ينال مني التعب آخر النهار، يتوغل صقيع المساء داخل جسدي، تتعطل حواسي فأتوقف عن مزاولة مهامي، يتراقص أمامي آخر ما تبقى من نور الشمس، يتأبط المغرب، بِغلّ واضح آخر أشعة شمس منهكة، فيتلقفها الأفق بسعة صدر غير معترض.. آه لو يسعني تأخير الغروب!
يصيح عقلي بجدول مواعيد لا ينتهي، موعد تلو الآخر، كثيرة هي المواعيد، وكذلك الرسائل التي وضعها ساعي البريد على مكتبي، ليس بالإمكان تجاهلها.
جلستُ في الأريكة لأستريح قليلا، أزهار جميلة في إناء زجاجي على المنضدة، تسبح داخله أسماك نادرة الألوان، تأملتُ حركتها غير المُملة، أكلت الأسماك الأزهار، مسكينة، بدايتها أسبوع جميل ونهايتها مشوار يدعو إلى الهلاك، يتحكم فيها الماء، والضوء، والهواء، والأسماك، وهل يتفق العنصران معًا؟! سألتُ نفسي المحتارة!
أحضرتُ إناء جديدًا ووضعتُ داخله الأزهار، بدّلتُ المشهد فاختلفت الرؤية، وتكاثرت الآنية الزجاجية حولي، رسمتُ اللحظات الجميلة في مخيلتي، فتحققت النبوءة، أن يكون حولي كل شيء من زجاج، الجدران، الثريات في البهو، النوافذ، الأثاث، التحف، ساعة الحائط، والأواني.
لفّتني سحابة حزن، شحب وجهي ثم احمر خجلا، أنّبتُ نفسي لأني انشغلت عن الأزهار الجميلة وتركتها تتآكل بإهمال، تشبه الأمواج أفكاري، تكون صاخبة أحيانًا، وهادئة هدوء الميتين أحيانًا أخرى.
يغلق الليل باب كونه، ويقفل متاريس العمر، يوم آخر يمضي، كل شيء صامت ومعتم حولي، عمر النهار يشبه سنوات عمري، لقد كان العمر شابًا، أما الآن فقد بدأتُ أعاني من رخاوة الرؤية.
رحلتُ إلى الماضي وبدأت أقلب صفحاته، تأملتُ الأفق البعيد، ومن خلف الزجاج انتظرتُ مجيء الغد، ثم رحتُ في سبات عميق، من يستطيع مقاومة سلطان النوم؟
تحدثني نفسي قائلة: شفتاك غفوة اللهفة، وابتسامتك سكرة النشوة، فمن يأتي ليقبلهما فتصحوا من كبوة؟ قلت: أيها العمر الملعون، امنحني كأس البهجة، أحتسيه من خمركَ، فأُبهجُ نفسي بنفسي.
قلبي ساكن يخفق بهدوء، ثم تتأججت فجأة داخله النيران متوعدة، أشعر بالبرد، يأكل الصقيع أطرافي، أهذي، أصبح جفناي ناعمين، انتفض رحيق الأزهار وتحولت الأوراق الخضر إلى صفر، صان البحر أشعة غائمة، احتفظ بها فصارت بطعم الثلج والنار، انتشر ضباب الأيام، وتحطّم الزجاج أمام الأحلام، نال الدمع مني، دمعة حزن تلو الدمعة، رشفتُ الألم، رشفة تلو الرشفة، أما الدمعة الأخيرة، فانتهت من حيث بدأت الأولى، امتلأ كأس العمر لوعة، تلاشت الخطوات، وأصبحتُ امرأة من زجاج، لو يتدخل قمر الليل، لو يمد يده فينقذني، لو يمررها على جبيني فيوقف دمع عيني، لو تختفي دوامة الزوال ويحتفظ الشباب بنضارته، تتعاقب السنون، ينهشني الوقت، يمزقني خريف العمر، تجف عروقي، لو تلوي الأزمنة شفتيها عني، لو يبقى كأسي شفافًا ويُرتشف بكبرياء، لو تتلألأ الأنجم داخل راحة يدي!
الأزمنة أياد فارغة، خبت عيناي، وتوارى النور، وتحولت أفكاري إلى جليد.
أحلم بقمر ساهر، يمرر أنامله الناعمة على ما بقي من العمر، لو يعطّل الليالي في خطواتها، ويبطئها، لو يوقف الساعات ويحجم إطلالة الفجر!
استيقظتُ من حلمي، تفقدتُ ساعتي، وأزهاري، وحوض أسماكي، وعناوين رسائلي.
استطاع الحلم أن يدخلني في دوامة الأرق، قلق وخوف، لكن الحقيقة واضحة وجلية، كل يوم يمر أزداد فيه نشاطا وعطاءً.
حملتُ حقيبتي وتأهبتُ للخروج قبل موعد رنين السّاعة، تأكدت أنني ما زلتُ في موضع القلب أُرجئ، العمل ينتظرني، يعيد إلي الحياة بلثمة حب، العطاء مُثل سامية، يمنحني ما أشتهي، يُصهر، ويُرمم، ويُقلّب الأمواج الهائجة داخلي، ويضعها في أحضان السكون، يستفزني، ويقودني إلى غد آخر.
وتمتلىء أجندتي بالمواعيد..