هذه الدراسة تمتد على ثلاث حلقات
الجزء الأول : شيء من التاريخ العربي المسيحي ….مسيحيو الشرق.
الجزء الثاني : العرب المسيحيون… ونشأة الاسلام حتى الفترة العباسة
الجزء الثالث: عن المسيحيين المشرقيين العرب في فترة الدويلات والصليبية
***
الجزء الثاني
هذا هو الجزء الثاني من موضوع ” المسيحيون العرب المشرقيون ” .الجزء الاول نشر بتاريخ 17 /1/21 في موقع ahlan.co.il وكذلك في صفحة “منتدى المرشدين العرب ” في الواتس اب .المقال طويل ,لكنه مفيد للمعنيين بهذا الامر .
عشية ظهور الاسلام ,كان العرب المسيحيون مشتتين بين مختلف الاتجاهات العقائدية. نساطرة ,ملكيون ,يعاقبة وغيره. جاء الفتح الاسلامي في ثلاثينات واربعينات القرن السابع لنجد كنيسة متشتتة متخاصمة عقائديا ,وعربا مسيحيين في مختلف اتجاهاتها في سوريا ومصر وفلسطين وكذلك في بلاد الرافدين.
من ناحية اخرى كان الجانب الفارسي الذي هزم الامبراطورية البيزنطية واحتل سوريا بين 611 –613 ,ودخل فلسطين / القدس سنة 614 وبعدها مصر سنة 618 . دام هذا الاحتلال حتى 629, نفذ خلالها الفرس مذابح في القدس,وهدموا الكنائس والاديرة وسبوا حوالي 35 الفا بما فيهم بطريرك القدس زكريا . لكن في سنة 622 بدأ هرقل بحرب ضد الفرس لاستعادة هذه المناطق ,وقد استطاع دخول القدس في آذار 630 ,لتبدأ بعدها عملية اعادة البناء والحياة للبلاد والكنيسة . في هذه الاوضاع ,وصل بعد سنوات قليلة الفتح الاسلامي .
عودة الى النهضة الجاهلية في الحجاز. بدءا من اواسط القرن الخامس الميلادي ,حيث كانت هجرة ” النصارى ” الى مكة والحجاز قوية خاصة بين اليهود المتنصرين ,حيث اشتد الصراع بين الروم والفرس, وهجرة الكثير من اليهود الى فارس خوفا من الروم . . فبني اسماعيل وبني اسرائيل ,حين تنصروا كانوا ابناء عمومية في القومية والدين . وفي الحجاز المحجوز بالصحاري عن اليمن وعن الشمال,تطورت فجأة نهضته القومية والتجارية وكذلك الادب والدين . تؤكد المصادر ان قبيلة قريش كانت رأس تجار العرب ,وان ىسيدة تجار قريش كانت خديجة بنت خويلد , ابنة عم نوفل ” رئيس النصارى ” فكان لآل نوفل النصارى زعامة الدين والتجارة في مكة . وقد توصلت ” النصرانية ” الى النهضة الدينية بحركتها التي كانت تشبه مؤسسة ” الموعوظين ” في المسيحية ,استعدادا للايمان الكامل فتركت اثرا كبيرا في المنطقة على الكثيرين ومنهم الرسول محمد نفسه , الذي عاش لمدة خمس عشرة عاما,منذ زواجه من خديجة حتى مبعثه ,يتحنف في غار حراء شهر رمضان من كل عام, حتى جاء اليقين والامر بالهداية الى ايمان الكتاب (الشورى 52 و 15 )والدعوة له بين العرب ,. “على شريعة من الامر ” وكذلك ” عند الذين اتيناهم الكتاب والحكم والنبوة , الذين اتيناهم بينات من الامر ( الجاثية 16 و 17 ) ,. وقد اطلقوا على دعوتهم اسم ” الاسلام “,لما استتب امر الدين في مكة,لتتميز عن اليهودية والمسيحية . هذه الدعوة الاسلامية ” النصرانية “انتشرت باسم “الرحمان الرحيم , كما يشهد كتاب سليمان الى ملكة سبأ “انه من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم و ” سورة “النمل 27-30) .اذ ان هذا النص شاهدا قبل القرآن .وكذلك سورة الانعام 89 . هذه الدعوة سيطرت على الكعبة نفسها,فلم يبق “هبل “(مع ضم الهاء ) اله البيت ,بل صار “الله “,اله النصارى المسلمين ,”انما امرت ان اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وامرت ان اكون من المسلمين “(النمل 91) .اذ تحول الشرك فيها الى التوحيد ” باسم الله الحمن الرحيم “قبل الدعوة بالقرآن الكريم . وكذلك نشهد في سورة التوبة 112-113 تأثير نشاط الرهبان السائحين للدعوة للاسلام النصراني , سورة اخرى هي سورة الصف 14 “يا ايها الذين آمنوا كونوا انصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من انصاري الى الله,قال الحواريون نحن انصار الله فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فايدنا الذين آمنوا على عدوهم فاصبحوا ظاهرين ” .
ولد الرسول العربي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سنة 570 في مكة في الحجاز ,وتوفي في العام 632.وكان قد بدأ بالافصاح عن نبوته ونشر دعوته وهو في الاربعين من العمر,مع بدء نزول “القرآن ” عليه,واستمر هذا حتى وفاته .عرف دينه ب “الاسلام “اي ان اتباعه يسلمون امرهم لله.ولكن محمد عمل ايضا بالتجارة, مصطحبا اقاربه في الرحلات التجارية ,مثلا مع عمه ابي طالب الى بصرى الشام في سوريا سنة 582 ,وهناك التقى مع الراهب البحيري, اذ كان اللقاء عابرا واستمر لوقت قصير ولم يتكرر.كذلك ايضا تعرف محمد على العديد من اليهود والنصارى وديانتهما.اذ عاش معهم في منطقة واحدة,والتقى بهم في تجواله,كذلك كانت خديجة زوجته الاولى من قبيلة قريش,وفيها نصارى منهم ابن عمها ورقة بن نوفل,الذي قيل عنه انه كان قسيسا في مكة . كان ورقة بن نوفل من الذين شجعوا الرسول على الاجهار بنبوته وكان من اوائل الداعمين له . قبل ذلك كان الرسول يشكك في الوثنية المنتشرة آنذاك بين قبائل العرب,قبل نزول الوحي عليه بسنوات. وهذا الشك انتشر ايضا بينهم,ومالوا الى الاعتقاد بوجود اله واحد سموه “الاه ” (الله )وان الكعبة هي بيته.الرسول نفسه كان اكثر الوثنيين ميلا الى التوحيد والانعزال متنسكا في الليالي في غار حراء على الجبل قرب مكة ,متمسكا بالروحيات .فالدعوة الدينية انتشرت والرسول ابن الاربعين (610 ),في مكة ثم هاجر الى يثرب في سنة 622 ,ليكمل دعوته هناك .
تأثير المسيحية في الاسلام واضح وموجود في ” القرآن “في العديد من السور .هناك بعض السور في القرآن ,تحمل اسماء تخص المسيحيين مباشرة ,مثل ” آل عمران ” “مريم ” و “المائدة “,وتكتمل جوانب الموقف في عدة سور اخرى منها النساء ,التوبة ,الصف ,النحل ,الاعراف ,البقرة ,العنكبوت …وغيرها .صحيح ان كلمة ” المسيحية او “النصرانية ” لم ترد في القرآن,انما كلمات مرادفة مثل “اهل الكتاب “و عيسى والمسيح ونصارى ومريم وقسس ورهبان . كذلك ذكر “الانجيل “13 مرة …الذي هو هدى ونور وموعظة واحكام للبشر واتباعه انقياء صالحون . العديد من الآيات القرآنية تؤكد ذلك :البقرة 53 , 87 ,آل عمران 3—4 ,41 ,42 ,44 ,45 ,47 ,48 , ,, النساء 163 ,المائدة 110 , 46 ,…العنكبوت 46….النحل 125 , 102 .
اذن القرآن وبناءا على هذه الآيات والسور وغيرها,احترم وقدر المسيحية كدين موحى به من الله …….(ملاحظة هامة , مرة اخرى لا ادخل هنا في قضايا الايمان المسيحي او الاسلامي او الخلاف بينهما على العقائد الدينية )
تعامل الرسول مع المسيحيين :
في السنوات 614—615 ارسل الرسول مجموعتين في هجرتين من المسلمين الاوائل ,بمن فيهم ابنته ” رقية “وزوجها عثمان الى ملك الحبشة ” النجاشي ” لحمايتهم من ظلم قريش لهم في مكة .ولما اشتد الصراع بين المسلمين وغيرهم من القبائل الوثنية ,لم يغز اتباع الرسول اية قبيلة مسيحية, فالغزوات والمعارك التي نعرفها من التاريخ ,موقعة بدر سنة624 وموقعة احد سنة 625 والخندق سنة 627 وصلح الحديبية سنة 628 وغزوة مؤتة سنة629 في شرق الاردن وتبوك شمال الحجاز سنة 630 وحنين وووو لم تكن ضد المسيحيين ولم يشارك المسيحيون بها ضد الرسول وجماعته ,فكانت غزوات دفاعية وهجومية ومواجهات مع وثنيي مكة والمنطقة للقضاء على الدعوة المحمدية . وثم هجمات بهدف كسب الغنائم وضمان طرق التنقل .
مع انتشار الاسلام في شبه الجزيرة العربية ,لم يكن اكراه ديني ضد المسيحيين او اليهود من قبل الرسول وجماعته. الا انه مع الوقت هناك قبائل وافراد اعتنقوا الاسلام مثلا في البحرين وحمير وعمان ومناطق اخرى , ثم فرضت الجزية على غير المسلمين .
في نجران حيث قبيلة بني الحارث بن كعب,كان مركزا مسيحيا منظما .اوفد الرسول وفدا وحمله رسالة الى الاساقفة يدعوهم فيها الى الاسلام او دفع الجزية .بعدها قام وفد من من مسيحيي نجران بزيارة الرسول والاجتماع به سنة 631 ,وهو في جامعه في المدينة .دخل الوفد الكبير (40—60 )شخصا الى الجامع وصلبانهم على صدورهم (ما لا يقدسه الاسلام)ويرتدي بعضهم ثياب الكهنة ,وعندما حان وقت صرتهم ,عرض عليهم الرسول ان يؤدوها في الجامع . يقال ان بعد ذلك جرى نقاش عميق وصريح بين الطرفين ,بخصوص المعتقدات الدينية والوهية المسيح ومسألة الثالوث والتجسد وصلب المسيح وقيامته .
لم يقتنع الوفد المسيحي من حجج الرسول ,واشتد النقاش بينهما فدعاهم الرسول حسما للامر
الى ما يسمى “المباهلة ” اي ان يبقى كل على رأيه,ولكن ان يعلن الطرفان معا “الكافرين “ما معناه فتح المجال للاقتتال مستقبلا . وحول موضوع “المباهلة” جاء في سورة آل عمران 61 ” فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وانفسنا وانفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكافرين ” الا ان وفد نجران رفض هذا العرض.
وكان الاتفاق ” المسيحي الاسلامي “على المصالحة والتعاون في ما يمكن الاتفاق عليه,ويدفع المسيحيون النجرانيون الجزية مع بقاء كل طرف على معتقداته . ويكونون بين المسلمين من ”
” اهل الذمة ” وتصبح ممتلكاتهم وارضهم واماكن عبادتهم في حماية الرسول , الى جانب معتقداتهم وتدينهم .( هذه القصة وردت في ” الطبقات ” لدى بن سعد وكذلك الطبري في ” جامع البيان في تفسير القرآن ” الاصفهاني في “الاغاني “….
المسيحيون في فترة الخلفاء الراشدون:
الاول ابو بكر الصديق 632—-634 ….وهو عم الرسول واب زوجته عائشة .
الثاني عمر بن الخطاب 634—–644 وحو ايضا حمو الرسول .
الثالث عثمان بن عفان 644—-656 وهو زوج ابنتي الرسول ,رقية وبعدها تزوج ام كلثوم.
الرابع علي بن ابي طالب 656—661 وهو زوج ابنة الرسول .
استهل ابو بكر الصديق حكمه بالهجوم على مملكة فارس ,وسنة 633 استولى على الحيرة جنوب العراق . الخليقة عمر بن الخطاب واصل المهمة,فاستولى على مملكة فارس اثر معركة القادسية سنة 639 ,وبعدها احتل ايران بعد معركة نهاوند سنة 643 .كان عمر قد وجه جنده الى ” بلاد الشام ” (هكذا اصبح اسم سوريا في العهد الاسلامي الاول )استسلمت دمشق ,وفي معركة اليرموك سنة 636 قضى على الوجود البيزنطي في سوريا وفلسطين وشرق الاردن ,اذ فتح القدس سنة 638 .اكمل حملته الى مصر واحتلها سنة 641 , مع انتهاء فترة حكمه سنة 644 كانت بلاد الشام وجزء من آسيا الصغرى ومصر ليبيا وكذلك بلاد فارس ,تحت حكم المسلمين . بعده وسع عثمان بن عفان احتلاله باتجاه اوروبا ,فاهجموا القسطنطينية عاصمة الروم لكن دون نجاح .
الامر الجديد الذي طرأ على مكانة القدس /( ايليا كابيتولينا..).التي اصبحت مدينة مقدسة اسلاميا قبل الفتوحات ,اذ اليها اسرى الرسول ومنها عرج الى السماء ( سورة الاسراء ..1 )في طريق عودته الى الجزيرة العربية,واصبحت “اولى القبلتين ” اي ان الاسلام اعطاها بعدا جديدا لاهمية القدس الدينية . هكذا اصبحت القدس مدينة مقدسة للديانات التوحيدية الثلاث ,اليهودية والمسيحية والاسلام .
هكذا اصبح حوض المتوسط مقسما الى ثلاث كتل سياسية الرومانية الشرقية والرومانية الغربية ودولة الخلافة الاسلامية .هكذا اصبح كل المسيحيين العرب في اماكن تواجدهم تحت حكم اسلامي .ومن الناحية الكنسية كانت ثلاث بطريكات هي المقدسية وانطاكيا والاسكندرية ضمن سلطة الحكم الاسلامي ,وبقيت القسطنطينية وروما خارجه .
في عهد الخلافة لم تكن قد تبلورت منظومات شرعية مفصلة للتعامل مع المسيحيين العرب.اذ بقي التراث النبوي وما جاء في القرآن من ” اهل الكتاب ” وكذلك عادات التعامل مع “اهل الذمة ” و “الجزية ”
ان محاربة المرتدين عن الاسلام ,لم تكن ضد المسيحية بشكل عام .اذ كانت معارك مع بعض المسيحيين في بعض المناطق ,وذلك للسيطرة على طرق التجارة ومناطق استراتيجية, خلالها قتل الكثير من المسيحيين العرب .
كان عمر بن الخطاب مقتنعا ان كل العرب يصبحون مسلمين, فامتزج عنده الاعتزاز الديني بالروح القومية العربية ,وهذا ما اثر على حياته وسلوكه ازاء المسيحيين العرب .اذ قام بتهجير مسيحيي نجران من الجزيرة العربية دون مبرر ديني . وبعد اجتماع نجران مع الرسول وبعد وفاته ,قاموا بزيارة ابو بكر الصديق وطالبوا بتجديد عهدة الرسول لهم, فاعطاهم ابو بكر كتابا يضمن ذلك .بالرغم من هذا ,قرر عمر بن الخطاب ان يسلموا او يرحلوا,ولرفضهم التراجع عن نصرانيتهم قام بترحيلهم . ( تشير بعض المصادر…كتاب الخراج لابي يوسف ..ان النصارى في نجران تحولوا الى قوة كبيرة ,ووصل عددهم الى 30—40 الفا وكانوا الاقوى القادرين على القتال ’وربما خاف عمر من ان يشكلوا خطرا مستقبليا على سيادة العرب المسلمين في الجزيرة ..ربما كان هذا الدافع لترحيلهم من نجران ) .بالرغم من ذلك عرف الخليفة عمر بن الخطاب بعدله وامتاز بسلوكه الحكيم في حياته العامة. يبدو ان عمر نفسه فهم ان ترحيل مسيحيي نجران كان ظلما ,ولذا فقد امر حكام الشام والعراق بابقاء مسيحيي نجران اذا ما وصلوا اليهم في ذمة الاسلام “فانهم اقوام اهل ذمة ” وطالب بنصرتهم ,وان لا يدفعوا جزية لمدة 24 شهرا بعد وصولهم ويوسعوا لهم ارضا…وكان عمر يخفف بهذا ظلم وعدم شرعية طردهم وترحيلهم . يذكر ايضا ان اهل نجران في العراق ,اتوا الى الخليفة عثمان وطالبوه بانصافهم وارجاعهم الى نجران,وبعده اتوا الى الخليفة علي بن ابي طالب لنفس السبب,الا انه اعتذر عن ذلك ايضا ….لكن عمر نفسه ايضا في الجزيرة الفراتية اعفى قبيلة تغلب من دفع الجزية ,وهكذا تعامل مع قبيلة ارمنية في شمال فارس .اما خالد بن الوليد في عهد خلافة عمر ,قام بالهجوم على الغساسنة النصارى في راهط ضمن فلسطين من بلاد الشام ,وقتل العديد منهم بحجة انهم قاتلوا المسلمين الى جانب الروم .لكن خالد نفسه وبعد ان احتل دمشق بعد حصار واتفاق استسلام,اعطى مسيحييها عهدة ضمت ” الامان على انفسهم واموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم ولا يعرض لهم الا بالخير اذا اعطوا الجزية “.
بعض المصادر التاريخية تورد ان العديد من قبائل المسيحيين العرب في مصر وبلاد الشام والعراق استقبلت الفتوحات الاسلامية بترحاب,كذلك شارك بعضها فى الحروب مع المسلمين, ربما بسبب القربى القبلية -القومية او معاداة للفرس والروم الذين نكلوا بهم وظلموهم ولاحقوهم في الصحاري والجبال .( يجب التأكيد هنا على عدم المبالغة في تأييد وتضخيم وتعميم المسيحيين للفاتحين المسلمين ).
العهدة العمرية :
بعد حصار القدس وفتحها سنة 638 (حاصرها القائد ابو عبيدة بن الجراح سنة 636 ) رفض بطريركها صفرونيوس تسليم مفاتيح المدينة الا الى الخليفة عمر بن الخطاب .
جاء الخليفة الى القدس والتقى مع البطريرك صفرونيوس في كنيسة القيامة. ولما حان موعد صلاة الخليفة ,طلب منه البطريرك ان يصلي في الكنيسة ,الا ان عمر رفض ذلك حرصا على الكنيسة والمسيحيين, اذ خاف عمر ان يبني المسلمون هناك مسجدا حيث صلى .بعد ذلك كتب عمر بن الخطاب عهدة بيده وسلمها الى البطريرك,تفيض بالتسامح وعدم فرض اي اجراء ظالم بحق النصارى والاكتفاء بفرض الجزية . عرفت فيما بعد ب ” العهدة العمرية ” …. هناك عدة نصوص للعهدة ,دون اختلاف جوهري في المضمون.
«بسم الله الرحمن الرحيم ”
“هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن. وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن شاء سار مع الروم. ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم..
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
كتب وحضر سنة خمس عشرة هجرية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد,وعمرو بن العاص وعبد الرجمن بن عوف ومعاوية بن ابي سفيان .”
تبقى ” العهدة العمرية ” وما رافقها خير دليل ’ بعد الحقبة النبوية ’على التعامل الاسلامي السمح ازاء المسيحيين .
****المسيحيون في الفترة الاموية ( 661—749 )
كان علي بن ابي طالب آخر الخلفاء الراشدين , اذ تولى الخلافة سنة 656 ,واتهمه البعض بان له يدا في مقتل عثمان بن عفان الذي ينتمي الى بيت امية .كان الامويون من انسباء بني هاشم عشيرة الرسول ,وقد زادت مكانتهم في عهد عثمان,اذ واصل معاوية بن ابي سفيان من بني امية اشغال منصبه أميرا على سوريا’بعد ان ولاه الخليفة عمر بن الخطاب عليها ,وبعد مقتل عثمان اصبح معاوية بمثابة الرئيس على بيت امية,وعليه تقع مهمات عدة منها الثأر لمقتل عثمان واعادة السلطة الى بني امية . وكان الوالي الوحيد الذي تمرد على علي ورفض مبايعته .
تميزت فترة معاوية (661—-680) كخليفة بالانسجام في العلاقات المسيحية الاسلامية,وبدأت ملامح مجتمع اتضحت فيه المعالم العربية للدولة,حين دخلت فيه عناصر غير مسلمة وحظيت باماكن مرموقة في عدة مجالات .كان لا بد من الاستعانة بالمسيحيين في الادارة العامة للدولة وضبط المال والترجمة,الامر الذي قربهم اكثر الى معاوية , الذي امتاز بذكائه السياسي والانفتاح ولى جانب الحسم والليونة ,من اقواله “لا اضع سيفي حيث يكفيني سوطي, ولا اضع سوطي حيث يكفيني لساني, ولو كان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت ,اذا شدوها ارخيتها واذا ارخوها شدتها ” .في هذه الفترة برزت بعض الشخصيات المسيحية منها سرجيون بن منصور الذي عينه معاوية كاتبا له ووليا على الشؤون المالية , وولده يوحنا الدمشقي استاذ يزيد بن معاوية ,والذي ترك القصر وذهب الى دير مار سابا ليصبح راهبا ولاهوتيا ,كذلك الشاعرالتغلبي الاخطل في ديوان الخليفة , كذلك الطبيب الشخصي لمعاوية النصراني ابن اثال وعينه واليا على حمص . نذكر هنا ان احدى نساء معاوية المفضلات كانت ميسون المسيحية,من بني كلب حيث تربى ابنها يزيد . ووصل الشعر العربي الى ذروته في شعر الاخطل وجرير والفرزدق وعمر بن ابي ربيعة وجميل الذري (جميل بثينة ) وقيس بن الملوح (قيس وليلى).
بعد وفاة معاوية تحول التسامح والانفتاح تجاه المسيحيين الى الاسوأ ,ربما ايضا بسبب الحروب مع الروم والردة . ومع فترة الخليفة عبد الملك بن مروان (685—705 ) ابتدأ تعريب دواوين الدولة , وازداد الضغط على المسيحيين للدخول في الاسلام .مما ادى الى الاستغناء عن خدمات النصارى فيها .لكن السماح ببناء الاديرة والكنائس والتنصر استمر . كذلك تواصل وجود ابرشيات واسقفيات وعملها في العهد الاموي , منها ابرشيات تغلب .اما الوليد بن عبد الملك فقد بنى الجامع الاموي مكان كنيسة يوحنا المعمدان .اما اخيه سليمان بن عبد الملك فامر بقطع يد من لا يدفع الجزية , وكان واليا على فلسطين اذ هدم كنيسة اللد واستعمل اعمدتها في بناء جامع الرملة .,والخليفة معاوية الثاني امر بهدم التماثيل وتمزيق الايقونات. ادى ذلك من بعض المسيحيين العرب اما الجلاء لارض الروم او اعلان اسلامهم .كذلك ضعف الحضور المسيحي في اطراف الجزيرة وفي الشام والعراق وتقلص جغرافيا وبشريا .واستمر بالبقاء حتى القرن العاشر بسبب ازدهار الكنيستين اليعقوبية والنسطورية ,وصمود الرهبان هناك في الاديرة خاصة في شمال العراق والعزلة الجغرافية للجزيرة الفراتية عن اجناد سوريا والعراق .
**** المسيحيون في الفترة العباسية : (750—1258 )
اردت هنا التركيز على الفترة حتى نهاية الفترة الرشدية ….هارون الرشيد وابنائه الامين والمأمون .. 833 ) اذ بعد هذه الفترة تبدأ الامور بالانحلال وضعف الخلافة ثم نشوء دويلات.
تبدأ الفترة العباسية بعد ان اعلن ابو العباس عبدالله نفسه خليفة بتاريخ 28/11/749 ,وذلك بعد ان نجح في قيادة تمرد وصدامات عسكرية بين العلويين والخوارج والشيعة وغيرهم ضد الامويين و دك آخر معاقلهم . اذ ان هؤلاء اعتبروا الامويين مغتصبين للسلطة والخلافة,التي يجب ان تكون لآل الرسول واتباع علي بن ابي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة.استغل العباسيون الذين ينتمون الى عميدهم الجد عباس ابن عم الرسول هذا الوضع واعتبروا انفسهم احق بالخلافة من العلويين لانهم على علاقة ذكورية بالرسول .
خلف العباسيون الامويين في الحكم,ونقلوا مركز الخلافة الى بغداد. في المرحلة الاولى لخلافة العباسيين,خف اضطهاد المسيحيين الذي كان قد استشرى في سنوات حكم الامويين الاخيرة. وتحسنت بشكل عام اوضاعهم مع تولي الحكم اول الخلفاء العباسيين ابو العباس الذي اطلق على نفسه لقب “السفاح “حين خطب معلنا خلافته في مسجد الكوفة , واسندت الى المسيحيين مهام موضوعية في الحياة الاجتماعية والعلمية للخلافة العباسية .في هذه الفترة اشتهر ايضا اسقف حاران ث ثيودوروس ابوقرة,الذي شارك في الحوار مع علماء المسلمين في البلاطالعباسي,
ومن خلال اعماله واعمال تلاميذه اصبحت اللغة العربية لغة اللاهوت المسيحي .اما الخليفة المنصور(754—775 ) فقد منع اظهار الصليب,واجبر المسيحيين بلباس خاص وعليه اشارة تميزهم, وامر بوشمهم فسميت تلك “سنة الميسم ” ,هربت على اثرها اعدادا كبيرة من المسيحيين الى جزيرة قبرص.
بدءا من القرن العاشر الى آخر القرن الثالث عشر ,اخذت الابرشيات والكنائس والاديرة بالتلاشي حتى الزوال احيانا. وخرب مركزا المسيحيين في الحيرة والانبار,اما الجزيرة الفراتية مقر مسيحيي تغلب,فتصبح مسرحا لمعارك آل حمدان والاتراك,وعلى اثرها دمر مركز النساطرة في “بلد ” واكتساح ” نصيبين ” . لم ينته الامر هنا ,فالعديد من القبائل العربية تزاحمت على الجزيرة الفراتية, وازاحت قبائل تغلب اذ ذهب منهم اللآلاف الى ملك الروم طالبين الحماية ,وقسم من نصارى قبيلة “كلب ” دخلوا الاسلام . في فلسطين وشرق الاردن اختلف الوضع قليلا, حيث المسيحية منتشرة في القدس وضواحيها وفي الجليل .
وصل مجد العرب اوجه وتفتحت الحضارة العربية بكل بهائها في عصر الخلافة العباسية الاول الذي امتد حتى القرن التاسع …فرغم تشدد الخليفة هارون الرشيد وتدمير كنائس قائمة على حدود الدولة البيزنطية, وصرف المسيحيين من اعمالهم ,الا انه انشأ مراكز للحجاج المسيحيين بهدف تشجيع الحج المسيحي الى الاراضي المقدسة,ومنح المسيحيين حق الاشراف عليها.كما اقام علاقات وثيقة مع الملك شارلمان الكبير اكبر حكام اوروبا.
انتهت في الحقبة الثانية من عهد العباسيين السيطرة العربية المطلقة على قصر الخلافة , ومراكز الحكم في الدولة . فالمنصور ابن السفاح (754—775 )استحدث الوزارات في الحكم وسلم ادارتها للموالي ( العجم المسلمين غير العرب الذين اسلموا اثناء الفتوحات ) حديثي العهد بالاسلام, واصبح هؤلاء اصحاب الحل والربط.وحين تولى المعتصم امر الخلافة (833—842) سلم امر حراسته للموالي من بربر واتراك في الغالب ,وسرعان ما اصبحوا الآمر الناهي في القصر وعلى الجيش وفي الحياة العامة .. على هذه الخلفية كان من الواضح والطبيعي ان تتفاقم الخلافات والنقمة من الخليفة وتبدأ حركات التمرد والثورات مطالبة بالمساواة للشعوب غير العربية مثل الفرس الايرانيين ولهم تطلعات قومية يريدون تقويض سلطة العرب .
*** دور المسيحيين العرب في الحضارة العربية :
ساهم العلماء المسيحيون في احياء وازدهار الحضارة العلمية العربية ’ في عصر الخلافة العباسية الاول ولدور المسيحيين العرب اكبر انجاز .شغف العباسيين آنذاك بالعلوم كان معروفا فالمأمون ابن هارون الرشيد ,انشأ دار الحكمة في بغداد سنة 830, التي رأسها يوحنا بن ماسوية بدعوة من المأمون , وورثه بعد مماته حنين بن اسحاق , فتحولت الى مركز اكاديمي للدراسات العلمية ضمت علماء من كل الفروع والفنون, واوكل للعلماء السريان والنسطوريين مهمة ترجمة التراث والفكر الهيليني للعربية, اذ كانوا مطلعين على اللغة اليونانية . وعين عبد المسيح بن اسحاق مستشارا خاصا للمأمون وقربه اليه ووثق به. ووجه العلماء المسيحيون جل اهتمامهم للمواضيع العلمية والفلسفة مثل الطب,الفلك ,العلوم الطبيعية ,الرياضيات والترجمة والبحث العلمي والدراسة والنشر , واشتهر ابن العبري كمؤرخ وعالم ,وابن الرومي كشاعر,وتتلمذ الفارابي على ايدي النصارى, واهم ما اثرى المكتبة العربية كانت التراجم والمؤلفات والمراجع التي قام بها علماء مثل ابن بيطار ,ابن التلميذ,عيسى بن نوح ,يحيى بن عدي,نصر بن هارون ,ثابت بن قرة الذ اصبح وزيرا وغيرهم , مما احدث ثورة علمية ثقافية واسعة جعلت من بغداد اكبر مركز حضاري في تلك الفترة .
نشأ الادب العربي المسيحي في اديرة فلسطين ومنها انتقل الى سوريا ومصر والعراق.من اعلامه ابو اسحاق الصابي وابراهيم الطبراني وسليمان الغزي ,واسطفان الرملاوي الذي ترجم الانجيل الى العربية, وثيودور ابو قرة الذي نقل اللاهوت المسيحي الى العربية في اواخر القرن الثامن ,اذ كان قبلها مقتصرا على اليونانية والسريانية . للاسف لم يلق هذا التراث الاهتمام الكافي في الشرق,اذ اندثر معظمه او نقل الى مكتبات اوروبا وبقي اليسير منه في اديرة سيناء ومار سابا وفي مصر وسوريا. ان مساهمة العلماء المسيحيين في الوصول بالحضارة العربية –الاسلامية الى ما وصلت اليه , هي سجل حضاري ناصع في تاريخ المسيحية الشرقية.لذلك من الطبيعي ان يكون للتراث العربي المسيحي اهمية خاصة في تثبيت جذور المسيحية الشرقية ونفي ظاهرة الاغتراب للوجود المسيحي في الشرق, واداة لتعميق التعايش مع المسلمين .
ما من شك ان هذه الحضارة كانت المراجع العلمية الرئيسية التي اسندت اليها مباديء الحضارة الاوروبية في عهد النهضة “الريسيسانس ” اذ انتقلت الى هناك عبر عدة قنوات منها الاندلس والحملات الصليبية والتجارة.
خلال فترة مائة عام ,تم الانتقال اللغوي لدى الشعوب المسيحية في سوريا من اللغات اليونانية والآرامية الى اللغة العربية,التي اصبحت السائدة هناك . كما اهتم الخطاطون العرب المسيحيون في تطوير الخط العربي مثلا الخط الكوفي نقلاا عن الخط الذي مارسوه في الحيرة قبل ظهور الاسلام .
في بداية القرن التاسع ’ زاد اعتماد الخلفاء العباسيين على المرتزقة والموالي ومعظمهم من الاتراك حتى وصل الامر الى ضعف الخلافة في بغداد ,وانسلاخ مناطق عن الدولة العباسية وظهور دويلات مستقلة مثل الطولونية والاخشدية والفاطمية والسلجوقية في مصر والحمدانية في سوريا, ورويدا رويدا اتسع نفوذ العناصر التركية والفارسية في بغداد حتى اصبح الخليفة يأتمر بامر الجيش من غير العرب .