فتحي فوراني
- في الأجواء الرومانسية..يحلو السمر الثقافي
على قمة جبل الكرمل..وعلى فنجان قهوة..كان لقاؤنا اليومي.
موسيقى كلاسيكية هادئة وناعمة تخيم على أجواء المقهى الثقافي..وتسمو بالنفوس المتعَبة وتأخذها عاليًا وبعيدًا عن الواقع الرمادي.
رُوّاد المقهى قوس قزح..ينتمون إلى جميع ألوان الطيف الثقافي والسياسي..وجوه لكتاب وشعراء معروفين وبعض من رجال الصحافة البارزين الذين يملأون الصفحات اليومية والأسبوعية..ويشكّلون مساحة كبيرة من المشهد الثقافي في عروس الكرمل..وفي أرض الآباء والأجداد.
الحديث ذو شجون..يشقّ طريقه..ويطرق أبواب العشق والأدب والشعر والموسيقى والسياسة..ثم يتوقف عند الواقع الساخن..الذي يزخر بأخبار الساعة..
ثم تكون استراحة المقاتلين..ويكون الحديث عن آخر المستجدّات على الساحة الفولكلورية.
إلى طاولة في زاوية المقهى يجلس توأمان..وعلى مركز الطاولة..تتراقص شمعة خجولة..
في هذه الأجواء الرومانسية يحلو السهر..ويحلو السمر الثقافي.
- للحذاء حرمته وكرامته
حكاية طريفة حدثت معي هذا اليوم.-
قال محمود درويش.
أمرّ كل يوم من جانبه..يجلس على كرسي قصير القامة وإلى جانبه صندوقه الخشبي المرصّع بالنحاس اللامع..ويستجدي أحذية المارّة!
أمرّ من جانبه..ولا أعيره اهتمامًا..يلحّ عليّ لأن يلمّع لي حذائي..فأرفض..لأنني لا أحب أن يتدخل أحد في الشؤون الخاصة لحذائي..أحب أن أتولّى أمر حذائي بنفسي..متى أريد..وكيفما أريد..ولا أحب أن أسلّم حذائي لأحد غيري..فللحذاء سمعته الطيبة وحرمته وكرامته..التي تفوق “كرامة” بعض المخلوقات من العباد!
أقول لنفسي: إياك يا ولد أن تتخلّى عن كرامة الحذاء!
فأرفض بشدة..ويلحّ بشدة!
ويرفض الحذاء بإباء..أن يرضخ لإرادة ماسح الأحذية وإغراءات فرشاته وحركاتها البهلوانية الرشيقة!
ويتكرر المشهد كل يوم..ويخيّل لي أن صاحبي يظنّ أنني مخلوق غريب هبط عليه من عالم “البخلاء” للجاحظ!
ولم أدرِ سر هذا الإلحاح..الذي تجاوز حدّ الإزعاج المباح.
- محاولة اغتصاب في وضح النهار
يتابع محمود
إلى أن كان يوم!-
أمس..عندما مررت به..”تلبّسني”..وشدّني من يدي..وحاول اغتصاب حذائي..وصلبه على صهوة الصندوق!
إنها عملية مراودة عن النفس واغتصاب للحذاء المسكين..في وضح النهار..وعلى رؤوس الأشهاد!
لقد كان ينتظرني..ويتربص بحذائي..وفي نفسه أمر!
قال لي: أريد أن أمسح لك الحذاء وألمّعه..مجّانًا وبلا مقابل!
جبرًا للخواطر..سلّمت أمري لله ولماسح الأحذية..فوضعت قدمي اليمنى فوق المكان الذي يضع عليه العباد أقدامهم على صندوقه المرصّع بالنحاس اللامع.
فشمّر الرجل عن ساعدَيه..ثم راح يجدّ في تنظيف “الفَردة” اليمنى..وأخذ يمسحها ويلمّعها ويتأمّلها ويتغزّل بها..وينظر إليها نظرة “فنان” عاشق معجب بلوحته الفنية.
ثم واصل المسيرة..وراح يجدّ ويلمّعها بحماس منقطع النظير..حتى غدت أجمل مما تصورت.. - إنها فعلا “لوحة فنية” تختال بردائها الأرستقراطي الأسود!
وانتظرت أن يكون نصيب أختها كنصيبها..فيمشي الشاعر في الشارع طاووسًا!
- * لقد وقعت في الشَّرَك
وكانت المفاجأة التي سقطت عليّ كالصاعقة!
لقد وقعت الواقعة..وكانت الطامّة الكبرى!
فعندما أنزلت قدمي اليمنى عن “صهوتها” ووضعت أختها لتحلّ محلها..قال لي بفرح مشوب بالمكر والغدر والنصر:
– آسف..لا أستطيع أن أمسح “الفَردة” الثانية!
وظننت أنه يمازحني ويودّ أن يشدّ أعصابي ويوقعني في مطبّ..ورجوته متوسلًا أن يستر عليّ ولا “يبهدلني”..
ولم يسعفني التوسّل إليه..واستعدادي أن أدفع له ما يريد..مبلغًا كاملًا حلالًا زلالًا..حفظًا لـ”توازن القوى” بين الحذاءَين..وصونًا لفضيحة قد تكون فضيحة بجلاجل..وقد يكون لها ما بعدها!
وما أدراك ما بعدها!؟
* على هذه الصخرة..سأقيم قلعتي!
وتمترس الرجل في قلعته..وأصرّ على رفضه وتعنّته وإصراره الفولاذي!
لقد وقعتُ في الفخّ..فرفعتُ الراية البيضاء!
أحسست أنني أسير عاريًا..وتخيّلت آلاف العيون تنظر إليّ..إلى هذا “المخلوق” العجيب الذي هبط من السماء ويسير بحذاء ذي وجهَين..وذي عالمَين!
أنتظر لحظة الغروب..وأنا أكاد أطقّ!
أحاول أن أخبئ عاري بستائر الظلام!
فالليل أبو ساتر..
أسير في الشارع..وأنا أخشى أن تسقط ورقة التوت..وأتبهدل!
ويلمح بعض المارّة “كوميديا الأحذية!”..فينظرون إليّ بدهشة وسخرية..ويظنّون بي الظنون!
يشيرون إلى “المفارقة” الديالكتيكية في حذائي ذي الوجهَين المنافقَين..الأول أسود حالك..والثاني رمادي كالح!
وتكون الفضيحة!
وما صاحبكم بمجنون*
ورأيت فيما يرى النائم..
كان الشاعر يسير وورقة التوت تتأرجح وتوشك أن تسقط..
يحاول دفع الشكّ عن نفسه، وفي نفسه تتوثّب رغبة جامحة ليدبّ الصوت..ويصرخ: لا تظنّوا بي الظنون..والذي نفسي بيده..ما صاحبكم بمجنون!!
**
وهكذا انتصرت عبقرية ماسح الأحذية على الشاعر وحذائه المسكين!