د. عبد الهادي أحمد الفرطوسي
رئيس اتحاد الأدباء في النجف – العراق
غاية هذه الدراسة الكشف عن المعاني الخفية في النص كما رسمتها الذات المنتجة له، ومن ثم الوصول الى العلاقة الجدلية بين النص والواقع الاجتماعي ومدى التأثير والتأثر بينهما.
يتحقق ذلك من خلال قراءتين:
قراءة تفسيرية محايثة، وأخرى تأويلية تربط النص بالواقع الخارجي وتدمجه فيه.
وابتداءً من عنوان النص والمقطع الاستهلالي نستطيع القول أن الفضاء، يشكل المستوى الأهم، من بين المستويات السردية الذي يمكن الاشتغال عليه في مجال القراءة المحايثة لهذا العمل، ولنتذكر أن الفضاء يأتي مرتبطا بتقديم الشخصيات، وهو الذي يوكل إليه مساعدة القارئ على فهم الشخصية بحسب كروتشاني[1]، وأنه لا يتشكل إلاّ باختراق الأبطال له بحسب د. حسن بحراوي[2]، والأمر يجرنا إلى اعتماد اشتغالات الجسد وهو يخترق الفضاء، ولأجل إدراك المقولات الأساسية في العمل لابد من الانتباه الى الأحداث ضمن علاقتها بالفضاء والشخصيات لإدراك تلك المقولات:
يتكون العنوان من اسم واحد معرف بأل ” الضباب” وهو بذلك يوحي بالعتمة والضياع وغياب الرؤيا الواضحة، ومعلوم أن العنوان هو أحد المفاتيح التأويلية، كما يعتقد إمبرتو إيكو، ويضيف بأن العنوان تدخل مبالغ فيه من لدن المؤلف[3]، لكنه لا يمكن أن يفهم منقطعا عن نصه، ولا يؤدي وظيفته الإشارية إلا من خلال العلاقة بينه وبين نصه[4]، لذا فلنا عودة الى العنوان بعد استكمال قراءة النص، فإذا عدنا الى المتن وجدنا التقابل جليا بين فضائين متضادين فضاء ضبابي وفضاء مشمس، يقترنان بزمانين متقابلين، الحاضر مقترنا بالفضاء الضبابي، والماضي مقترنا بالفضاء المشمس، من جهة أخرى تكشف الأحداث عن مقولة ذهنية مولدة واحدة في النص هي مقولة الصراع بين الحب والعدوانية، تفضي الى مقولات ثانوية لاحقة، ثم نجد مقولة الحب ترتبط بالفضاء المشمس ومقولة الكراهية ترتبط بالفضاء الضبابي.
أما على مستوى الشخصيات فنجد العمل يقدم نمطين من الشخصيات”
النمط الأول ينتمي الى قطب الحب ويتمثل بشخصيتين معا، البطل الراوي وحبيبته وهما الشخصيتان المهيمنتان أو البطلان بالاصطلاح السردي، ويتميزان بأن عليهما تنعقد الأحداث، فيكون الذكر راويا والأنثى مرويا له، وبموجب ذلك يتأسس بناء النص وتتطور حبكته، كما يتميزان بتقديم وصف دقيق لملامحهما.
النمط الثاني وينتمي الى قطب الكراهية، ويتمثل بشخصيات كثيرة من بينها الحارس والحشد الكبير الذي يحمل المسدسات، وأبو الفتاة وأمها، وأخيرا العاملون في المستشفى وفي مقدمتهم الطبيب، بهذه الصورة تتكون هندسة النص، ويمكن أن نعبر عن هذه الهندسة بالخطاطة الآتية:
فضاء ضبابي فضاء مشمس
الآخرون العدوانية – الحب البطلان
الحاضر الماضي
إن التقابل بين الفضائين يكشف في طياته التقابل الباشلاري بين الفضاء الأليف والفضاء المعادي، وكما نعلم أن الفضاء الأليف يحيل على بيت الطفولة دائما، فأي طفولة يحيل عليها الفضاء المشمس هنا؟؟ أهي طفولة البطلة ام طفولة البطل أم طفولتهما معا؟؟
نؤجل الإجابة الى حين.
ولكن لنتذكر أن الفضاء المشمس ينتمي الى ماض قديم، تؤكد ذلك جملة الاستفهام ” هل تذكرين موسم قطاف الحمضيات؟” صيغة الاستفهام هنا توحي بالقدم البعيد، الذي يحتاج الى تذكير، والتذكر قد يتحقق وقد لا يتحقق، وتحققه يدعو الى الفخر والتباهي، يقول النص: ” أذكر تماما متى بدأت قصة عشقنا, كما أذكر تماما عندما أنهاها الآخرون” من هم الآخرون؟؟ إنهم الحارس وألئك الذين “يحملون المسدسات ويصوبونها ” …. وحشد كبير يساعدونهم، هؤلاء الأعداء يتحدون بالفضاء الضبابي الى درجة التماهي، فبعد أن يروي النص كيف قتلوا البطلة يضيف ” لا تدعي الضباب يأخذكِ مني!”
قلنا قبل قليل أن مقولة الصراع بين الحب والعدوانية، تفضي الى مقولات ثانوية لاحقة، إن تلك المقولات قد تجسدت في النص بصورة جمل قصيرة عابرة، وأحداث متناثرة:
أول تلك المقولات التقابل بين عالم الطبيعة وعالم الحضارة، هكذا نجد موسم قطاف الحمضيات يرتبط بعالم الطبيعة في طفولة الإنسانية الأولى في مرحلة جمع القوت قبل أن يتلوث الإنسان بعهر الحضارة، يوم كانت الحياة كلها لهوا لذيذا: ” كنا قد تخطينا عشرات الأشجار ونحن نلهو, كانت الأشجار شاهدة على عشقنا, اختبأتِ مني خلفها لكني أستطعتُ الامساكِ بكِ, تداركتِني” في العصر المشمس الذي يصفه النص نقرأ حديثا طويلا عن الجسد: الظهر والشعر والخدان والشفاه ولهاث الصدر وتعرق الوجه واحمراره تحت أشعة الشمس……. ” أسندتكِ وظهركِ الى الصندوق العملاق, …, جمعتُ شعركِ الأصفر بين كفيّ, رفعتهُ الى أعلى, تنهدتِ, قرّبتكِ اليّ, لهثتِ, فركتُه بأناملي، أردتُ استخلاص الذهب منهُ, كم أحببتُ شعركِ الطويل! أصريتِ على اللهاث, لهثتِ عدة مرات وأنا ألهو بشعركِ, وأنتِ تقتربين وأنا أبتعد عن وجهكِ, تلهثين وأبتعد,….” لكن هل كان ثوب البطلة الشقراء طويلا أم قصيرا؟؟ عريضا أم ضيقا؟؟ بأكمام أم دون أكمام؟؟ … لا جواب. شعرها كان طويلا بلون الذهب ولكن ما شكل تسريحته وما شكل الدبابيس والقراصات التي ترصعه… لا جواب. لماذا؟؟؟ لأن الثياب والأزياء وتسريحات الشعر جزء من العصر الضبابي عصر الحضارة، هكذا يصير الفضاء المشمس رديفا لعصر الفطرة والطبيعة، والفضاء الضبابي رديفا لعصر الحضارة، عصر “أعمدة الكهرباء التي أصبحت الآن خابية” .
والمقولة الثانية تتمثل بالتقابل بين المجتمع الطبقي والمجتمع اللاطبقي، في العصر المشمس كانت ألوان البشرة الإنسانية لا تعني أكثر من تناسق تشكيلي لما رسمته ريشة الطبيعة، هكذا يرتسم سواد بشرة البطل مقابل شقرة البطلة، كمظهر زخرفي يزين الحب وممارساته، يصرح البطل بذلك بعد وصف كنائي طويل لممارسة الحب التي حققها مع البطلة فيقول : ” كم كان جميلا تلاقح اللونين الأبيض بالأسود”
ثم يدخل العصر الضبابي بدخول الحارس مسرح الأحداث، ويبدأ ابتعاد الحبيب عن حبيبته: ” وها نحن نفترق الآن كغريبين” وتتغير دلالة الأوان، فيصير السواد علامة على العبودية لا غير: ” لم أكن أهلا لكِ لأني أسود ! فمكاني العبودية لا غير, لا يحق لي كما يحق للرجل الأبيض والأصفر والأحمر, أنا زنجي, أنا أسود, أنا عبد, أنا…”
ربما آن الأوان أن نجيب على السؤال الذي أجلنا الإجابة عليه: “أي طفولة يحيل عليها الفضاء المشمس هنا؟؟”
في ضوء ما تقدم نستطيع القول ان الفضاء المشمس يحيل على طفولة المجتمع الإنساني ألا وهو المجتمع الأمومي، مجتمع المشاعية الأولى، ويأتي دخول الحارس مسرح الأحداث علامة على الانقلاب الذكوري، وولادة المجتمع الطبقي، بما يتضمنه من قمع وعدوانية للحب وتقنينه وفق ضوابط جديدة،
هكذا تبرز مقولة ثالثة تحيل على ظهور الدولة ومؤسساتها القمعية ودورها في ترسيخ نظام العائلة البطريريكية، فالحارس لم يكن وحده، وإنما كان مؤيدا من ألئك الذين “يحملون المسدسات ويصوبونها” كناية عن الجيوش والشرطة وأجهزة القمع التي تحمي الطبقة الحاكمة، ومعها الأسرة البطريركية التي قتلت الحب في عصر طفولة الانسانية.
المقولة الرابعة تحيل على الوظيفة التي تؤديها القيم الأخلاقية في ترسيخ نظام العائلة البطريركية، التي كرست لقمع الحب ورغبات الجسد الفطرية، تلبية لرغبة الرجل المتسلط:
لقد تآمروا على قتلنا معا, عرفتُ بذلك …”
والمقولة الخامسة تحيل على هيمنة التفكير الكهنوتي وتسخيره في خدمة الهيمنة الطبقية، نكتشف ذلك من خلال اعتماد منهج بيير زيما الذي وجد في دراسة اللهجات الجماعية الطريق الوحيد لشرح وظائف الأيديولوجيات في الرواية، هكذا تبرز اللهجة الكهنوتية على لسان الطبيب، وهو يقول:
“- الحمد لله, لقد كتب الله لكَ عمرا جديدا يا أيها الشاب الأسود, احمدهُ, لقد أعدناكَ من الموت …”
نقرأ في عبارات الطبيب فلسفة تقترب كثيرا من الفكر المرجئ، الذي يوكل كل الأفعال الى الإرادة الإلهية نافيا دور الإنسان في فعل الخير أو الشر، ومن ثم يصور المظالم التي يوقعها الأقوياء على الضعفاء نعما يمنحها الله لعباده داعيا إياهم الى أن يحمدوا الله على ما أنعم عليهم، تلك هي الأيديولوجيا السلطوية التي تبرر أفعال السلطة الحاكمة والتي كانت في نظر معلمي الماركسية أداة لتضليل الوعي وتزييفه.
لا ترد هذه الأيديولوجيا على لسان كاهن أو رجل دين، وإنما تأتي محمولة على شخصية الطبيب، لتقف في مقابل أيديولوجيا مضادة تأتي محمولة على شخصية البطل الراوي
وحين نعود الى خاتمة القصة سنجد البطل يتعرض للضرب على يد الفريق الطبي:” انهم يضربونني, كفوفا متتالية على وجهي, ويحكم, إنكم توجعونني, أني أحس بالوجع!
لم يكتفوا بالرصاص الذي اخترق جسدي, مُزق وسال دمي, غمرتني الدماء وامتلأت الأرض به, لقد كنتُ سعيدا بذلك, سعدتُ لأني أدركتُ أن دمي لم يكن أسودَ!
لماذا تنهالون عليّ ضربا؟ أرجوكم, فأنا لا أحتمل الألم, ما زلتُ مريضا بالعشق,”
ونعلم أن الضرب من وظائف الشرطة وأجهزة القمع لا من وظائف الأطباء، ولعلنا تلمس في هذه التقنية علامة على تضافر الجهود وتداخل الوظائف من أجل تكريس النظام البطريركي فيؤدي الطبيب وظيفتي الكاهن والشرطي إضافة الى وظيفته، ولنتذكر ان انجلز قد أشار الى البنى الفوقية التي تشكل النظام السياسي الذي تقيمه الطبقة الضافرة وانعكاسها في عقول المشتركين بها وتطورها وصيرورتها نهجا من العقائد[5]،
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
لقد انتهى العمل بموت البطلة وبقاء البطل، وذلك كناية أخرى على تغييب المرأة الكلي في ظل المجتمع البطريركي، وتحولها إلى وسيلة لإشباع رغبات الفئة المتسلطة من المجتمع، يكشف ذلك المقطع الآتي :” أراكِ يا مُنية الروح, تقشرين برتقالة لغيري! عيناكِ معهُ, لكن أدركِ قصدكِ من كل هذه النظرات, إنها تعود لي. تقدمينها له وأعلم أنكِ تقصدينني. تطعمينهُ وتأكلين, الغصّة تمنعكِ من ابتلاعها. تخرجين, تتجهين اليّ ….”
من المعلوم أن قيام العائلة البطريركية قد اقنرن بولادة ظواهر أخرى في مقدمتها ظهور الرق بوصفه نظاما يبيح للسيد ان يمارس الجنس مع ما يشاء من الجواري، وظهور مؤسسات البغاء بمختلف أشكالها الى جانب العائلة التي كثيرا ما يتم فيها الزواج دون أن يكون للمرأة رأي باختيار زوجها، وإن كان لها رأي فسيكون لاعتبارات بعيدة عن الحب، ذلك ما أشار إليه المقطع السابق، وما عناه موت البطلة، ولكن بعد ما ماتت البطلة وبقي البطل حيا، هل شكل هذا البطل علامة على المجتمع الذكوري القائم؟ … كلا ، البطل هنا – كما في أغلب أبطال القصة النسائية – هو الحبيب الحلمي، الذي لا وجود له إلا في مخيلة المرأة، هو الرجل الكامن في رحم المجتمع الأمومي، غيبه الانقلاب الذكوري كما غيّب المرأة تماما.
صورة الاتصال الحميمي بينه وبين البطلة تحصل بالتصاقهما بصندوق عملاق: “أسندتكِ وظهركِ الى الصندوق العملاق, مليء بالحبات الصفراء ” والصناديق – بحسب باشلار- ” أدوات لحياتنا النفسية الخفية[6]، وهي “ملأى بضجيج الذكريات الأخرس”[7]، وهي “مساحة أليفة لأنها مساحة غير متاحة للجميع”[8]، هكذا لم يكتف الراوي بالسؤال “ هل تذكرين موسم قطاف الحمضيات؟ ” إشارة الى قدم الحدث، بل أسنده بالصندوق الذي يحيل على “ما لا تعيه الذاكرة من الزمن”[9]، وبهذا يتأكد انتماء البطل الي الماضي البعيد. الماضي الذي اكتسب صورة أسطورية فصار يكتسي بريش ناصع ويطير في الهواء , “جسدي أصبح بخف ريشة, انني طائر محلق, أرتدي ريشا ناصع البياض, خذيني اليكِ حبيبتي, فأنا أقترب”.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ما تناولته الصفحات السابقة قد شكل دراسة محايثة للنص ، ويبقى أمامنا وضع النص في سياقه الاجتماعي والتاريخي وربطه بالذات المنتجة له، وهي بحسب المنهج التكويني تكون ذاتا عبر/ فردية- (Transindividuel) (جماعية) [10]، تمتلك تطلعات وعواطف وأفكارا مشتركة بحكم ارتباطها بروابط اقتصادية واجتماعية مشتركة تفعل الكثير في تكوين أيديولوجيتها، إن مجموع التطلعات والعواطف والأفكار التي يلتف حولها أفراد تلك الجماعة يطلق عليها جولدمان مصطلح “رؤية العالم” التي يخلق بوساطتها المبدع عالما متخيلا تطابق بنياته البنيات التي تنزع إليها الجماعة، فيعي أفرادها ما كانوا يفكرون فيه أو يحسونه أو يفعلونه دون أن يعرفوا دلالاته معرفة موضوعية[11].
إن “رؤية العالم” قد تكونت لدى الذات المنتجة لهذا النص خلال النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بلغ الصراع أوجه على المستوى العالمي، بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي مصداقا للصراع الطبقي، وبين الحضارة الغربية المتطورة والحضارة الشرقية المتخلفة مصداقا على الصراع بين الحضارة والفطرة، وقد أدت تلك الأوضاع الى انتشار الفكر الاشتراكي، والوعي العميق بمشكلات المرأة عبر التاريخ، وتكون النظرة الشمولية العلمية في إدراك تلك المشكلات، على كل المستويات التي كشفتها الدراسة المحايثة، من هنا فإن المقولات الآنف ذكرها جاءت انعكاسا لهذا الوعي وتكريسا له، ولما كانت الأيديولوجيا المهيمنة على الذات المنتجة للنص تقر بأن تلك المرحلة كانت مرحلة انهيار الامبريالية وانتصار الاشتراكية، كان الأمل يملأ الذات المنتجة في حتمية حصول التغيير وضرورة النضال من أجل ذلك، من هنا كان أصرار البطل كبيرا على مقاومة الأعداء، يتجسد ذلك بقول الراوي: “ لن أدعهم يطلقون النار عليكِ مرة أخرى” وقوله : “ سنلتقي بعيدا عن الجميع, سأحميكِ هذه المرة, لن أستسلم للرصاص كما استسلمتُ سابقا !“.
وحين نعود الى موضوعة الفضاء، وعلاقتها بالتأويلات السابقة، تتأكد صحة التأويلات المذكورة من خلال ارتباط الجمال الأنثوي بالشمس، يقول الراوي. ” ربما بحثتِ عني! لكنكِ ربما كنتِ تبحثين عن الشمس كي تعيد صفرة شعركِ إليكِ!” هكذا تبرز وجهة نظر الراوي متضمنة الأمل في عودة العصر المشمس ثانية.
كانت تلك الأفكار تعبر عن الوعي القائم لدى الذات المنتجة للنص، وهنا لا بد لنا أن نتذكر أن جولدمان قد قسم الوعي الذي تتأسس عليه “رؤية العالم” على قسمين: الوعي القائم والوعي الممكن، فالأول هو الإحساس بظرفية واحدة تجمع بين أفراد الجماعة، وهو وعي متطور في بنيات متغايرة ومتلاحقة، بينما يكون الثاني تصورا لما ينبغي أن يكون، أي تصور إمكانية تغيير الواقع القائم وتعديله على وفق ما تراه الجماعة محققا للتوازن المنشود[12]. إن فكرة الوعي الممكن قد تأسست لدى جولدمان بناء على واقع الأدب في مرحلة الحداثة، لكن حين دخل العالم عصرا جديدا، بعد ظهور البيروسترويكا ، كان لابد للوعي الممكن أن يأخذ صورة جديدة، فوجهة نظر الراوي الذي ينتمي الى مرحلة الحداثة، والتي تضمنت الأمل في عودة العصر المشمس ثانية، تقمعها مقصلة البيروسترويكا، فتحل محلها وجهة نظر المؤلفة التي تتمي الى مرحلة ما بعد الحداثة، والتي تتضمن اليأس من عودة العصر القديم، تشير الى ذلك الجمل الآتية: “ أصبحت خطواتكِ بطيئة! أين تذهبين, إليّ ؟ لا أعتقد! فقد دخلتِ مكانا مهجورا, يشبه القبر.”
إن هذا التحول في وجهة نظر الراوي، يتضمن تعبيرا عن تحول أيديولوجي عميق، في وجهة نظر المؤلفة ومن ثم وجهة نظر الذات الجماعية المنتجة للنص، تمخضت عن ظهور البيروسترويكا على المستوى الأيديولوجي، ثم قيام النظام العالمي الجديد، من هنا كان تحول وجهة نظر الذات الجماعية المنتجة من حتمية انتصار الاشتراكية وقيام مجتمع لكل حسب حاجته ومن كل حسب قدرته الى حتمية بقاء المجتمع الطبقي المرتبط بالهيمنة الذكورية وازدياده قهرا واضطهادا., ولعل دراسة المستويات الأخرى للنص ستكشف اصطراع وجهات النظر بشكل أدق.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى علاقة العنوان بالواقع الذي تعيشه الذات المنتجة للنص على كل المستويات، إن حالة من الضبابية والعتامة قد هيمنت على عصر ما بعد الحداثة على المستوى النفسي والسياسي والأيديولوجي ….كما تجسد في النص المدروس، وامتد خارج النص ليشمل كل المستويات المعرفية ويصل الى العلوم الصرفة كالفيزياء والرياضيات والطبيعة، يتجسد ذلك بولادة ميكانيكا الكوانتم الذي يعبر عن قوانين الطبيعة في عالم مصنوع من جسيمات حاضرة في كل مكان وهي غير قابلة للإدراك الحسي … هكذا تتشخص حالة إعتام تجعل رؤية العلم ضبابية غائمة تستدعي أشكال الحيرة الفلسفية الحادة التي نشأت في سياق ابستميولوجيا الكوانتم[13]، ان اختيار “الضباب” عنوانا لهذا النص يأتي- في بعض دلالاته – تعبيرا عن هذه الابستميولوجيا التي شكلت سمة مميزة للعالم في عصر النظام العالمي الجديد.
المصادر
* فضاء المسرح: غابريتزيو كروتشاني : ت – أماني فوزي حبشي: القاهرة : ط1 : 2000
- بنية الشكل الروائي: بنية الشكل الروائي : حسن بحراوي : المركز الثقافي العربي ط1 –
حاشية على اسم الوردة : امبرتو إيكو : ت سعيد بنكراد : وزارة الثقافة المغربية : منشورات علامات : 2007.
ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان القصصي: محمود عبد الوهاب: دار الشؤون الثقافية: بغداد: 1995.
: مختارات :4 : ( رسالة أنجلس إلى يوسف بلوخ في 1895 ) : ماركس – أنجلز :دار التقدم – موسكو 1970 .
- جماليات المكان: جماليات المكان : جاستون باشلار : ت غالب هلسا :بغداد :1980 .
- إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر: 3 (البنيوية التكوينية بين النظرية والتطبيق) : د. محمد خرماش :فاس:مطبعة أنفو – برانت: : ط1 : 2001 .
فلسفة الكوانتم (فهم العلم المعاصر وتأويله): رولان أومنيس: ت أ.د. أحمد فؤاد باشا: سلسلة عالم المعرفة: الكويت: 2008.
[1] ينظر : : بنية الشكل الروائي: فضاء المسرح: 75.
[2] ينظر : : بنية الشكل الروائي: 29 .
[3] حاشية على اسم الوردة : امبرتو إيكو : ت سعيد بنكراد : وزارة الثقافة المغربية : منشور ات علامات : 2007: 18.
[4] ينظر : ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان القصصي: محمود عبد الوهاب: دار الشؤون الثقافية: بغداد: 1995: 9.
[5] ينظر : مختارات :4 : ( رسالة أنجلس إلى يوسف بلوخ في 1895 ) : ماركس – أنجلز :دار التقدم – موسكو 1970: 171 – 172 .
[6] جماليات المكان:111.
[7] نفسه:112 .
[8] نفسه : 11.
[9] جماليات المكان:117.
[10] ينظر : دراسات في النقد الحديـث: فصل (سوسيولوجيـة الأدب)، كما ينظر : إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر:
3 (البنيوية التكوينية بين النظرية والتطبيق) : 26 – 27 .
[11] ينظر: إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر: 3 (البنيوية التكوينية بين النظرية والتطبيق) : 7 – 22 .
[12] ينظر: إشكالية المناهج في النقد الأدبي المغربي المعاصر : 39 – 40 .
[13] ينظر: فلسفة الكوانتم (فهم العلم المعاصر وتأويله): رولان أومنيس: ت أ.د. أحمد فؤاد باشا: سلسلة عالم المعرفة: الكويت: 2008 : 121 .