تأمّلات
بالعقلِ يُدرَكُ وجودُ الخالقِ عزَّ وجلَّ!
هذه العلبةُ المحكمةُ الإغلاقِ، هذه العلبةُ الّتي تجري بها الدّماءُ، هذه العلبةُ الّتي إذا فتحتَها لن ترى فيها سوى لحمٍ ودمٍ! إنّها جهازٌ عجيبٌ! يعملُ بدونِ كبسةِ زرٍّ، أو اتّصالٍ بالطّاقة! هذا الجهازُ اللّحميُّ الدَّمويُّ، يفكّرُ، يبدعُ، يصوّرُ، يقرّرُ، ويعطي الأوامرَ للأعضاءِ لتقومَ بوظائِفِها، لنشعرَ، ونحسَّ! أليس عجيبا هذا الجهازُ؟ لو أدركَ الإنسانُ قدرةَ هذا الجهازِ -الّذي يسمّونَهُ العقل-على الإبداعِ والخلقِ لعرفَ قدرةَ الخالقِ عزَّ وجلّ!
كم من فنّانٍ مبدعٍ ألّفَ السّيمفونيّات الخالدة؟! كم من لوحةٍ تظنُّها صورةً فوتوغرافيَّةً رُسِمَتْ بريشةِ فنّانٍ؟! كيف اختُرِعَ الكمبيوتَر؟ كيف اختُرِع الهاتفُ الخلويُّ؟! قد تتحدّثُ به مع الّذين يبعدونَ عنكَ مسافاتٍ عبرَ البحارِ والمحيطاتِ، فيردُّ عليكَ الصّوتُ مجيبًا، وكأنّ الشّخصَ بجانبِك! كما أنّكَ تعرفُ كلَّ أخبارِ العالمِ من هذا الجهازِ الصّغيرِ الّذي تحملُه بيديك ولا يتجاوزُ حجمُهُ كفَّ اليد! هل هذا أمرٌ بسيطٌ؟! كيف أوجدوا الذّرّةَ؟ كيف أوجدوا الطّاقةَ وكلَّ ما يعملُ بالطّاقةِ؟! انظرْ إلى الطّائرةِ الّتي تطيرُ في السّماءِ، وتحملُ مئات بل آلافَ الأطنانِ! لا يوجدُ شارعٌ تحتَها ولا خيطٌ يثبّتُها! أليست هذه معجزةٌ؟! أليسَ في هذا قمةُ الخلقِ والإبداع؟! من اخترعَ كلَّ هذا؟ اليسَ ذلكَ الجهازُ الدّمويُّ اللّحميُّ الّذي قام بهذه المعجزات؟!
لقد خصّنا الله بهذا العقلِ ليكونَ وسيلةً ندركُ بواسطتِها عظمةَ الخالق. فقد وهبنا هذا العقلَ لكي يميّزَنا عن الحيوان! هل الحيوانُ قادرٌ أن يبدعَ كالإنسان؟ الحيوانُ يأكلُ ويشربُ، يمشي ويركضُ، يتكاثرُ كما نتكاثرُ، ترضِعُ الأنثى صغارَها كما ترضعُ الأمُّ صغارَها، يولدُ ويموتُ كما نولد ونموتُ…. لكن، أيستطيعُ بناءَ بيتٍ أو قصر؟! أيستطيعُ تأليفَ مقطوعةٍ موسيقيَّةٍ؟ أيتكلَّمُ مثلَنا؟ إذن ما الفرقُ بينَنا وبينَه إذا انعدمَ وجودُ العقلِ؟! فلولا العقلُ لا نستطيعُ أن ندركَ حقيقةَ الوجودِ، فبِهِ يدرَكُ كلُّ شيء!
أتعرفُ الآنَ أيّها الإنسانُ مدى حبِّ الخالقِ لك؟! لقد أتاكَ عقلًا لتدركَهُ به. فأنت مخلوقٌ وخالقٌ في نفسِ الوقت! لا يعرفُ الإنسانُ قيمةَ ما يملكُهُ، فيظنُّ أنَّ وجودَ العقلِ هو من المسلّمات! لقد وهبنا الله هذا الجهازَ لنخلِقَ به الأشياءَ الّتي نحتاجُها، ولنبدعَ بواسطتِهِ ما نعجزُ عن التصديقِ بأنّهُ من صنعِ إنسانٍ عاديٍّ، هذه هي المعجزةُ الّتي نستدلُّ بها على وجودِ الباري جلَّ في علاه!
فما يفعلُهُ الإنسانُ ليسَ إلّا إلهامًا من الباري عزَّ وجلَّ! فهو الّذي يُهدي على كلِّ شيء! ولو أراد ربُّكَ عكسَ ذلك لفعل. ألم تقلِ الآيةُ في سورةِ الكرسيِّ: ” … ولا يحيطون من علمه شيئا إلّا بما شاء…؟!”. فبحكمتِه عرّفكَ بهِ وأرشدكَ إلى طريقِهِ لتعترفَ بوجودِهِ! ليس لأنَّهُ بحاجةٍ إليكَ، وإنّما لحاجتِكَ إليه! فلو أراد لسلبَك هذا العقلَ لتصبحَ كالحيوان! لكنّهُ أحبّكَ أكثرَ من حبِّكَ لنفسِك!
في العقلِ يجتمعُ العلمُ والدّينُ، فيسيرانِ جنبًا إلى جنبٍ في خدمةِ الإنسانِ محبوبِ الله! لم أرَ يومًا أن العلمَ والدّينَ متناقضان؛ بل أرى أنَّ أحدَهما يُكمِّلُ الآخرَ. فالعلمُ هو السّبيل الّذي يدلّنا على الخالق! فمن دونِ العقلِ لا تستطيعُ أن تكتشفَ جوهرَ المادّةِ الّتي تساهمُ في عمليّةِ الإبداعِ والخلقِ والاكتشافِ. لكي تصنعَ سيّارةً أو قطارًا؛ تحتاجُ إلى المعدنِ المأخوذِ من الأرضِ، وحتّى تصنعَ الهاتفَ؛ عليك أن تدركَ خواصَ الموادِ الموجودةِ في الهواءِ، ولكي تنتجَ الطّاقةَ يجبُ أن تعرفَ استغلالَ طاقةِ الرّيحِ والماء، وما هذه الاكتشافاتُ إلّا نعمةٌ من اللهِ على الإنسان، ألهمهُ في اكتشافِها لتسهِّلَ عليهِ سبُلَ المعيشةِ! ولديكَ الكثيرُ من الأمثلةِ الّتي تبيّنُ لكَ أنَّ العلمَ لا يتناقضُ مع الدّينِ ولا يسيرُ ضِدَّهُ!
الإنسانُ خالقٌ فانٍ، لكنَّ ما يكتشفُهُ باقٍ. انظروا إلى التّماثيلِ العظيمةِ الّتي صنعَها فنّانو روما واليونان! إنّها مازالت منتصبةً في المتاحفِ لتكونَ دليلًا على قدرةِ الإنسان على الإبداع! لكنْ… أينَ الّذين صنعوا هذه التّماثيلَ؟ لقد ذهبوا ولمْ تبقَ سوى أسمائِهِم! وهنا تكمُنُ الحكمةُ الإلهيةُ الّتي جاءَت لتقولَ: مهما أبدعتَ ومهما خلقتَ أيّها الإنسانُ، تبقى أمامي لا شيء! أستطيعُ أن أقلبَ لكَ الأشياءَ رأسًا على عقب، وأستطيعُ أن أدمّرَ كلَّ شيءٍ بنيتَه حتّى تعترفَ بوجودي!
انظروا ما حدث في اليابان -أمُّ التّكنولوجيا-في أقلِّ من رمشةِ عينٍ حين هاجَ البحرُ وغطّى اليابسةَ، جارفًا معه كلَّ ما صادفَه في طريقِه من سيَاراتٍ وعماراتٍ وبشرٍ دون رحمةٍ!. لا أزالُ أذكر شّابًّا “تّايلنديًّا” ظَهرَ آنذاك في محطّةٍ “تلفزيونيّةٍ”، عندما رأى الموجَ فوقَه صاحَ بأعلى صوتِهِ وهو يبكي رهبةً: “يا ألله! يا الله!”… وهل يستغيثُ الإنسانُ إلا بربّه؟! فمهما اكتشفتَ وأبدعت، ومهما كبُرتَ وعلوتَ أيّها الإنسانُ، ستقفُ أمام قدرةِ الله عاجزًا ضعيفًا لا حولَ لكَ ولا قوّة!
امال ابو فارس