الــضّباب – دينا سليم حَنحن

أتوغلُ سابحًا في الضّباب، ضبابِ عشقكِ الذي لا ينتهي، أعشقكِ، وأهيمُ بشارع مُلِئ بخطواتكِ، خطواتِ الذكريات، لم يكن عشقنا وهمًا، طالما ما يزال يذكّرني الشارع الضّبابي بكِ، ناهيكِ عن أعمدة الكهرباء التي كانت شاهدة على خطواتنا، والتي أصبحت خابية.

مذ تركتِني، وأنا أعيشُ الضّبابيةَ، هل تذكرين ساعة الفراق؟ لم تلتجئِي لأحد سواي لطلب المساعدة، غمرتِ الشّوارعَ صراخا وبكاء تطلبين النجدة، صورتُكِ، ما تزال موزّعة في عيون الناس، فأصبحتِ بطلة كونية، واتخذكِ العشاق قدوة لهم.

 

الخطواتُ.. ما عادت هي الخطوات، لقد أصبحتُ حبيسَكِ، والذكريات!

أذكر تماما متى بدأت قصةُ عشقنا، كما أذكر عندما أنهاها الآخرون، لن ألومَكِ بعد اليوم لأنك تركتِني وحيدًا، لقد توغّلَ الانتظارُ في أعماق أعماقي، فأدماني، اُغربي عني ودعيني أبحثْ عن حبيبة أخرى، دعيني أشْفَ من ولهي بكِ!

إني أراقب خطواتكِ، خطوة بعد خطوة، لمَاذا ترحلين؟ لماذا تبتعدين، لماذا تقيدينَني؟

أحسُّ بنبض قلبكِ العالي، يأخذني إلى عالمكِ البعيد، وأنتِ لا تدرين، يَخزُني جسدكِ، مثل الإبر، لماذا تتوترين هكذا، دعيني أشعرْ به، ترى ما هذا العالم المختلف الذي أتخبطُ فيه من أجلكِ، أهي الجنة؟ أم ما بين الجنّة والنار.!

أنا معكِ، وجودُكِ يغريني، اِبْقَيْ حيث أنتِ، أحوم حولكِ، تطاردينني كشبح ماهر، عندما أبتعد قليلا يلازمُني الفضاءُ الفارغُ، أخشى من عودتكِ إلى العالم الحقيقي، غُدِر وغُرِّر بنا، وُضِعنا في سلة النّهايات، قطرنا حزنـًا، قطرةً تلوَ القطرةَ، ضاعت منا السنوات، ترى إلى أين سينتهي بنا المطافُ؟ هل سنبقى ننتظرُ داخل هذه السلّةِ المعلّقةِ ما بين الأرض والسّماء؟ آه، كم السّماءُ قريبةٌ من هنا، إننا نلصق بها، هل  تعِين ما أعي؟!

لكنهم يلاحقوننا، يريدون قتلنا، هل ترين ما يدور في الأسفل، إنهم هناك، اُنْظُرِي إلى أسفل، هناك، بعيدًا، ثم قريبًا، اِنْحَنِي قليلا حتى تَرَي ما يدور، هل رأيتِ ما أراه؟ مجموعة مكوّنة من عشرة رجال، أو ربما خمسين وجهًا، يحملون المسدسات ويصوّبون نحونا، بل نحوي أنا، فأنتِ قد غادرتِ الحياة قبلي، إنهم يلاحقونني.

 

أين أذهب وكيف لي بالابتعاد عنكِ، بل كيف أضمكِ؟ بدأتِ تنسلّين، إنكِ تنسابين مثلما تنسابُ أفعى، من بين يدي، تعالي إليّ، لا تبتعدي، ها، لقد أمسكتُ بذيل فستانكِ الأبيضِ، إنه ناعم الملمس، لا تدعي الضّباب يغمرُكِ، فيأخذكِ مني!

لو يلتقي الأحياءُ بالأموات، لو أذهب بروحي إلى السّماء، أو ربما تأتينَ إليّ، إلى الأرض، فأنا ما زلتُ هنا، هذه المرة، سوف أخبِّئكِ داخل قلبي، لن أدعَهم يطلقون النار عليكِ مجددًا، سأقاتل من أجلك، مثلما قاتلتُ عندما هاجمونا في الماضي وأخذوكِ عُنوةً من حضني.

 

ألمحُ وجهكِ في الضّباب، كلما دنوتُ تغمّدني، أقتربُ منكِ، يا إلهي، الضّبابُ كثيفٌ هنا! أخترقهُ، فيحوّلني إلى شبح، أطيرُ في الهواء، يصبح جسدي بخفة ريشة، إنني طائرٌ محلّقٌ، أرتدي ريشًا ناصعَ البياض، خذيني إليكِ حبيبتي، فأنا أقترب.

 

هل تذكرين موسمَ قطافِ الحمضيات؟ تَخْطّينا عشراتِ الأشجارِ، ونحن نلهو، كانت الأشجارُ شاهدةً على عشقِنا، اِختبأتِ مني بينها، لكني اِستطعتُ الإمساكَ بكِ، أدركتني، أسندتكِ وظهركِ إلى الصندوقِ العملاقِ الذي امتلأ بالحباتِ الصّفرِ، جمعتُ شعركِ الأصفرَ بين كفي، رفعتهُ إلى أعلى فتنهّدتِ عميقًا، قرّبتكِ إليّ، لهثتِ، فركتُه بأناملي، أردتُ استخلاصَ الذهبَ منهُ، كم أحببتُ شعركِ الطويلَ! لهثتِ مرات ومرات وأنا ألهو بشعركِ، اقتربتِ، فابتعدتُ، تركتكِ تلهثين، وعندما اخترتِ البقاء قريبا دون حراك، أجّجتكِ، وَلجتُ في نظراتكِ المخدرةِ داخل عيني، أنعشتِ رغبتي في امتلاككِ، كم أردتُ أن نتوحّدَ ذلك النهارَ!.

 

أبتِ الشمسُ أن تغادرَ، أمرتنا، وأرسلت أشعتها الحارقةَ مباشرة إلينا، أصابت الهدف فازداد تألّقكِ، وعندما غابت عنا براءةُ الطفولةِ، اختفينا خلف الأشجارِ الخضرِ، الثّريةِ بحبّاتها الذهبيةِ، رقصنا رقصةً محرّمةً، وغرسنا شتلةً جديدة للذكرى، بقينا على حالنا ذاتها إلى أن ألقت الشمس أشعتها الباهتةَ علينا ساعة الغروب، لفحتكِ نسمة ساخنة، أطلَقَتها الريحُ متعمدةً، احمرّ جسدُك الغضُّ، أما أنا، فبقيت كما أنا، لأني أسودُ اللون، أسودُ الكبد، (زنجيٌّ).

اِحمرّ وجهكِ الأبيض، وتعرّق جسدكِ، سال العرقُ على خديكِ الناعمين، ما سببُ تعرقكِ واحمرارِ بشرتكِ التي تشبه الثلجَ؟ تساءلتُ، رميتكِ داخل صدري الملتهبِ، ارتجفتِ جفلا بين ذراعيّ، حميتكِ من أشعة الشمس الفاضحة، لاحقتنا محتقنة، ثم اختفت خلف غيمة عابرة، تخبّطتِ خجلا، كسرتُ خجلكِ، ووضعتُ شفتيّ على شفتيك.. ياه! كم كانت لذيذة قبلاتنا، وحارة، حَملت مذاقًا مغايرًا، مذاق فاكهة لم أتذوقها من قبل.

داهمنا الحارس فجأة، اِعتليتِ السلّم وأخذتِ توهمينه، قطفتِ، وأسقطتِ الحبّات أرضا، رجفت يداكِ، وسوَيتِ شعركِ، جفّفتِ عرقكِ وتجاهلتهِ، راقبتكِ من بعيد وعينا الحارس تبحثان عني، وعنك، أوهمته بالانشغال حتى يذهبَ، بينما انشغلتُ بكِ، أردتُ احتضانكِ، وتقبيلكِ، ومنحكِ الحُبّ، نزلتِ عن السّلم وتقدمتِ نحوي، بدأتُ بتقشير برتقالة، قِشرتها خشنة، غرزتُ أناملي داخلها، ثقبتُها، فكان الثقبُ بداية تعريتِها من قشورها، منذ ذلك الحين، كلما قبضتُ برتقالة اِشتهيتُـكِ، كما تعود اللحظات الجميلة إلى ذاكرتي.

ظننتُ أنكِ، لن تقبلي بقاطف البرتقال حبيبًا، أبكاني الظنّ، وساوركِ الشّكُ في سبب بكائي!

لم أصدق نفسي عندما عدتِ إلى حضني، احتضنتكِ بكل شوق، أغمضنا أعيننا وحلمنا، تشاركنا في تعرية القشرة، التصقتِ بي ودعوتكِ إلى لقاء عشق، كان أولَ التقاءٍ لنا، تمرّغتِ داخل صدري الأسودِ العاري، فأصبحنا مزيجا ثنائيَّ الطعم، التهمنا حزّا تلو الآخر بنهم وجنون، وانتهى آخر حزٍّ مناصفةً، فموان عاشقان، يا إلهي، لم أتذوق برتقالة بهذا الطعم من قبل! كم كان جميلا تلاقحُ اللونين الأبيض بالأسود!

لم نحترم رأي الآخرين، فاعتُبرت علاقتُنا محرمة، تمرّدنا رغم التحذيرات، وها نحن نفترق الآن مثل غريبين، لم أكن أهلا لكِ لأني أسود، فمكاني العبوديةُ لا غير، لا يحقُّ لي كما يحقُّ للرجل الأبيض والأصفر والأحمر، أنا زنجيٌّ، أنا أسودُ، أنا عبدٌ، أنا… لا شيء…

أصرخُ، فيتخبطُ الجميعُ من حولي، من هم يا ترى؟ أطباء، يعني أنا موجود في المشفى.

إني أبتعدُ، لا أراكِ جيدا الآن، أينَ أنتِ، لماذا تذهبين، هل تغادرين فعلا؟ مللتِ مني إذن، انتظريني، لا أقوى على رؤيتكِ، تضيعين مني مرة أخرى، تأخذكِ الريح، يغمرني الضّباب!

أعدُكِ باللقاء في (موسم الأبدية)، لا فصولَ فيه، ولا يمكن لأحد حجبَه عنا، إنه موسمٌ خاصٌّ بنا، لا عوائقَ ولا قوانينَ، لقد رحلنا في موسم البرتقال لنلتقي في (موسم الأبدية)!

 

أظنُّ أنهم خرجوا وتركوني وحيدًا، أراهم من خلف جفنيّ الثقيلين، أستطيع مناداتكِ كما أشاء، لكن لن أبُوح لهم باسمكِ، يكفيهم قتلكِ مرّة واحدة.

أراكِ يا مُنية الروح، تقشّرين برتقالة لغيري، عيناكِ معهُ، بينما تبحثُ نظراتُك عني، أدرِكُ قصدكِ من هذه النظرات، إنها تعود لي، تقدمينها له، وتقصدينني، تطعمينهُ وتأكلين، تمنعك الغصّةُ من ابتلاعها، نزلتِ إلى الشارع، الطريقُ وعرةٌ، توقفتِ ثم استدرتِ عدةَ استداراتٍ، بحثتِ عن الشمس حتى تعيد إليك صُفرةَ شعركِ، فاتكِ الجمالُ، ولم تعدِ الشمسُ، أين تذهبين، لا، لماذا هناك، لماذا دخلتِ مكانًا مهجورًا يشبه القبر.

بحثتُ عن قبرك، مغلقٌ هو، كم ارتجيتِ الحياة! لقد ذهبتِ بمعية المرتحلين، لو تمرّدتِ على الموت، لقد قتلوك، لقد أصبحتِ من الأموات!

ويحكِ، انتظري، قبل أن ترقدي إلى الأبد، سأقول لكِ وللمرّة الأخيرة، قبل أن تدخلي إلى مخدعكِ فيقفلوا عليكِ، انتظري، أرجوكِ، لماذا لا تُعيدين حساباتِ نفسكِ وتعودين! اليوم زال ضبابهُ والطريق خالية، سوف يسترُ الليلُ خطواتكِ ولن يتمكنوا منكِ، أعاهدكِ أن أضحّي بعمري دفاعا عنكِ كما فعلتُ سابقا.

 

يسرعون نحوي، ما الأمر، ماذا هناك، اتركوني، أريد أن أموت.

 

اخترق الرصاصُ جسدي، صوبوا بنادقَهم نحوي، سال دمي، امتلأت الأرضُ بدمائي، لقد حكموا علينا بالموت، لكنني سعيدٌ، لأنني أدركتُ أنّ دمي لم يكن أسودَ!

انهم يضربونني، كفوفا متتالية على وجهي، ويحكم، إنكم توجعونني، أحسّ بالوجع! لماذا تنهالون عليّ ضربا؟ لماذا تضربون مريضا بالعشق، ما زلتُ أعاني، ارحموني، لا أستطيع النطق، لا أحتمل، دعوني.

– الحمد لله، لقد كتب الله لكَ عمرًا جديدًا أيها الشّاب الأسود، اُحمدهُ، لقد أعدناكَ من الموت الأكيد…

اخترق الطبيبُ صوتَ الصّمت، تبدّد الضبابُ، وظهرت الأسرّةُ البيضُ حولي، وأطلتِ الشمسُ بأشعتها.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*