إضاءة في ديوان ” ويطول الانتظار” للشاعر: د. نبيل طنوس. – بقلم محمد علي سعيد.

أهداني مشكورا صديقي المترجم والناقد والشاعر والمحاضر: د. نبيل طنوس، ديوانه الأول، ووعدت أن أبدي رأيا فيه الديوان وكذلك في أسلوبه في النقد، وها أنا أفي بوعد واحد، وآمل أن يتوفر لي الوقت والجهد والصحة لأفي بالوعد الثاني.

العنوان: وهو عتبة النص الأولى ويتكوّن من مكونين: النص الفني وهو اللوحة والنص الكلامي، ويعتبره الكثيرون من يتحدث نقاد الحداثة أنه أبرز النصوص المرافقة/ المصاحبة/ الموازية لنصوص متن/ متون العمل الإبداعي. إن العنوان لا يكون اختيارا اعتباطيا أو بالمصادفة، بل يأتي بعد جهد في التفكير وتردد حتى قرار الاختيار والاستقرار.

العنوان الفني، معطيات اللوحة ساعة على عامود في الطرف الأيمن للغلاف، يحدد عقرباها الوقت (الخامسة إلا ربع)، ورجل يجلس على مقعد يعتمر قبعة حاني الرأس، ويتكئ بيديه المتشابكتين على عصا. وخلفية اللوحة اللون الأزرق الهادئ وفيه ظلال.

العنوان الكلامي: “ويطول الانتظار”، عنوان دلالته احتمالية منفتحة الدلالات وليست قطعية محددة الدلالة ولا تحتمل غير دلالتها، فيها اعتراف أنه بدأ الانتظار من قبل ولما يزل ويبدو أنه سيبقى لأن الفعل المضارع يطول يفيد الحاضر والمستقبل غير المرئي، بينما الفعا الماضي طال، يفيد الماضي والحاضر مع التوقع بأنه سينتهي.، ويرتفع السؤال: ماذا ينتظر؟ إنه ينتظر أمرا مهما جدا له تأثير عميق، لدرجة أنه يحسب الدقائق (بدليل وجود الساعة) وتحديد الوقت يكشف لنا عمق العلاقة القوية والحميمية بين تحديد الساعة وهذا الأمر الذي حدث له أو ينتظره. كما أن معطياته من انحناءة الرأس ونظرة التأمل المتبصرة وتحديقه الى الأسفل وضغطه على العصا، ترمز الى أنه يعيش حالة من الحزن العميق والقلق الوجودي، وهذه الخلفية توفر مساحة لخيال شرود ذهنه وانثيالات مشاعره وأفكاره. وشعوره بأن عقارب الساعة تسير الى الوراء.

نجح العنوان بدليل الإثراء المتبادل بين مكونيه الفني والكلامي، وقاسمهما المشترك وهو الزمن (الانتظار يقع في المجال الزمني) فجاءت الساعة أعلى منه موقعا دلالة طول الانتظار، وإذا عرفنا بأن فكرة الغلاف للشاعر نفسه، نجزم بالعلاقة المباشرة بينه: إحساسا ومشاعرا وعقلا وفكرا وبين الانتظار، وجاء اسم الشاعر في الأعلى دلالة على معنوياته العالية رغم ما يعيشه من حالة من الاكتئاب والإحباط وعذاب الانتظار الطافح حزنا صامتا وعميقا والمفاجئ في احتمالاته..

إن قراء تأملية في عنوان الغلاف نكتشف طبقة أخرى وهي الثالثة (فالأولى هي ذكر المعطيات حرفيا، والثانية ما تطرقنا اليه سابقا)، والثالثة هو التداخل بين الزمن الحياتي/ الواقعي المتمثل في الساعة وتحديد المكان الجغرافي (المغار/ الجليل) والزمن النفسي الشعوري الذي تشي به حالة المنتظر وما وصلت اليه من إحساس بالوحدة والاغتراب والقلق الوجودي.

والانتظار سلوك يعيشه أو يمارسه كل الناس وفي كل الأوقات بوعي أو بغير وعي، ولكن لكل انسان حالته الخاصة في انتظاره الخاص،

سمحت لنفسي أن أستعين (هذه المرة) بنص مواز آخر وهو التظهير، وهو ما أثبته الشاعر على الغلاف الأخير، فالشاعر تنازل عن إثبات المألوف كنص من شعره، أو صورة له مع تعريف مختصر له، وهذا التنازل عن بعض من ذاتيته ليستبدله بنص لذات أخرى، ليس بالأمر السهل بل يأتي بعد تردد ونتيجة تفكير عميق لتحقيق هدف ما في صدر الشاعر. وهذا التنازل يعكس العلاقة الحميمية والمتداخلة والمتماثلة فكرا ومشاعر وفهما. هذا ما يعنيه التنازل بصورة عامة (بغض النظر من الشاعر/ المبدع ومن المستبدل عنه)، وأقرأ وإذا بالنص لمحمود درويش (من كبار شعراء العصر وعلى المستوى العالمي) وحول موتيف “الانتظار”، ودرويش يداوي نفسه لينسى الانتظار وعذابه، بتأخير عقارب الساعة ويصاهر الدوري فلا يسأله أحد “ماذا تريد”.

إن اثبات لوحة الساعة أثْرت النص الشعري، ووجود الكتب في أسفل الصفحة كانت مراعاة للنظير، فإذا درويش صاهر الدوري لينسى فلا شيء ينتظره، ولكن شاعرنا يصاهر الكتب ليبقى ولديه ما ينتظره ولا يمكنه أن ينسى. إن هذا التظهير يؤكد أن شاعرنا متأثر جدا بمحمود درويش وأنه لا شك يكتب بتوجيه من بوصلته بوعي أو بغير وعي.

 

توجد علاقة جدلية إثرائية بين العنوان والنص عندما يكونان جيدين، وعليه سأبحث في النصوص عن شظايا تلميحات العنوان بمكونيه، وسأقف على روح الشعر الدرويشي، ( خاصة  وإن النقاد قد قسموا الشعر العربي الحديث الى نمطين في الأساس: النمط الدرويشي والنمط الأدونيسي.)

قبل البدء بنصوص المتون الشعرية للقصائد، يتطرق الشاعر الى موتيف الانتظار ويثبت ثلاثة اقتباسات لكل من: إبراهيم نصر الله وواسيني الأعرج ومحمود درويش ، ولم يسلم الإهداء من اقتباس لنابليون بونابارت عن الانتظار. مما يؤكد أن موتيف الانتظار بوجوهه المتعددة قد تذوت في كل حالات الشاعر النفسية وأصبح يلازمه ويعيش معه كخبزه اليومي ولا يستطيع أن يتخلى عنه فمنه (كما الخبز)، يستمد سبب البقاء وسر الصمود.

 

منذ القصيدة الأولى ” من الشرفة الى الذروة” يصرح الشاعر أنه في حالة انتظار، فيقول: “… وحدي أتدثر بطيفك… لأكون جاهزا لاستقبالك…” تبدأ القصيدة بنص وصفي سكن في خارج الغرفة. يراه ويصفه من خلال الشرفة وهي همزة وصل في التماس بين المكان العام والمفتوح دلالة الحرية والغرفة وهي المكان الخاص والمغلق، وشاعرنا لوحده يتدثر بطيف حبيبته وينتظرها بعد أن أعد المائدة والنبيذ والموسيقى كخلفية صوتية تناسب اللقاء، وهذا نص وصفي ساكن آخر في الغرفة. يحاول الشاعر أن يوفر جوا مناسبا لمناسبة اللقاء جوا مضادا لحالة الطبيعة خارج الغرفة، في الخارج عاصفة الطبيعة ويعدها بعاصفة أخرى بينهما في داخل الغرفة، والاستماع الى ضربات القدر في السمفونية الخامسة حتى الوصول الى السعادة وهي الضربة الرابعة، وبعدها بالمكوث هناك حيث النشوة في ذروتها. اعتمدت القصيدة الثنائية المتضادة وعلى درامية يربطها خيط المبنى وخط الفكرة في وحدة عضوية وكثافة تعبير.

نجح الشاعر في المزج المتداخل بين حالته النفسية العاصفة وحالتي الطبيعة والحبيبة العاصفتين أيضا، وكذلك توفير الجو المناسب لهدف اللقاء وما سوف يترتب عليه حين حضور الحبيبة، رومانسية النور الخافت والنبيذ المحرر لقيود العقل والخيال، وما تثيره الموسيقى في ثلاث حالات، واختيار الشاعر لهذه السمفونيات كان واعيا وعاكسا لثقافته. إنها حقا، قصيدة ناجحة جدا، لأ نها لا تستسلم من المعاشرة الأولى.

يتطرق الشاعر تلميحا أو تصريحا الى موتيف الانتظار في العديد من قصائد الديوان. فمن عناوين القصائد التي تلمح أو تصرح بأنها ستتحدث عن الانتظار: “لا ينتظر شيئا” و ” ترقب” والأرض حبلى”  و “كان، هل يعود” و ” ما زلت أحبك” و” بعيد قريب” و “حنين” وغيرها، وهناك أبيات في متن القصيدة تشي أن القصيدة تتطرق الى موتيف الانتظار، ومنها:  الصبر مفتاح الفرج. ص 33.

قراءة متأنية للديوان تشي لنا أن الشاعر من عشاق الشاعر محمود درويش، فقد اختاره دون الآخرين وخصه في النصوص الموازية ثلاث مرات: مرة في ص ، ومرتين في التظهير حيث فضله على نفسه واستبدلها به، (ولقد ترجمه الى العبرية كثيرا، وكتب عن شعره العديد من الدراسات، وخصه في كتاب مستقل أسماه “اقتفاء أثر الفراشة/ دراسات في شعر محود درويش”  صدر عام 2019) وشاعرنا ن. طنوس انتقائي جدا، فهو يترجم القصيدة التي تعجبه وتدهشه، (أعرف هذا عن قرب، فأنا من عشاق درويش من زمن بعيد، وكنت من القلائل الذين دافعوا عن هجرته ، في حين هاجمه الكثيرون (ومن رفاقه) بحجة أن قيمته تنبع من موقعه، فرد عليهم حين وصل القاهرة: غيرت موقعي ولم أغير موقفي. ولكني لا أريد أن أعتمد في استنتاجاتي على معرفتي المباشرة من الشاعر، بحكم صداقتي به).

شاعرنا لم يتوكأ كثيرا على زخارف جماليات اللغة وخاصة بلاغة علم البديع، بدليل قصيدته النثرية لنجد فيها السجع ولا موسيقى الحروف ولا جملة التشبيه التقليدية ولا أدوات الربط وغيرها. (ويحضرني ديوان درويش “ورد أقل” عام 1986، وقد صرح من خلال العنوان ونصوصه، أنه سيستخدم الورد/ جماليات اللغة أقل مما كان)، وعندما نقرأ مثل هذا الأسلوب الشعري نشعر وكأننا نقرأ نثرا، فيتداخل الاسلوبان: النثر والشعر، تقرأ أحدهما فتشعر بروح الآخر، هذه الظاهرة تطرق لها الصديق الناقد: اد. سليمان جبران في كتابه “نظم كأنه النثر- عن الشاعر: محمود درويش. لم أجد مصطلحا لهذه الظاهرة فاجترحت بالنحت مصطلح الشعثرة (شعر+ نثر= شعثرة)، وقد نال تقدير الكثيرين من الأدباء.

شاعرنا يستخدم المألوف من المفردات ولكنه يربط فيما بينها بعلاقات تكسر توقعات القارئ المنطقية فيثير الدهشة في القارئ، ويستفزه، كما وأنه يأتي بمجازات مبتكرة، وانزياحات حادة الزاوية في معادلة درجة الكتابة، ويعزف على وتر الابداع في مساحة الفهم المغاير لمعطيات النص الحرفي، وتتناسل جزيئيات المضمون العام من بعضها البعض، وتتراسل الحواس في التشبيه، تماما كما محمود درويش، وببساطة، أنت تشعر بروحه الشعرية.

أصدر الشاعر باكورة ابداعه الشعري (ويطول الانتظار) وهو في السبعين من عمره (والعمر إحساس وعطاء) وقد أدركته حرفة الأدب عامة والنقد خاصة، وعليه فهو أكثر قساوة على نصه من أي قارئ. وبدون مجاملة (رغم الصداقة القوية بيننا) فإن الديوان يستحق القراءة أكثر من مرة لأن نصه غالبا ما يكون أكثر من طبقة، وكما قلت من زمن “إن العمل الأدبي الناجح لا يستسلم من المعاشرة الأولى”، وهذا ما حدث لي رغم كوني أتعاطى النقد من حين الى آخر.

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*