدًا / بين الأوّل والآخِرْ/ لا يعرفُ أن يتشبّهَ بالينبوع الدافقِ / إلاّ الشّاعرْ 32
وأستشهد بمقطع من قصيدة مقدمة لتأريخ ملوك الطّوائف:
قتلتني قتلت أغنياتي/ أأنتِ مجزرة أم ثورة؟ / أحارُ، كلّ لحظة أراكٍ يا بلادي في صورةٍ …
وعليّ يسأل الضّوء، ويمضي، حاملًا تأريخه المقتول من كوخٍ لكوخ / (علموني أن لي بيتاً كبيتي في أريحا / أن لي في القاهرة / أخوة، أن حدود النّاصرة / مكة/ كيف استحال العلم قيدا؟ / ألهذا يرفض التّأريخ وجهي؟ / ألهذا لا أرى في الأفق شمسًا عربيّة؟)/ لم تيأسِ انتفضتَ صِرتَ الحلم و العيون / تَظَهَرُ في كوخٍ على الأردن أو في غزّة و القدس
تقتحم الشارعَ وهو مأتمٌ تتركه كالعرس / وصوتك الغامر مثل بحر / ودمك النّافر مثل جبل
وحينما تحملك الأرضُ إلى سريرها / تترك للعاشق للاحق جدوَلين / من دمك المسفوح مرّتين.33
فهل هذا شعر لا تأريخيّ، أو خارج التّاريخ؟! وكيف يمكن لأيّ ناقد موضوعيّ، أن يستنتج، ولو من خلال هذه النّماذج، الّتي تعبّر عن روح هذا الشّاعر أنّه فرديّ ومتعال، ومناوئ للآخر، فأيّ آخرٍ يقصده الغذّاميّ تحديدًا؟! فمصطلح الآخر، هو مصطلح فضفاض، غير محدّد، وهل يُعقل أن يكون أدونيس أو غيره مناوئ للآخر بالمطلق؟؟!! ألم يصوّر أدونيس في هذه القصيدة عذابات الشّعب الفلسطينيّ؟ فهل أدونيس مناوئ له أيضاً كونه مشمول مع مصطلح الآخر الفضفاض، الّذي جاء على لسان الغذّاميّ جزافًا؟ وهل هو خلاصة كونيّة متعالية وذاتيّة بموجب النّماذج الواردة الّتي تتّحد مع هموم النّاس والأوطان العربيّة وجراحها ومصائرها؟ وفردانيّة أدونيس، بقدر ما هي منفصلة بقدر ما هي متّصلة، بالحركة الجوهريّة للمجتمع والإنسانيّة، وفي هذا السّياق يقول المفكّر عادل ضاهر: الإنسان في عالمه يشيّأ ويعمم في عملية موازاة أو تسطيح تحيله ليس فقط إلى قطاع واسع من قطاعات حيواته المثقلة بالإلحاحات الخارجيّة، بل أيضًا إلى مركز خلال شيء مجرّد يماهى معه، أي من خلال كونه، مثلًا قوميًّا أو ناصريًّا أو بعثيّا أو سنيًّا أو كاثوليكيًا. إنّه وجود في الأمّة أو وجود في الحزب أو وجود في
_________________________________
31 أسميّة درويش، تحرير المعنى- دراسة نقدية في ديوان أدونيس (بيروت: دار الآداب، 1997)، 8.
32 أدونيس، الكتاب- أمس المكان الآن (لندن: دار السّاقي، 1995)، ص 114، 119.
33 أدونيس، مقدمة لتأريخ ملوك الطّوائف، الأعمال الشعرية، المجلد الثاني، هذا هو اسمي (بيروت: دار المدى، 1996)، ص 246
الطّائفة. وبعد اكتساح قيم الثّقافة الاستهلاكيّة عالمه بكلّ قوّتها بلغ التّجريد أقصاه، اذ تحوّل الإنسان إلى مجرّد مستهلك. في ظلّ عوامل التّجريد هذه يسلب الإنسان حضوره الّذاتيّ، يموت الإنسان- الفرد، ليحلّ محله الإنسان النّوع. إنّنا في هذا العالم “مسجونون خارج ذواتنا”، كما قال الشّاعر والفيلسوف الفرنسي بول فاليري (ت.1945 م)، من هنا نفهم انشقاق أدونيس عن محيطه، معنى انغلاقيّته الموناديّة. إنّ أدونيس يردّ على عوامل التّجريد والتّشيّء اللاشخصيّة في محيطه عن طريق التّحصّن في الدّاخل. إنّه يرفض أن يكون مسجونًا خارج ذاته، ويأبى أن يكون مجرّد مركز لتلقّي النّتائج الموضوعيّة، ويتمرّد على كلّ ما من شأنه أن يجرّد وجوده من عينيته. التّموند (التّحصّن في الدّاخل)، هو الوسيلة لاستعادة ذاته (لإنقاذها من براثن التجريد) ولإتقان فنّ الحفاظ على وجوده الذاتيّ.34 وفي سياق الانخراط في الواقع والتّاريخ يقول أدونيس: لعلّنا نعرف: ليس للقصيدة، للرّواية، للمسرحيّة، للّوحة، فعل مباشر يشارك في تغيير التّاريخ مشاركة مباشرة. لكن لهذه جمعيًا قدرة التغيير، بشكل آخر: تقدّم صورة جديدة أفضل للعالم – أي أنّها تعيد خلقه، وإذ تعيد خلقه، تغيرّه. لكنّنا لا نستطيع أن نعيد خلق العالم، حقاً، أي أن نشارك في صنع التّاريخ. ما لم ننخرط فيه. بل إنّنا لا نستطيع أن نكون أحراراً إلاّ بدءاً من الانخراط في حركة التّاريخ. كل كاتب لا ينخرط، لا يمكن أن يكون حُرّاً بالمعنى العميق الفعّال35
ج) – اِدعاء الغذّاميّ أن أدونيس يعتمد على إحلال فحل محل فحل، سلطة محل سلطة:
إنّ ادعاء الغذّامي هذا مردود عليه، فصاحب كتاب الثّابت والمتحوّل، هو من أكثر الشّعراء العرب المعصارين، الّذين دعوا إلى نبذ السّلطة القائمة للثّقافة السّائدة، على جميع مستوياتها، وهو من أكثر الشّعراء والمفكّرين العرب الذين يناصرون ثقافة الهامش، الخارجة أو المتمرّدة على سلطة التّاريخ والتّراث العام، والتّراث الدينيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ والأدبيّ، وهذه هي أصلاً نقطة البيكار في مشروع أدونيس الفكريّ والتنظيريّ والشّعريّ، فأدونيس طبّق نظرياته شعرًا، بقدر ما نظَّرَ لرؤيته الشّعرية، لذلك لا يمكن فصل أغاني مهيار الدّمشقيّ ومفرد بصيغة الجمع والكتاب_ أمس المكان الآن، عن كتاباته الفكرية والتّنظيرية والبحثية مثل الثّابت والمتحوّل وزمن الشّعر والشّعرية العربيّة وموسيقى الحوت الأزرق والكتاب الخطاب الحجاب، الذي ناقش فيه ثقافة التكفير وغيرهم من كتبه ومقالاته. وفي كتاب أحاديث مع والدي أدونيس، الذي حاورته فيه ابنته نينار، والذي صدر باللغة العربية أيضًا، يحطّم أدونيس بكلّ شجاعة، الكثير من الأعراف الاجتماعية العربيّة والشّرقيّة القائمة على النسق الرّجعي. 36
_____________________
34 عادل ضاهر، الشّعر والوجود -دراسة فلسفيّة في شعر أدونيس (دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، 2000 )،ص 208- 209.
- 35. أدونيس، سياسة الشّعر، دراسات في الشّعرية العربيّة المعاصرة، (بيروت، دار الآداب، 1985).
36 CONVERSATIONS WITH MY FATHER, ADONIS, NINAR ESBER, SEAGULL BOOKS .
ح) – ادعاء الغذّامي بأنّ أدونيس سحري، والأنا فيه هي المرتكز:
سحر اللغة، وسحر البلاغة، من أهم مقوّمات الشّعر، فهي تشكّل جمالية الشّعر، والشّعر بلا جمالية سحرية، ليس له قيمةً فنيّة، والغريب أن الدّكتور الغذّامي نفسه سبق وأن تبنّى رؤية أدونيس (السّحرانية) بالتّمام والكمال في كتابه (الخطيئة والتكفير: من التّشريحيّة إلى البنيويّة) حيث انتهى إلى أن النّقد الأدبي قائم أصلاً على تمجيد اللفظ وسحره، حيث كان يقول ” تفسير النّص هو البحث عن أثره، وأثر النص هو سحر البيان، ومهمة النّاقد هي اصطياد هذا السّحر.
كذلك كان يرى في، لاعقلانية الخطاب الشّعري، حقيقة الشِّعر، حيث يقول:” الحقيقة الشّعرية تختلف عن الحقيقة الواقعية. فالشّعر هو اللاواقع واللاحقيقة”.37
وبالنّسبة “للأنا المرتكز” فهي الأنا الفردانية، الثّوريّة، الخارجة من الأنا الجمعية، وهي الأنا الصّوفية المتوحّدة مع الكون والوجود. وقد عبّر أدونيس عن هذه الأنا المتفرّدة كجزء من الثّقافة المتحولة عن الثبّات السّائد، فيقول: “إنّ الذّاتيّة عند الشّعراء العرب الصّعاليك وعند عدد آخر من شعرائنا القدامى، كانت علامة التّحرّر والحريّة، أي رفضًا للتشيؤ، سواء كان الانصهار في جماعيّة القبيلة وعصبيتها، أو الخضوع لسّلطويّة النظام. كانت هذه الذاتيّة يقظة في عالم يحكمه نظام الأشياء. في هذا المنظور نفهم جانبًا من دلالة الحركات الثّوريّة في التّاريخ العربي، والحركات الفوضويّة ومختلف الحركات الفكريّة التي وُصفت بالتّطرّف.
ومن هذا المنظور أيضًا تتجلّى ايجابية الحركة الصّوفية. فحيث يكون الشّيء هو السّيد، لا بدّ لكي تتغلّب عليه، من الذّهاب إلى نقيضه، إلى الحدّ الأقصى الآخر: الأنا. وفي عمليّة المجابهة، لا تعود الأنا، تكتفي بسيادتها على الشّيء، وإنّما تطمح إلى أن تصبح الكون كلّه: ” ما في الجبّة غير الله”- كان يقول الحلاّج.38
وبعد الردّ على (سمات الخطاب الأدونيسي) حسب ادعاءات الغذّامي، أستشهد ببعض الآراء الهامّة عنه، والتي تجد دليلها في شعره ونثره، والتي تتناقض مع رأي الغذّامي الذي يتّهم دون حتّى محاولة اثبات مزاعمه، في كتابٍ ضخم الحجم، يكثر فيه بالاسترسال والاطناب والتّكرار، حيث لا حاجة لهذا الترهّل، ويختصر ويختزل ويقتضب، عند حاجته لإثبات ادعاءاته.
إدوار سعيد
(في مقدمته لكتاب الضّوء المشرقيّ): إن أدونيس شاعر عميق الثّقافة استوعب أشعار امرؤ القيس، المعرّي، المتنبّي، وأشعار جمهرة من الكتّاب المحدثين، وليس ثمّة سوى بضعة شعراء عرب أتقنوا شكل القصيدة بشكل كامل كما فعل هو. ولكن في كلّ ما يكتبه هناك التوتّر بين ما هو موروث وما يُجعل جديدًا، بين الموروث والابداع، وهو توتّر يعيد انتاجه وتجديده إبداعيًا، كما يفعل المؤوّلون الخياليون في التّأويل. نجد إذن في أدونيس الماضي والحاضر متشابكين في عملية درسها بحرص أكبر وبأهميّة أكبر من أيّ شخص قبله. هذا إذن ما يجعل أدونيس المربّي الشّعري لزمانه. ولقد كان موضوعه على الدوام، كما يخبرنا اسمه، هو التّجديد، وفي هذا المشروع أوغلَ إلى أبعد ممّا فعله أي شخص يكتب اليوم.39
ميشيل كامو: ليس الشّعر، كما يراه أدونيس، غايةً في ذاته، وانما هو وسيلةٌ لتحول ذاتيّ يتّجه نحو معرفة الذّات ووحدة المعرفة. وشعر أدونيس إنما هو تخطٍّ للشّعري بالمعنى الذي يجتاز فيه ويتجاوز الشّعر العربي.40
______________________
37عبد الله الغذّاميّ، الخطيئة والتّكفير- من البنيويّة إلى التّشريحيّة (المركز الثقافي العربي، 2006).
38 أدونيس، زمن الشّعر، ص 272- 273.
- الضوء المشرقي، أدونيس كما يراه مفكرون وشعراء عالميون، بدايات للطباعة والنشر والتوزيع، سورية- جبلة، 2004. ص 4.
ADONIS DANS LES PYR N ES, CONTRA MUNDUM PR, 2018. 40
ديفيد بريس جونز:
أدونيس علامة مجسّدة على التّجديد والّتي يجدر بنا جميعًا أن نستحضرها في أمانينا.41
مانريكو مورزي:
فوق ذلك المدرّج العظيم للبحر المتوسط، كان صوت أدونيس الرّاعش يتردّد من ضفّة إلى ضفّة، بين أصوات معلّمين آخرين، على غرار مالارميه وكافكا وييتس.42
أسميّة درويش:
أدونيس شاعر معاصر لخروج العالم العربيّ من دائرة الاستعمار الاستيطانيّ إلى مدار التبعيّة السّياسيّة/الاقتصاديّة للآخر. وتاريخ وعيه بهذا الوضع هو إلى حدٍّ كبير تاريخ حياته وصراعاته. فمنذ بداياته الشّعرية الأولى وهو رازخ تحت وطأة الألم من حالة التخبط العربيّ في أزمةٍ لا تفتأ تزداد حدّةً وتعقيدًا. ولا يزال حتّى الآن باحثًا عبر السّؤال عن العوائق المؤسسية التي توطّد التخلّف والتّصدّع في البنى العربيّة على اختلافها، والتي أوصلت الأمّة إلى حالة من التّشظّي وانعدام التّوازن الرّوحيّ والفكريّ والسّياسيّ والعلميّ على حدٍّ سواء.43
عادل ضاهر:
إنّ أدونيس يضعنا في أجواء الثّقافة السّائدة في عالمنا ويدعونا إلى التأمّل مليًا في طبيعة هذه الثقافة. محاولاً في سياق ذلك خلق المعادل الشّعري لنقد فلسفيّ جذريّ لهذه الثّقافة.44
وبالنّسبة لتغير أدونيس لاسمه الأصليّ، علي أحمد سعيد، وما جاء في هذا السّياق من ادّعاء الغذّاميّ بأنّ تغيير الاسم هو تحوّل نسبيّ، هو تحوّل من الفطريّ والشّعبيّ إلى الطّقوسيّ والفحوليّة الجديدة من حيث هو اسم مفرد بديل من الاسم المركّب، ويحمل مضامين وثنيّة ومتعالية وهيبة أسطورية، فهذا اتّهام غير مبنيّ على حقيقة سبب تغيير ادونيس لاسمه الحقيقيّ ( علي أحمد سعيد اسبر)، فقد صرّح أدونيس بعدة لقاءات معه حين سُئل عن تغيير اسمه، وقال بأنّه كان يرسل قصائد للنّشر في صحيفة، باسمه الأصلي، ولم تنشر الصّحيفة قصائده، وأرسل قصائد تحت اسمٍ مستعار وهو أدونيس فنشرتها الصّحيفة، فبقي على الاسم الذي عُرف فيه كشاعر، كما أنّ أدونيس يردّ على ما زعمه الغذّاميّ بالنّسبة لتغيير الاسم معقّبًا بقوله:
____________________
41 أدونيس، الضّوء المشرقيّ، 213.
42 ن. م، ص 217.
43 أسميّة درويش، مسار التّحولات- قراءة في شعر أدونيس (بيروت: دار الآداب، 1992)، ص 9.
44 عادل ضاهر، الشّعر والوجود- دراسة فلسفية في شعر أدونيس، ص 51.
أكتفي بالقول إن اتخاذ اسم أدونيس في إطار الثّقافة العربيّة السّائدة، وبخاصّة في أبعادها الغيبيّة، إنمّا هو على العكس اختراق للأنساق كلّها. وأعجب حقّاً كيف أن الأستاذ الغذّامي يؤوّل اتخاذ هذا الاسم هذا التأويل. إنّه في عمقه تأويل «فقيه»، وتأويل شخص يُعنى بالأيديولوجيا لا بالشّعر. وفي هذا السّياق يحقّ لنا أن نثبت ردّ أدونيس العام على ادعاءات الغذّامي، في حوار أجراه معه الكاتب والباحث السّوري عمر كوش ” أنا اختلف مع الغذّامي كلّياً في نظرته وفي طريقة فهمه للشّعر، خاصّة، أنّ نقده الثّقافيّ هو في جوهره تسمية أخرى للنّقد الماركسيّ التّبسيطيّ المؤدلج المباشر الذي لا يَفهم الشّعر بالشّعر، بل بما حوله وبما هو خارجه، والذي تجلّى نصوصاً في الممارسات الجدانوفية/ السّتالينية. إنه نقد باسم «الخارج» الانحن، الأمّة الجمهور والجماعة. نقد باسم «الأنا» الخارجيّة، الانتماء، السّياسة القوميّة، الخ» … وهذه كلّها، بنظر أدونيس، ليست أكثر من إطار “ونقد الشّعر ليس نقداً للإطار، وإنما هو استقصاء فنّيّ ومعرفيّ لحركته الدّاخلية وأبعادها، كأنّ الأستاذ الغذامي لا يرى من الورد عطرها، وإنما يكتفي برؤية وعائها وسمادها، فهو يبدأ أوّلاً بقتل الشّعر والشّعرية، محوّلاً النّص الشّعري إلى «وثيقة» اجتماعية. ولهذا يخلط بين الذّاتيّة والفرديّة، ولا يربط بين الفحولة وسياقها القبليّ/ البدويّ، مهملاً كل ما هو داخليّ، حميم، ذاتيّ، أي كلّ، لا قوام للشّعر إلا به. إنّه نقد لا يُعنى إلا «بالأنا» الخارجيّة، أنا المجتمع، أنا الانتماءات الايديولوجيّة والقوميّة والاجتماعيّة، والشّعر داخلياً، أنا داخليّة، وهو إذن يقف ويفكّر في الطرف الآخر المناقض للشّعر”. وبعد أن يستفيض في شرح فكرته هذه، يقول إن هناك أشياء كثيرة أخرى تقال عن النّقد الشّعري، والنّقد الثّقافي، وكذلك عند الغذّامي. خلاصتها، فيما يتعلّق بالشّعر، إنه يتكلّم على الشّعر بأدوات وطرق غير شعريّة، ومن خارج الشّعر. وهذا وحده دليل ساطع على فساد هذا النقد. “أمّا نقده الثّقافيّ فأتركه إلى آخرين أكثر اختصاصاً وعلماً منّي”.45
ويرى الباحث المغربيّ عبدالرّزاق المصباحي، أن الغذّامي يضمّن، في هذا الموقف السّلبيّ من الشّكليّ والجماليّ، محاولةً نسقيةً في تنميط الخطاب الشّعري، وجعله شبيها بخطابات لوغوسية أخرى حينما يرمي اللغة الشّعرية بالتّعالي عن متلقّيها بسبب مجازاتها واستعاراتها دون اعتبار كونها مقوّمات تحفظ خصوصية الشّعر، فيدعو الشّعراء إلى استعمال لغة وسيطة تتموقع بين الفصحى وبين اللغة المحكيّة، كما أن الأداة النّقدية الثّقافية كانت تعتمد الانتقاء والانتخاب الذي لم يخلُ من تضخيم وتهويل لوظيفة الشّعر وذلك من جهة أن السّياسة، وهي الفاعل الحقيقي الأخطر، جعلت من الشّعر إحدى أدواتها لتمرير الأنساق المعيبة المعطّلة للوعي النّاقد، وهو ما مثّل أحد أشكال تعامل الأنظمة غير الدّيمقراطيّة مع مواطنيها (أو رعاياها)، وبالتّالي فإنّ العمى الثقافيّ أصاب أداة النقد الثّقافي وهي تقارب الشّعر، مضمّنة رغبة جامحة في إلغائه، مثلما رامت في مرحلة أولى إلغاء النّقد الأدبي.46
__________________
45 أدونيس، جريدة الحياة، حزيران 2008.
46 عبد الرّزاق المصباحيّ، النّقد الثّقافيّ من النّسق الثّقافيّ إلى الرّؤيا الثّقافيّة (بيروت: دار الرّحاب الحديثة للنّشر، 2014)،
وبالنّسبة للنّقد الثّقافيّ عامّةً، فنحن نرى منطقًا سليمًا في رأي الأستاذ عبد المنعم الفيّا، بقوله: ما نقصده ونستهدفه بالنّقد هنا هو، “النّقد الثّقافيّ” cultural criticism كمصطلح ما بعد حداثيّ في النقد الأدبيّ والذي برز في الغرب لأوّل مرّة في تسعينيات القرن الماضي ويدعو صراحة إلى إحلال النّقد الثّقافي محلّ النّقد الأدبيّ وهو بذلك يُعدّ أحد ارتدادات ما بعد الحداثة النقديّة. وفي تقديري، أنّ بروز هذا المصطلح في النقد الأدبيّ بمثابة ردّ فعل غير متوازن على إهدار السّياق الثقافيّ والسّيسيولوجيّ للنّشاط الأدبيّ طوال حقب السّبعينيات والثّمانينات، حيث كانت المناهج التي تعلّي تمركز الدّال وتهمّش المدلول كالبّنيويّة وما بعد البّنيويّة كالتّفكيكيّة مسيطرة على المشهد النّقديّ. وعندما نقول أنّه ردّ فعل غير متوازن فإنّنا نقصد بذلك أنّه في سعيه لردّ الاعتبار لدور السّياقات الثّقافية في العمليّة الإبداعيّة، انتهك الخصوصيّة والاستقلاليّة النّسبيّة للنّشاط الأدبيّ والفنّي. فصار النّقد الأدبيّ بذلك مرتهنا للخطاب الثّقافيّ الذي هو بطبيعته خطاب أيديولوجيّ. وبذلك يفقد الأدب استقلاليته النّسبيّة التي تميّزه عن سائر الخطابات والأنساق الثّقافيّة الأخرى.47
ونودّ أن نورد في النّهاية، بعض آراء أدونيس التي تؤكّد تمردّه على النّسق الرّجعيّ القائم في الثّقافة العربيّة، وكما أشرتُ سابقًا، فإنّ آراء أدونيس الفكريّة، ونظرياته الشّعرية والأدبيّة عامّةً وشِعره، يشكّلون جريانًا واحدًا منسجمًا ومتفاعلاً ومتداخلاً، وهو الخطاب الأدونيسي الحداثيّ جوهريًا وشكلانيًا في آن واحد.
-أريد أن أؤكد أن الثقافة العربية التي سادت، على مستوى النّظام وبناه ومؤسساته، والتي لا تزال سائدة بتفريعاتها وتنويعاتها، إنما هي ثقافة لا بد من أن نرفضها وأن نتجاوزها، من أجل تأسيس ثقافة جديدة تكون في مستوى ما نطمح إليه. وفي المستوى الذي يؤهّلنا للمشاركة في إبداع المستقبل البشريّ.48
– الحداثة، هي الاختلاف في الائتلاف: الاختلاف من أجل القدرة على التكيّف، وفقاً للتغيرات الحضاريّة، ووفقاً للتقدّم والائتلاف من أجل التأصّل والمقاومة، والخصوصيّة. الاختلاف المفرط عن تراث اللغة التي يكتب بها الشّاعر، هو الموت – أي التبخّر كالدّخان، بالقياس إلى نار هذه وجمرها. الائتلاف المفرط هو الموت أيضًا – أي التخثّر كالحجر. كأّنّ الحداثة أن تخلق النّظام فيما تمارس الفوضى. أو كأنّها أن تجرح فيما تلأم. على هذا المستوى، تبدو الحداثة صراعاً دائماً. وهي تأخذ في المجتمع طابعاً حادّاً أو هادئاً، جذرياً أو إصلاحياً، بحسب ظروف هذا المجتمع، وبحسب أوضاعه. ومن هنا تبدو الحداثة كأنّها حركة إلى الأمام لا تنتهي في قديم يحاول أن يكون حركة إلى الوراء لا تنتهي.49
_______________________
47 العدد (57) من مجلة كتابات سودانية، 2009
48 حوار مع نسيم خوري، المستقبل” العدد 38، 12 تشرين الثاني 1997.
49 أدونيس، الثّابت والمتحوّل، بحث في الابداع والاتّباع عند العرب، دار السّاقي، لندن (الطبعة السّادسة)، 1994.
أنواع الحداثة (كما قسّمها أدونيس): -الحداثة العلميّة: وتعني إعادة النّظر المستمر في معرفة الطبيعة للسّيطرة عليها، وتعميق هذه الحالة وتحسينها باطّراد.
2- حداثة التّغييرات الثّورية: وهي نشوء حركات ونظريات وأفكار جديدة، ومؤسّسات وأنظمة جديدة تؤدّي إلى زوال البنى التّقليديّة القديمة في المجتمع وقيام بنى جديدة.
3- الحداثة الفنّية: وتعني تساؤلا جذريًا يستكشف اللّغة الشّعرية ويستقصيها، وافتتاح آفاق تجريبيّة جديدة تؤدّي إلى زوال البنى التقليديّة في المجتمع وقيام بنى جديدة.50
نحتفظ بشجاعة الرّفض لنكتبَ تاريخًا آخر51
________________________________
50 أدونيس، فاتحة لنهايات القرن (بيروت: دار النّهار، 1989)، ص 249.
51 أدونيس، مفرد بصيغة الجمع، الأعمال الشّعريّة المجلّد الثالث (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1996)،ص 300.
الخلاصة:
قد يكون للنّقد الثّقافي أهميّة على الصّعيد الثّقافي العامّ، ولكن لا يجوز من ناحية أخرى تقييم الشّعر على وجه الخصوص بأدوات لا شعرية، تنفي وتسقط عنه فنيّته واستقلاليته النّسبية التي تميّزه عن سائر الخطابات والأنساق الثّقافية الأخرى، وتخضعه لمعايير عقلانية مطلقة. ونرى أنّ الدّكتور عبد الله الغذّامي، قد وقع في هذه الإشكالية، حين حاول اخضاع الشّعر العربي قديمًا وحديثًا لمعايير النّقد الثّقافي المستوردة من الغرب بشكلٍ كامل، ولكن الخطورة الأكبر في هذا الكتاب بحسب الاستنتاج من هذا البحث، أنّ مؤلّفه، حاول تحميل الشّعر العربي المسؤولية الكاملة، بما يتعلّق بالنّسق الثّقافي الرّجعيّ والفحوليّ العربيّ، الذي أسّس للرّجعية والطّغاة. متغاضيًا عن خطابات أخرى متأصّلة في الوعي العربيّ قديمًا وحديثًا، ذات التّأثير الأقوى على النّفسية الفرديّة والجمعية العربيّة، ومنها الخطاب السّياسي، والأيديولوجيّ، بكلّ وطأته وتأثيره المباشر، وكثافته في الإعلام، هذا من ناحية. والتّراث الديني، بما يتعلّق بالتّفسير والفقه والسِّيَر والقصص، التي تشغل الإنسان العربي بشكل عام، وتأثّر فيه أكثر من أيّ خطاب آخر، وهذا الخطاب متناسل منذ قرون، ويبدو لنا أنّ هذا هو النّسق الأكثر تأثيرًا على المستوى الفرديّ والجماعيّ في المجتمعات العربيّة، هذا بالإضافة إلى أنساق عديدةٍ فرعية أخرى.
وقد أعطى الغذّامي للشّعر قوّةً أكثر تأثيرًا من تأثيره الحقيقي، ولا سيّما في زمننا المعاصر، الذي لم يعد فيه الشّعر هو ديوان العرب الوحيد، وقد لا يكون الخطاب الأكثر تأثيرًا، كما لم يكن في حقيقة الأمر منذ بدايات عصر التّدوين في التّاريخ العربيّ، ونشوء أجناس أدبيّة أخرى، كان ولا يزال لها المكانة إلى جانب الشّعر، وذلك رغم مكانة ووقع الشّعر المؤثّر في الثّقافة العربيّة، والتي لا يمكن أنكارها.
والاشكالية الأخرى المتعلّقة بنهج الغذّامي في كتابه “النّقد الثّقافي” برأيي، هي محاولته الإقحامية للإثبات نظريته، ممّا أدّى به للخروج عن الموضوعيّة بشكل كبير، وألخّص ابتعاد الغذّامي عن الموضوعيّة المطلوبة في أيّ بحث علمي ونقدي بالنّقاط التّالية:
- اختار الغذّاميّ متعمّدًا أن يضع الشّعر العربيّ برمّته قديمًا وحديثًا بمساحةٍ نسقيةٍ واحدةٍ، دون الخوض بالاختلافات والتّنويعات.
- اختار الغذّاميّ، عَلَمين هاميّن، من الشّعراء الّذين تغلّب شعر المديح على المواضيع الأخرى في مجمل نتاجهم، ولم يذكر حالات وشعراء، بعيدين بل متمرّدين على النّسق كما صورّه، ومنهم الشّعراء الصّعاليك، والصّوفيين، والشّعراء العذريّين، والشّعراء الذين انتموا إلى حركات مناهضة لمركزيّة الدولة والحُكم، ولم يذكر الشّعراء الذين تمرّدوا على الأنساق الاجتماعيّة والعقائديّة، كأبي نواس، وبشّار بن برد، وأبي العلاء المعريّ، وعمر بن أبي ربيعة، وغيرهم. وكأنّ هذه الحالات وهؤلاء الشّعراء، كانوا ولا يزالون خارج دائرة الوعي والتأثير، من ناحية، وكأنّ شعراء المديح والهجاء، هم الوحيدون الذين يحتكرون عمليّة التأثير على الوعي قديمًا وحديثًا.
- ابتعاده عن الموضوعيّة في عرضه (لنسقية المتنبّي وأبي تمّام)، عبر اختياره الأبيات الشّعرية والقصائد التي تتوافق مع نظريته، متغاضيًا بشكل كامل، عن الجوانب المضيئة، ليس على المستوى الفنّيّ الرفيع فحسب لديهما، بل على المستوى الثقافيّ، ومنها شعر الحكمة، على سبيل المثال. وفي هذا ظلم لنظريته وللشّعراء الذين أخذهم كنماذج للنّسقية كما صوّرها في آن واحد.
- الاتهامات المطلقة، التي أطلقها على المتنبّي ونزار قباني بشكل خاص، بما يتعلّق بالفحولة وتحقير المرأة وازدرائها، وهذه أحكام غير صحيحة، كما برهنت سلفًا، من خلال أشعراهما.
- اختيار التّعميم، بدل التّحديد، والاجتزاء الانتقائيّ المضلّل من القصائد بما يتوافق مع نظريته بدل الإشارة الموضوعيّة لما هو نسقيّ رجعيّ أو فحوليّ، وما هو خارج النسق.
- التّفسير والـتّأويل الخاطئ لأبيات الشّعر، وقد كرّر الغذّامي ذلك مرّات عدّة، وخاصّة في أبيات شعر وقصائد المتنبّي.
- لم يذكر الأستاذ الغذّامي، بكلمة واحدة الجانب السّياسي في شعر نزار قباني، والذي يُعتبر بغالبيته العظمى، خروجًا عن النّسق السّياسي والاجتماعيّ، وحتّى الموروث العقائديّ الشّعبيّ، ولم يذكر ولو على سبيل الموضوعيّة والإنصاف، ولو بكلمة حين اتهمه بالاستفحال والفحولة وتحقير المرأة وازدرائها، قصائده الوجدانيّة الصّادقة في الحُبّ والغزل، والقصائد المناصرة للمرأة ومكانتها.
- اتهاماته البعيدة عن الحقيقة الواضحة والعميقة، بما يتعلق بأدونيس، الذي يحارب منذ بداياته الأدبيّة والفكريّة، منذ ما يزيد عن سبعين عام، الأنساق الرجعيّة، عربيًّا واسلاميًّا، وعلى الصّعيد الإنساني العام، في مساحة الحاضر والتّراث والتّاريخ، وبكلّ المناحي والمستويات.
10.محاولته لإلصاق سمات “للخطاب الأدونيسي” كما أطلق عليه، لا تتّصل بحقيقة خطاب أدونيس الفكريّ، ولا تقترب من حقيقة شاعريته وشعره، أسلوبًا ورؤيّةً ومعنىً وجوهرًا. بمحاولة غير موفّقة حسب رأيي، بنزع شرعيّة ريادة الحداثة في الشّعر العربيّ المعاصر عن أحد أهّم آبائها الحداثيّين.
- اطلاق الادّعاءات والاتّهامات، دون محاولة جادّة كما يتطلّب البحث العلميّ والنّقديّ لإثباتها.
وخلاصة النّتيجة، كما أراها، أنّ كتاب النّقد الثّقافيّ للدكتور عبد الله الغذّامي، محاولة غير موفقّة، على المستوى البحثيّ والنّقديّ، والأكثر عجبًا وغرابةً، أن مؤلّف الكتاب، الذي لم يتحلّ بالموضوعيّة والطرح العلميّ، يقع هو نفسُه في هاوية النّسق الذي يدّعي محاربته، عبر كتاب ضخم، لا يخلو من أسلوب التّكرار والاعادة والترهّل الخطابيّ، ويحمل هذا الكتاب في طيّاته خطورة التّضليل، ومحاولة نسف، أحد أهمّ سمات الثّقافة العربيّة منذ نشأتها، ألا وهو الشّعر الذي كان في المرحلة المبكّرة من التّاريخ الثّقافي العربيّ ديوان العرب الأهمّ، وبقي بتوهجّه الجميل، ولا يزال وسيبقى من أهم السّمات الثّقافية التي أنتجها الانسان العربيّ بالمجمل.
ثبت المصادر المراجع:
- أدونيس. إرم ذات العماد، الأعمال الشّعريّة، المجلّد الأوّل. دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1996.
- أغاني مهيار الدّمشقيّ، الأعمال الشعريّة، المجلّد الأوّل. دمشق: دار المدى للثّقافة والنّشر، 1996.
- أوّل الجسد آخر البحر. لندن: دار السّاقي، 2003.
- زمن الشّعر. بيروت: دار العودة، 1996.
- سياسة الشّعر- دراسات في الشّعريّة العربيّة المعاصرة. بيروت: دار الآداب، 1985.
- فاتحة لنهايات القرن. بيروت: دار النّهار، 1989.
- مفرد بصيغة الجمع، الأعمال الشّعريّة المجلّد الثالث. دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1996.
- مقدمة لتأريخ ملوك الطّوائف، الأعمال الشعرية، المجلد الثاني. هذا هو اسمي (بيروت: دار المدى، 1996.
- الضّوء المشرقيّ- كما يراه مفكّرون وشعراء عالميّون. سورية- جبلة: بدايات للطباعة والنشر والتوزيع، 2004.
- الكتاب- أمس المكان الآن. لندن: دار السّاقي، 1995.
- البرقوقيّ، عبد الرحمن. شرح ديوان المتنبّي. القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012 .
- درويش، أسميّة. تحرير المعنى- دراسة نقدية في ديوان أدونيس. بيروت: دار الآداب، 1997.
- شاكر، محمود محمّد. المتنبّي- رسالة في الطّريق إلى ثقافتنا. جدّة، دار المدنيّ، 1987.
- ضاهر، عادل. الشّعر والوجود- دراسة فلسفية في شعر أدونيس. دمشق، دار المدى للثّقافة والنّشر، 2000.
- العبّاس، محمّد. “الغذّاميّ مجربًا لمقولة النّقد الثّقافيّ”. جريدة الرياض، الخميس 29 رجب 1420، العدد 11812.
- الغذّاميّ، عبد الله. الخطيئة والتكفير: من البّنيويّة إلى التّشريحيّة. المركز الثّقافيّ العربيّ، 2006.
- النّقد الثّقافيّ- قراءة في الأنساق الثّقافيّة العربيّة. المغرب: لبنان، المركز الثّقافيّ العربيّ، 2005.
- قباني، نزار. الأعمال الكاملة، المجلّد الرابع. بيروت: منشورات نزار قباني، 1993.
- زكي كمال أحمد، النقد الأدبّي الحديث أصوله واتجاهاته، دار النّهضة العربيّة، بيروت
- المصباحيّ، عبد الرّزاق. النّقد الثّقافيّ من النّسق الثّقافيّ إلى الرّؤيا الثّقافيّة. بيروت: دار الرّحاب الحديثة للنّشر، 2014.
- العدد (57) من مجلة كتابات سودانية، 2009
- حوار مع نسيم خوري، المستقبل” العدد 38، 12 تشرين الثاني 1997.
- العدد (57) من مجلة كتابات سودانية، 2009
- النجّار رجب محمّد، مجلة العربي يونيو 2002
MAGIS، CARLOS H. LA POESÍA HERMÉTICA DE OCTAVIO PAZ، * EL COLEGIO DE MÉXI. ، 1978
ADONIS DANS LES PYR N ES, CONTRA MUNDUM PR, 2018*
- * CONVERSATIONS WITH MY FATHER, ADONIS, NINAR ESBER, SEAGULL
[1] عبد الله الغذّاميّ، النّقد الثّقافيّ- قراءة في الأنساق الثّقافيّة العربيّة (المغرب: لبنان، المركز الثّقافيّ العربيّ، 2005).
[2] ن. م.، ص 7.
[3] ن. م.، ص 82.
[4] ن. م.، ص 83.
[5] ن. م.، ص 194- 195.
[6] ن. م.، ص 93- 94.
[7] الغذّاميّ، النّقد الثّقافيّ، ص 93- 94.
[8] ن. م.، ص 119.
[9] ن. م.، ص 140.
[10]ن. م.، ص 169.
[11] الغذّاميّ، النّقد الثّقافيّ ، ص 194، 195.
- د. أحمد كمال زكي: النقد الأدبّي الحديث أصوله واتجاهاته، دار النّهضة العربيّة، بيروت، ص 76.
- الغذّاميّ، النّقد الثّقافيّ، ص 246.
- 16. عبد الرّحمن البرقوقيّ، شرح ديوان المتنبّي (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012)، ص 1264