بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ ودوّنت على صفحتي في الفيسبوك انطباعاتي الأوليّة؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عقّب الصديق المقدسيّ إبراهيم جوهر: “دمت أصيلا يواصل السّير في طريق هجره الهاجرون”، أمّا الصديق المقدسيّ نمر قدّومي فعقّب: “كم هي كلماتك رائعة يا أستاذ حسن… هي حروف الحرية لأولئك الأشاوس خلف القضبان… ترفع المعنوية وتجدد العهد معهم لبداية جديدة”.
“كُلّها شمّة هوا”
غادرت حيفا صباح الثلاثاء، 23 شباط 2021، السادسة صباحًا لزيارة أسرى في سجون الجنوب؛ رافقني الصديق مصطفى نفاع، وكان اللقاء الأوّل في سجن نفحة الصحراويّ. انتظرت في غرفة المحامين طويلًا بسبب الإجراءات الكورونيّة فأطلّ عليّ أحمد علي أبو خضر[1] شامخًا، التقيته للمرّة الأولى، طلبت منه إزالة الكمّامة ففاجأني بضحكة مجلجلة أغاظت السجّان وبدأنا حديثنا بصراخ عبر الزجاج حتّى شغّل السجّان المرافق تلك السمّاعة المقيتة.
بادرت بسؤاله حول ذقنه فأجابني، والدمعة ترقرق طرف عينه، أنّه لم يحلق بالشفرة منذ استشهاد رفيقه ياسر البدوي عام 2001!
تحدّثنا عن انقطاع زيارة الأهل؛ فالوالدة نعمت أدمنت زيارة السجون منذ أربعين عامًا، كان أخوتها، زوجها، سبعة أبنائها (منهم خمسة في آن واحد) سجناء، ضحكت في وجه الاحتلال وجبروته “رغمًا عنه يعطينا التصاريح لزيارة الأحبّة في السجون المختلفة فنحظى بزيارة البلاد، من شمالها إلى جنوبها”، تؤمن أن السجن عمره ما بسكّر على حدا، حُرِمت من الرحلة التي اعتادتها، لأنها ترى الأمر بسخريتها السوداويّة بالفطرة: “كُلّها شمّة هوا”. حقًا، إنّها قدّيسة!
تناولنا “خربشاته” ومنها قصّة “حبّ لم يكتمل”، تجربته في مسلخ الرملة واستشهاد بسام السايح وسامي أبو دياك أمام عينيه إثر الإهمال الطبّي الذي لا يوصف، يرى أنّ إهمال مؤسّساتنا تجاه تلك الشريحة وصمتها جريمة لا تُغتفَر. حدّثته عن كتاب “لماذا لا أرى الأبيض” لراتب حريبات، وأنّه آن الأوان لتوثيق تلك التجربة فقال إن طبنجة (الأسير إياد رضوان) هو الجندي المجهول الذي يستحق أن يُبنى له تمثال في مركز كلّ بلد فلسطيني لِما يقُم به من خدمة أسرى المسلخ.
لك عزيزي أحمد أحلى التحيّات، والحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة.
خلط الأوراق من جديد
التقيت صديقي حسام زهدي شاهين[2] مباشرةً بعد لقائي بأحمد أبو خضر، باهتًا على غير عادته في الأربع لقاءاتنا السابقة، دون تلك البسمة القاتلة التي تعوّدتها؛ وبعد عناق طويل عبر الحاجز اللعين، أمسك كلٌّ منا سمّاعته وسألني عن مشقّة السفر وأخبار عائلتي وتناولنا سبب بهتانه وسرَحانه فحدّثني عن أحاسيسه تجاه صفقة تبادل تلوح في الأفق، وكلّ أسير وبقجته فالحريّة ثمينة.
تحدّثنا عن رحلة “رسائل إلى قمر” واستقبالها من قبل محبّيه وندوة “أسرى يكتبون” في رابطة الكتّاب الأردنيّين والحراك حول أدب السجون.
تحدّثنا عن شعور الأسير حين يقرأ في جريدة بائته داخل زنزانته خبر وفاة عزيز، دون فرصة وداع، يصاب بأرق مرضيّ ووجع ذاكرة، يقرّر أن يبعث رسالة تعزية ليروّح عن نفسه لتقلب حياته رأسًا على عقب، وتخلط الأوراق من جديد. يعيده الخبر، والصورة المرفقة به، لأيّام مضت، فيجد ذاكرته سجينة معه يحاول تجييرها لتصير نافذة حريّته ليحلّق معها، يسرح ويمرح في فضاء الحريّة المنشودة رغم أنف السجّان، قيوده وزنازينه. يحمد الله ويشكره أن سجّانه لم يكتشف بعد وسيلة تنكيل قمعيّة تستطيع وأد الذاكرة و/أو الحلم. تبدأ رحلة سيزيفيّة صعبة في طريقها لجسر الهوّة بين ماضٍ منحوتٍ في الذاكرة ومستقبلٍ مصقولٍ في الحلم، وفي فضاء الحريّة تحلّق صورة الفدائي العتيق وهالته.
صدقت فدوى طوقان حين كتبت: “رحلة جبليّة رحلة صعبة”.
لك عزيزي حسام أحلى التحيّات، إلى حين نلتقي في حيفا على موعدنا.
شباط 2021
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] الأسير أحمد أبو خضر، أعتقل يوم 13 نيسان 2002 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيليّة بحقّه حكمًا يقضي بالسجن 11 مؤبدًا وخمسون عامًا وستّة شهور [2] الأسير حسام شاهين أُعتقل يوم 28 كانون الثاني 2004 حكمت المحكمة العسكريّة الإسرائيلية بحقّه حكماً يقضي بالسجن 27 عامًا.