شكيم ذاكرة وطن – “البوح 13” – بقلم وعدسة: زياد جيوسي 

 ذات صباح باكر كنت أغادر بلدتي الصغيرة جيوس متجها إلى الطرف الشرقي لمدينة نابلس لزيارة تل بلاطة والتجوال في ذاكرة الوطن عبر خمسة الآف عام مضت في عاصمة فلسطين غير المتوجة كما لقبت.. شكيم الكنعانية، بعض من ذاكرة فلسطين ورواية سفر من حكايات تاريخنا الفلسطيني، ومعنى اسمها هو الأرض المرتفعة باللغة الكنعانية كونها تقع على تلة مرتفعة بين جبلي عيبال وجرزيم جناحي مدينة نابلس المحلقين، وكانت د. لينا شخشير منسقة ومديرة كل برامج جولاتي في نابلس قد نسقت لي الزيارة إلى حديقة تل بلاطة مع الآنسة الرقيقة رهام عيسى رئيس قسم العرض في دائرة تطوير المواقع والعاملة في حديقة تل بلاطة التي تضم آثار شكيم بين جنباتها، وبمجرد وصولي قلب نابلس أخذت سيارة أجرة للوصول إلى تل بلاطة حيث كانت الآنسة رهام باستقبالي، فالدكتورة لينا لن تتمكن من مرافقتي جولات ما قبل الظهر لكونها في عملها بالتدريس، لذا اتجهت بنفسي للموقع. 

  ما أن دخلت البوابة لحديقة تل بلاطة الأثرية حتى كنت قد بدأت بتنشق عبق التاريخ الكنعاني، وهذه الحديقة انشئت من قبل وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” وبالتعاون مع جامعة لايدن في هولندا ودعم من المملكة الهولندية بين 2010- 2014م،  وأول ما شاهدت يافطة تحدد مواعيد الدوام عبر ايام الأسبوع وأسعار بطاقات الدخول وهي اسعار مقبولة نسبيا، وسرت بالممر وعلى يميني أسوار المدينة التاريخية من حجارة ضخمة، وقد تم اظهارها بالتنقيب من حولها وإزالة الاتربة التي تراكمت عبر عصور الزمان حتى دفنت المدينة قبل أن يعاد اكتشافها بعد اكتشاف مدفونات من الأسلحة والأدوات البرونزية خلال قيام عمال البناء عام 1908م بالحفر لبناء بيت وهذه القطع المهمة ومنها قطع مشغولة بتقنية عالية بيعت بتلك الفترة ووصلت إلى متحف ميونخ، فازداد الاهتمام بالموقع الذي كان قد اقترح الباحث الألماني “تيرش” البحث فيه للعثور على آثار مدينة شكيم الكنعانية التي وردت في قصص مختلفة وخاصة الدينية حين شاهد أطراف السور، حيث تتالت التنقيبات الأثرية بعد ذلك حيث قام العالم الألماني سيلين بالتنقيب في تل بلاطة عام 1913م وعاد مجددا في عام 1926 م برفقة بول المؤرخ الهولندي، حيث تم العثور على الكثير من الفخاريات والأسلحة والواح طينية مكتوبة أيضا، وتتالت عمليات التنقيب فمنها تنقيبات البعثة الألمانية عام 1935م وتنقيبات بين الاعوام 1960-1973 من البعثة الامريكية المشتركة، وواصلت طريقي بجوار سور المدينة حتى التقيت الآنسة ريهام والتي استقبلتني بكل لطف أمام مكاتب الموقع التابعة لوزارة السياحة والآثار الفلسطينية وأمام المتحف الذي يروي بعض من الحكايات لإرث عابق بها، حيث نسق المكان بشكل جميل ونظيف ووضعت به بعض القطع الحجرية الأثرية، اضافة الى لوحات ارشادية تروي تاريخ المكان. 

  بعد احتساء القهوة كنت أحضر بقاعة العرض فيلما عن تاريخ شكيم “شيكمو” من اخراج جورج عازر ومشاركة وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ودائرة الآثار والتراث الثقافي وبدعم من جامعة لايدن الهولندية ووزارة الخارجية الهولندية من خلال منظمة اليونسكو “مكتب رام الله”، وهو يروي حكاية شكيم من البداية حتى لحظة اخراج الفيلم للعيان،  وبعد الفيلم كنت اتجول برفقة الآنسة رهام في قاعة المتحف الذي ضم صورا للتل وصورا للتنقيبات فيه، وآثارات مختلفة وأسلحة وقطع برونزية وفخاريات وجدت في الموقع بالتنقيبات الأثرية، التي تمثل تاريخ التل من العصر الحجري القديم فالحديث فالحجري النحاسي فالعصور البرونزية الخمسة من المبكر حتى المتأخر، وصولا للعصر الحديدي الأول والثاني والثالث حتى الوصول للفترة الهلنستية، بما سادها من احتلالات متعددة من الفراعنة مرورا بآشور وبابل واليونان والفرس وغيرها، مرورا بعصور مختلفة مثل البيزنطية والرومانية حتى تحريرها وعودتها لأصولها من أيدي الرومان بالعهد الاسلامي العربي وصولا للعصر الحالي حيث الاحتلال الصهيوني، مع فترات الحكم المختلفة والاحتلال الصليبيي، عبر فترة زمنية تصل الى 5000 عام قبل الميلاد. 

   من المتحف كنا نخرج في جولة في أنحاء تل بلاطة وبعد جولة حول سور المدينة المحصن الذي يعود للعصر البرونزي الاول، وحجارته الضخمة على التل والتي لفتت نظر الباحث الألماني “تيرش” وشك ان هذا التل هو مدينة شكيم، وفي هذا السور البوابة الشرقية التي ما زالت ظاهرة بقاعدتها الضخمة من الصخور المحفورة والتي وقفت مطولا اتأملها واستذكر تراث الأجداد وعظمته وأتأمل بقايا البرجين على جانبي البوابة، فدخلنا موقع شكيم حيث عبرنا للموقع من خلال البوابة الشمالية الشرقية لنبدأ التجوال في المعبد المحصن الواقع جنوب البوابة، وهذا المعبد شاهد على تاريخ تعاقب من حكموا المدينة، فهو على شكل مبنى محصن أقيم على أنقاض معبد يعود الى العصر البرونزي الوسيط الذي كان يستخدم للعبادة في العصر البرونزي المتأخر، ومن خلال الأعمدة الفرعونية نرى أن المدينة حكمها المصريون الفراعنة حين احتلوها من ضمن العديد من الاحتلالات التي تتالت على المدينة وسكنها السومريون الذين قاموا بثورة ضد الرومان فقمعهم الرومان وقاموا بهدمها وبنوا “نيوبلس” أو “فيلفيابولس” والتي تحولت الى إسم مدينة نابلس على بعد عدة كيلومترات عام 72 ق.م بين ينابيع الماء وعلى جانب نبع القريون، وكانت المملكة المصرية الوسطى قد اعتبرت شكيم تهديد لها في القرن التاسع ق.م، وفي ساحة المعبد كنا نشاهد المذبح الصخري “ستيلا” الذي كانت تقدم عليه القرابين من الكنعانيين للآلهة الوثنية، وهو عبارة عن نصب حجري مكون من صخرة ضخمة طولية الشكل منتصبة على صخرتين أصغر تحتها. 

   من المهم الاشارة أن اسم شكيم ورد عند الفراعنة منذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد في نقوش نصب خو-سباك التي تعود الى حقبة الفرعون سونسرت الثالث في الفترة بين1880-1840ق.م، وقد ورد الاسم في اللعنات المصرية كما ورد في رسائل تل العمارنة في القرن الرابع عشر قبل الميلاد والتي تمثل جزءا من ارشيف اخناتون الذي عاش في هذا التل، حيث جرت الاشارة ان هذه المدينة يحكمها الملك الكنعاني لبايو أو لابايا في مصادر أخرى، ومن هناك واصلنا المسير إلى الجناح الغربي حيث يعتقد علماء الآثار انه كان يضم معبدا ومزارا كجزء من القصر بناء على بقايا الآثار التي وجدت بالحفريات، وكان له قواعد أعمدة ضخمة ما زال أحداها ماثلا، ومن القصر أو بقايا القصر تجولت في الساحات المقدسة والتي كانت تشهد الاحتفالات الدينية لدى الكنعانيين ويفصلها عن مواقع السكن جدار كبير وربما كان بسبب شعورهم بقدسية هذه الساحات، لنصل الى أماكن السكن التي كان يقطنونها وقد عثر على مدافن أطفال ماتوا ووضعوا بجرار فخارية دفنت تحت البيوت مع بعض القدور والحلي والمرفقات المختلفة لطقوسهم الجنائزية، وأكملنا الطريق مرورا بأماكن الحراسة للجند، وبعض هذه المباني تعود للعصر الهلنستي والبعض للعصر الحديدي، وقد عثر على فخاريات متقنة الصنع في بقايا المنازل تدلل على مستوى متقدم في حياة من عاشوا بهذه البيوت إضافة لأختام وعملات معدنية كانت وسيلة التبادل النقدي من فئة الدراخما، وتماثيل صغيرة لأشكال نباتية وانسانية وحيوانات، مع ملاحظة أن شكيم تعرضت للهدم والحرق عدة مرات خلال الاحتلالات المختلفة ولكن كان يتم بناؤها من جديد، ولذا فهي تتكون من عدة طبقات بنيت فوق بعضها البعض، وهذا أيضا جعل التنقيبات الأثرية تعثر على قطع أثرية مختلفة الأزمان والمصادر فمنها ما يعود لمن احتلوا شكيم وطردوا منها.  

   جولة رائعة في عبق التاريخ والمكان النظيف والمعتنى به جيدا، ويا ليت كل مواقعنا التراثية والأثرية تحظى بنفس الاهتمام ولا تترك مهملة بلا عناية ولا نظافة كما شاهدت في المدرج الروماني في راس العين في نابلس، وفي عشرات المواقع التي شاهدتها في جولاتي في الوطن، فشكيم تستحق هذا الاهتمام وأيضا كل المواقع تستحق ايضا فهي راوية ذاكرة الوطن والتاريخ لشعبنا، وشكيم اختار موقعها الكنعانيون القدامى بذكاء ودراسة، فهي الطريق الوحيد للعبور بين جبلي عيبال وجرزيم باتجاه سهل عسكر وباتجاه القدس وغور الاردن، ومن يسيطر عليها يتحكم بالعبور بين المناطق فلا طريق آخر، بالاضافة لذلك أن المياه كانت متوفرة وبكثرة، فهناك الينابيع المحيطة بها وطبيعة المناخ بالمنطقة حيث تساقط الامطار بقوة في الشتاء والتي تنزل من الجبلين على شكل سيول وأودية توفر الماء وتنشط الجانب الزراعي والاقتصادي، وهذا مما منح شكيم قوة جعلت المحتلين يطمعون بها من احتلال الفراعنة حتى الاحتلال الصهيوني الذي يحاول تزوير التاريخ والسيطرة على المكان بزعم أن النبي يوشع نقش لبني اسرائيل الوصايا العشرة على نصب حجري في شكيم وهذا الكلام مخالف تماما لكل وقائع التاريخ وحتى للتوراة، فقد ورد في التوراة أن سيدنا يعقوب حين أتى للمنطقة كان يحكم شكيم الحاكم حمور الحوى الكنعاني وسمح له أن ينزل بجوارها وليس فيها، كما ورد أيضا أن سيدنا ابراهيم الخليل نزل فيها حين أتى من اور العراق، وبغض النظر عن صحة ذلك فهذا يدل أن شكيم قائمة كمملكة كنعانية محصنة ومتطورة ولها أهميتها قبل ما ذكرته التوراة، وبالتالي لا حق لهم بأي بقعة في فلسطين إلا ما يقولونه من الوعد الموهوم، وسيدنا ابراهيم وسيدنا يعقوب نزلوا ضيوفا لدى اجدادنا الكنعانيين. 

   انهيت الجولة الطويلة برفقة الآنسة الرقيقة رهام عيسى وشكرتها بحرارة على جهدها وتجوالها معي، وغادرت التل من البوابة الثانية الخلفية، وقررت مع لطف الجو أن اعود لنابلس وتحديدا لمركز حمدي منكو سيرا على الأقدام رغم طول المسافة، لكني تمتعت بمشاهدة هذا الجمال والعديد من المشاهد الجميلة والبيوت التراثية موثقا اياها بعدستي، كي ألتقي بالمركز د. لينا الشخشير لأكمل معها البرنامج المقرر لهذه الزيارة لنابلس من ضمن مجموعة زيارات قمت بها للمدينة لتوثيق ذاكرة المكان بقلمي وعدستي وتجولت بما يقارب من 80 موقعا تراثيا وتاريخيا، وهذه الأمكنة التي لم أكتب عنها في الحلقات الماضية ستكون مجال حديثي في الحلقات القادمة إن شاء الله من ذاكرة نابلس. 

   صباح معقول في عمَّان بعد انتهاء “مربعنية” الشتاء والبدء في “الخمسينية” الأدفأ نسبيا، أتمتع بالشمس في شرفتي العمَّانية بعد ان تناولت افطاري وأعددت قهوة الصباح، أستعيد ذاكرة جولاتي في نابلس “دمشق الصغرى” مستمتعا بزقزقة عصافير الدوري وهديل الحمام وهي تأكل الوجبة الصباحية التي أضعها لها، أحتسي قهوتي مع شدو فيروز: “ أرضنا أنشوة الأزمان سخية الغلال عميقة الإيمان، أرضنا أنشودة الأزمان للخير و الجمال تموج الألحان، مواكب مواكب تنادي على طريق الحق و الجهاد، مواكب تقول يا بلادي أمضى إلى فجر لنا نديان”، فأهمس: صباح الخير يا عمَّان، صباح الخير يا وطني.. صباحكم أجمل.. 

“عمَّان 2/2/2021”

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*