كان لقائي الأوّل في مشروعي التواصلي مع أسرى يكتبون يوم 3 حزيران 2019 مع أحمد سعدات؛
وبعد اللقاء دوّنت على صفحتي تغريدة عنونتها:
منتصب القامة يمشي
كتبتُ: غادرت حيفا السابعة والنصف صباحًا لزيارة أسير في سجن ريمون الصحراويّ. انتظرت في غرفة المحامين فأطلّ منتصب القامة، التقيته للمرّة الأولى، لا شعوريًّا وقفت لمصافحته وعناقه لكنّي شعرت فجأة ببرودة الحاجز الزجاجيّ الفاصل، رغم الحرّ الصحراويّ، وكان حديثنا عبر سمّاعة الهاتف الحديديّة الصمّاء الجافّة.
تبادلنا أطراف الحديث فجاء مثقّفًا لأبعد الحدود، تحليلاته مدروسة ومنطقيّة، ملمّ بكلّ شاردة وواردة، بعيدة عن الشعاراتيّة ومتجذّرة بأرض واقعنا المرير.
تحدّثنا عن الكتابة خلف القضبان، الأسير يكتب بمشاعره وأحاسيسه ويتوق لسماع صدى كلماته على أرض الواقع، عن أهميّة التعدديّة وضرورة النقد البنّاء والموجّه، عن الانقسام المقيت في الشارع الفلسطيني وأمور أخرى.
كلّمني بثقة، بشموخ وبمعنويّات عالية أثلجت صدري وأزالت عنّي عناء ومشقّة السفر… وجلافة السجّان.
حين غادرت جدران السجن وركبت السيارّة رافقتني كلمات سميح القاسم وصوت مارسيل خليفة:
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفّي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي
اللقاء بسعدات حفّزني على الاستمرار بمشروع أطلقت عليه “متنفّس عبر القضبان” والتقيت من خلاله بحوالي ثلاثين أسير يكتب.
“يُعنى أدب السجون بالمواطن المقموع، وأبرزهم السجين السياسيّ المثقّف الذي ينشد التغيير”؛ هذا هو التعريف الكلاسيكي ل”أدب السجون”، ويبقى السؤال مفتوحًا حول تعريفه، وأنا أميل إلى التعريف الحداثيّ الذي يقول إن كلّ ما يُكتب خلف القضبان ينتمي إلى هذا الجانب من الأدب.
يتناول كتاب “صدى القيد” تجربة أحمد سعدات الشخصية في العزل داخل سجون الاحتلال، لما يقارب ثلاث سنوات بين 2009-2013، وتجارب أسرى التقاهم خلال سجنه، حيث عاش في السجن، ولكن السجن لم يعش فيه. (الكتاب صدر عن دار الفارابي اللبنانيّة ويقع في 189 صفحة، صورة الغلاف الخلفيّ والرسوم الداخليّة بريشة الفنّان مهنّد العزّة)، اختطفته مخابرات السلطة الفلسطينيّة واحتجزته في سجن أريحا لتقدّمه لقمة سائغة لسلطات الاحتلال في يوم 14 آذار2006 ، وحكمت عليه المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بالسجن 30 عامًا في يوم 25.12.2008 وما زال يقبع في السجون.
أهدى سعدات الكتاب إلى “كلّ من عانى ويعاني أو واجه ويواجه القهر والظلم والاستبداد والتعذيب والعزل والتمييز، ومن بينهم رفيقات ورفاق الدرب الشهداء والأحياء…”، وفيه يتناول سياسة العزل التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيليّ ضد سجناء الحريّة.
يحاول الكاتب تعريف العزل الانفراديّ، على أنواعه، ويصف حياة الأسير المعزول انفراديًا ومعاناته في زنزانته، محاولات تدمير نفسيّته لكونه من أشدّ أساليب التعذيب قسوة.
يتناول الكتاب الإطار التاريخيّ العامّ لسياسة العزل (تطوّر سياسة العزل الانفراديّ منذ بداية الاحتلال واتّساع المقاومة وتطوير أساليب التعذيب كإجراء وقائيّ وانتقاميّ تجاه قيادات الحركة الأسيرة لضربها)؛ سياسة العزل قبل التشريع والتوسيع (استعرض التعذيب والعزل والقتل في أقبية التحقيق، وضع الأسير في حيّز مكانيّ يتميّز بالضيق، لإبقاء الأسير في حصار جسديّ وحسّي وذهنيّ)؛ الغلاف القانونيّ لتشريع سياسة العزل (يحاول تناول موقف القانون الدوليّ، خرقه وانتهاكه تجاه الأسير المعزول في محاولة بائسة لقهره والانتقام منه ومعاقبة الأهل)؛ وفي الفصل الرابع يتناول نماذج من أقسام العزل (الانفراديّ والجماعيّ، فصل أسرى القدس و48 عن أسرى الضفّة والقطاع، فصل قيادات الحركة الأسيرة وغيرها)؛ ثم يتناول مقوّمات صمود الأسرى المعزولين (نتاج صلابة انتمائهم العقائديّ والوطنيّ وقناعتهم بعدالة قضّيتهم وشرعيّة نضالهم ضد الاحتلال، ويرى أن تجربة العزل كانت عاملًا في توحيد الأسرى وذويهم)؛ وفي الفصل السادس يتناول “متفرّقات من حياة العزل” ويصوّر حالات أسرى عانوا الأمريّن من العزل)؛ وفي نهاية الكتاب تطرّق إلى “دروس مستخلصة من تجربة العزل” على حدّ تعبيره، فنادى لإعادة الاعتبار لتماسك الحركة الأسيرة ودورها الكفاحي وصلابة منظّماتها، وتجنيد أحرار العالم ومنابره الدوليّة لنصرة قضيّتنا، وتوحيد الصفوف بعيدًا عن الانقسامات، ومقاطعة محاكم الاحتلال الصوريّة، وتصليب انتماء الأسير إلى قضيته وتعزيز انتمائه إلى الجماعة وقيمها وأهميّتها، فقد مضت سنوات كانت فيها الحركة الأسيرة أقل حقوقًا ومكتسبات، لكنها كانت أكثر جبروتاً وعزة وعنفوانًا”..
وأضاف أن الهدف من خلال سياسة العزل الانفراديّ “ليس عزل الأسير عن قيم الجماعة وتفكيك انتمائه، مصدر قوّته، فحسب، بل أيضًا أن يعيش السجن داخل الأسير، بحيث تتحوّل قضبان السجن إلى حراب تتناهش صدره، وتحوّله إلى كتل فاقدة للحياة”، ولذا عليه أن يشكّل عنوان عزّة وكرامة ونموذج عصيّ على الكسر أو الإحتواء وموعظته للأسير “أنّ صمودك من شأنه أن يُضعف عدوّك وأن يُفكّك شخصيّته وقيمه العنصريّة، فلا تسمح للحقد بالانتصار على قيم الإنسانيّة الخلّاقة”، تيمُّنًا بما قاله يوليوس فوتشيك في كتابه “تحت أعواد المشنقة”: “أية رجولة تلك التي تنهار أمام حزمة من العصي“.
لا يصبو الكتاب إلى وصف الوضع القانوني للعزل الانفراديّ، ولا يشكّل سيرة ذاتيّه لكاتبه، ويلخص كاتبه القول: “أن سياسة العزل هي كسر العلاقات الاجتماعيّة للفرد وإغراق الأسير في تفاصيل الحياة اليوميّة وجزئيّاتها صرف الانتباه عن القضايا الكبرى، لكن وبقدر حرص المناضلين على تجاوز هذه التفاصيل يفرضها علينا جمود التعليمات وغباوة الشرطة، فالمطلوب من سياسة العزل الانفراديّ الاستنزاف اليوميّ إن لم نقل الساعي للأسير المعزول إلى إبقائه في حالة قلق دائم للتأثير فيه نفسيًا وعصبيًا وإضعافه سعيًا إلى تدميره نهائيًا”.(ص. 142)
يشكّل الكتاب عرضًا لسياسة العزل الانفرادي وتجلّياتها وأبعادها، لا يشكّل تأريخًا أو توثيقًا لهذه الممارسة العنصرية، ولكن يسلّط الضوء على أبشع الممارسات التي يتعرض لها الأسير وأخطرها، فسلخ الأسير عن زملائه الأسرى، بعد اختطافه من بين أفراد أسرته ومجتمعه، يشكّل محاولة بائسة لسحق روحه في محاولة لتحويله إلى كائن مهزوم يرقص على ناية السجان ويستجديه من أجل أمور حياتيّة بسيطة أساسيّة.
يقول سعدات أنه كتب ليسلّط “أضواء كاشفة على مستوى التقصير الشامل من كل الجهات والمستويات الرسمية والشعبية والقانونية المحلية والدولية في توفير الحماية والغطاء للأسرى”. ويوجّه “دعوة لكلّ القوى الحيّة في شعبنا للتقليل من الشعارات التي تعظّم دور الأسرى وبطولاتهم والشروع في العمل الجدي من أجل تحريرهم وانتهاج سياسة شاملة في مواجهة كل أبعاد القضيّة الوطنيّة وتوثيق برامجها وتماسكها كمنظومة تكثّف حقوقنا الوطنيّة لأن أية محاولة للفصل بين هذه الأبعاد لا تمثّل سوى مساومة رخيصة سترتد على الشعب الفلسطيني وتلحق بنضاله المزيد من الأضرار والأخطار”.(ص. 152)
حين أنهيت قراءة الكتاب جاءني ما كتبه بسّام كعبي في نص سردي مفتوح بعد إضراب عن الطعام للأسرى في أيلول 2011، احتجاجًا على العزل الانفراديّ، بعنوان “جدران عازلة وقامات عالية” على لسان أخيه الأسير عاصم: “تأكّدنا بأنّنا كنّا على حقّ عندما انتصرنا على السجّان، وانتزعنا نخبة متميّزة من المناضلين، وقد عادوا إلينا من العزل الانفراديّ القاتل؛ الأسير القائد أحمد سعدات المحكوم بالسجن الفعلي ثلاثين عامًا، وقد عاش معزولًا منذ ثلاث سنوات ولم يلتق أحدًا، أصبح حاليًا بيننا ونجمنا وأشاركه الزنزانة، وألمس عن قرب عمق مناضل صلب وأحسُّ بثوريّة رفيق في التعامل بمستوى عال ووعي عميق، مع تفاصيل الحياة اليوميّة للرفاق والأسرى في المعتقل”.
أرفق الكتاب بملحق سُمّي “من كشكول العزل” يصوّر صور مضيئة من واقع العزل لأسرى مرّوا بتجربة العزل ومعاناة عائلاتهم، وها هي ابنته صمود تحقّق رغبة والدها بأن تكمل مسيرة الحياة رغم أنف السجّان فتقرّر أن ترتبط بالأسير عاصم، المحكوم بالسجن 18 عامًا، ورغم العزل والأسلاك والقضبان تقول صمود يوم طُلبتها: “دائما هناك رسالة يحملها أبناء شعبنا، بأن من حقّنا أن نعيش ونحب ونفرح، رغم كل ما نعيشه ونمرّ به، فالبعد القسريّ لا يقف أمام الحياة الانسانيّة، وعلينا أن ننتزع حقّنا بالحب ونتحدى الظروف، وهذا ما حصل معي”.
وأُنهي بما جاء في رسالة الأسير عاصم، الذي ذاق السجن الانفراديّ لفترات طويلة، لخطيبته: “وأنتِ يا حبيبتي الواحدة والوحيدة، يا ظلي الساكن في ربوعِ الحريةِ يا صمودَ الأمل، أيامٌ مرتْ وما بيننا سوى الشوق الملهم بلقاءٍ ما زالَ يمتدُ ليغطي مسافات الانتظار الطويلة، والتي تختصرُ عقوداً وحكايات، أمماً وحضارات، تاريخاً وإرثاً لا تخطه الكلمات، بل مشاعر صادقة ولدتْ من رحمِ المعاناة، أرسلُ لكِ كلماتي هذهِ التي تحملُ في كلِ حرفٍ فيها، أملاٍ ووعداً وشمساً وحلمْاً، علها تصلكِ وتتكحلُ بها عيناكِ اللامعتان، كوميضِ صبحٍ في خيالِ الظلامْ”.
سيتحرّر عاصم يوم 22.04.2021 ليثبت مجدداً انتصار الأسير مهما طال الاعتقال، وعجز السجان في احتجاز الأحرار، وليتابع عاصم يوميات حياته العادية، والاقتران بخطيبته صمود سعدات؛ على أمل أن تكتمل الأفراح بتحرر جميع رفاقه الأحرار؛ ليشارك والد خطيبته أحمد سعدات في طقوس فرح كريمته.
تحية خالصة وخاصة لجميع أسرى وأسيرات الحرية آملاً في إفراج قريب!
***مداخلة في ندوة “أسرى يكتبون” ضمن نشاطات رابطة الكتّاب الأردنيّين يوم السبت 20.03.2021 (جزيل الشكر للقيّمين على المشروع الذي صار متنفّسًا لأسرانا الأحرار، ينتظرون حلقاته كلّ أسبوعين وبات عرسًا ثقافيًا داخل السجون رُغم أنف السجّان، وهذا الأمر ليس بالمفهوم ضمنًا).