حلم رغم أكاذيب المساء – بقلم: زياد جيوسي 

حين تكرم القاص محـمد رمضان الجبور باهدائي نسخة الكترونية من هذه المجموعة القصصية، وضعتها على برنامج قراءاتي الحافل بالكتب والمقالات وإعداد كتبي، وكوني من عشاق القصة القصيرة وضعت المجموعة على قائمة الأهم للقراءة، فقد لفت نظري العنوان للكتاب “أكاذيب المساء” وأثار بذهني تساؤلات، فالأكاذيب أصبحت منتشرة على مدار اليوم ولم تعد مقتصرة على المساء أو النهار، وفي المساء يخلد الإنسان الى بيته وأسرته، يبحث عن الراحة والهدوء، فهل يكون ذلك مرفقا بالأكاذيب؟ رغم أن الاهداء يأخذ القارئ لاتجاه آخر حيث كان: “إلى الذين يحبون الوطن على أوراقٍ مزقتها الريح والأماني وقصائد ضاعت في دفاتر الشعراء”، فمن خلال الإهداء يوجه القارئ أن النصوص مرتبطة بالوطن، ولكن حين قرأت الكتاب وجدت أن العنوان للكتاب هو عنوان لنص بحث في مسائل اجتماعية وصفت المجتمع الذي يعيش بتكرار الحياة نفسها من خلال اسقاط ذلك على مجموعة اصدقاء يكررون نفس الحياة يوميا على مقهى، حتى أن هذا التكرار وزيادة الاكاذيب تغرق المجتمع، فهذا المجتمع بحاجة إلى: “لحظة صدق نواجه بها أنفسنا ونهدم ما علا من جدران أمامنا”، وأن مشكلات المجتمع أضاعت الوطن وتركته ممزقا كما أشار بالاهداء. 

  القصص التي وردت في الكتاب بغالبيتها وليس جميعها قصص تعود لنمط القص التقليدي قبل الوصول لمراحل القصة القصيرة والقصيرة جدا، وهذا النمط يستهويني أكثر من غيره، ربما لأن من بلغ السادسة والستين من العمر ما زال متأثرا بما اعتاد على قراءته عبر عقود العمر التي رحلت، وما بين 112 صفحة من القطع المتوسط و34 نصا وقصة انهاها بكلمات كتبت عن ثلاثة من مجموعاته القصصية لثلاثة كُتاب وبعدها نبذة مختصرة عن مسيرته،  كنت أجول بالمجموعة القصصية من الغلاف للغلاف، فالغلاف صمم بطريقة ذكية مستمدة من رواية “مغامرات بينكيو“المخلوق الخشبي المصنوع على يد النجار والذي يطول أنفه كلما كذب كذبة وهي كذبات يفضحها أنفه رغم انها كذب طفولي بريء والتي كتبها الروائي الايطالي”كارلو كولودي“، ونرى بلوحة الغلاف الطيور تحلق بفرح من قرب رأس الأنف الطويل، فهل أراد الكاتب أن يوصلنا أن أكاذيب المساء هي بعض من وسائل قضاء الوقت ببراءة والابتعاد عن المشكلات؟ بينما لون الغلاف أزرق مائل لعتمة الليل في ليلة ربيعية مقمرة، حيث القمر في السماء متمازجا مع الغيوم مما يجعل المشهد يثير الرغبة بالسهر وتبادل الأحاديث التي قد لا تخلو من المبالغة والكذب والخيال، وفي تراث القرى كنا نجد المضافات قبل عهد التلفاز حيث سهرات التعليلة المسائية والتي كان لصاحب الخيال الواسع بحكايات تحفل بالكذب مكان خاص فهو من يسلي الحضور بحكاياته بكذبات غير ضارة لأحد، ولكنها تسلي الحضور بعد العشاء قبل أن يخلدوا للنوم استعدادا لنهار عمل يبدأ بعد صلاة الفجر مباشرة، وتعيدهم من جديد لتعليلات المضافات بشكل شبه يومي. 

   من النص الأول في الكتاب يشعر القارئ أن القاص اعتمد تكثيف اللغة في عدد كبير من النصوص، وجاء التكثيف اللغوي في بعض النصوص مثيرا للدهشة لما احتواه من اختزال وتكثيف مع قوة اللغة المستخدمة، وفي نفس الوقت لجأ الكاتب للرمزية في قصصه والابتعاد عن المباشرة، فهو يوجه اصبعه بقوة ليشير الى مشكلات اجتماعية نراها ونحياها بحيث اعتدنا عليها ولم نتجه للتغيير، فهو يشير لحالة الضياع التي بدأ المواطن يعيشها في ظل الظروف الصعبة وطول الانتظار للتغيير بدون جدوى، حتى يصبح الموت يتساوى مع الحياة من طول الانتظار لأماني لا تأتي، والمرض أصبح رفيق الحياة للناس، والوطن أصبح حلما، والموت أصبح معتادا ولا ننتبه له في زحمة الحياة والعمل، ورغم ذلك هناك من يحاول التغيير ولكن بلا جدوى فالخراب قد انتشر والفساد أصبح معتادا فيصرخون: “كيف نستطيع أن ننبه الآخرين من غفلتهم”، ويكون الجواب في العنوان: “ليس الآن..”، فاغفاءة المجتمع المتمثلة بـعبد الستار طالت كثيرا مما يجعل السارد يتساءل:” متى تستيقظ يا عبد الستار من حلمك الطويل” وليجيب نفسه: “ربما يستيقظ عبد الستار من نومه، لكن ليس الآن”، لكن ورغم ذلك يبقى للوطن قدسية وهناك من يودع اهله بصمت ويحلم بالشهادة في سبيل الوطن، فلكل مسألة وجهان، فمقابل العابثين هناك المخلصون ومقابل الذين يغطون بالنوم هناك من يعملون على تمزيق سدل العتمة لتشرق الشمس، “فنهاية الأشياء لا يراها الا الآخرون” بإشارات واضحة أن التغيير آت على يد أجيال قادمة رغم الخوف الذي يشل اليدين ويجعل العجز ينتشر في المجتمع، ويترك المجال للعجزة أن يبرروا ما يرونه من خلل بدلا من المقاومة. 

   يرى القاص أن المجتمع يغط بالأحلام بينما الواقع هو تنفيذ الأمر ورغبات اولي الأمر الذين حولوا البشر لأرقام وتفقدهم صفة الانسانية وكأنهم عبيد بدون شرائهم من أسواق النخاسة، وأي مقاوم سيلقى مصيره ويختفي خلف الشمس، كما في “موت الحصان والأمر 72″، فالاوامر تأتي للمجتمع على شكل قرارات وقوانين لا تنتهي، ولا يسمع المواطن الا كلمات المديح له بينما في الواقع يجري استعباده وافقاره وابقاءه في حلم لا يأتي، فهو لا يرى أمامه: “إلا ابطالا من ورق”، والابتسامات البلهاء لا تفارق الوجوه التي تغط برحلات لماض ذهب حتى يعودوا من العيش بالماضي الى الموت في رحلة نهائية لم يفكروا بها، مجتمع توجهه الشواخص والأوامر ولكن لو حاول البعض الخروج من ذلك فسيجد الطريق من خلال العودة للوعي والثقافة، لكن رجال الأمن يقفون متنكرين وغير متنكرين لمراقبة الفقراء وقمع أي تململ أو انتفاضة على الظلم، فلا يتبق للمواطن الا نافذة تطل على واقع المجتمع من حوله ومنها ينتظر “بزوغ فجر جديد” كي لا يبقى يجلد النفس: “أنا العربي المتخاذل”، في ظل كل هذا الواقع والقرائح الميتة التي تمنعه حتى عن المقاومة بكتابة فكرة، فلا يجد إلا أن يلملم أحلامه ويرميها ويغلق نافذته حتى لا تعود له هذه الأحلام من جديد، فحتى الحلم أصبح يرهق المواطن ويستعبده. 

   في كل القصص التي خطها قلم الأستاذ القاص محـمد رمضان الجبور كان يمازج الوطن بالمشكلات الاجتماعية ببراعة وبأسلوب قصصي متميز يشد القارئ ويدفعة للتفكير والثورة، فهو لم يكتب من أجل افراغ ما بداخله من موهبة الكتابة، ولكنه يحمل رسالة تجاه الوطن والمواطن والمجتمع، فالنصوص كلها قصيرة وطويلة نصوص موجهة ببراعة وقدرة للوصول الى تلافيف الدماغ ومجريات التفكير وطرح السؤال المهم: إلى متى..لماذا؟، الى متى ستبقى الرؤوس منحنية، وكأنها بقايا صور تم لصقها وتشوهت ولم يبق منها الا بقايا لصورة لرجل يخرج لسانه في وجه الظالمين لكن وجهه اختفى، فالمواطن يبحث عن السعادة ولكنه لا يتجه الطريق الصحيح، وفي كل قصة وبأسلوبه القصصي يشير لمشكلة من مشكلات المجتمع والوطن والمواطن، كما يشير لذلك جليا في قصة “حوار” حيث جعل الحوار بن الفقير والكلب، وفي قصة “خسة وغدر”، فهو في قصصه يرش الملح على الجرح، وفي آخر قصتين قصيرتين من الكتاب لخص الواقع كما هو، فنحن في مجتمع: “لفظته الحروف والكلمات إلى زمن أشوه”. 

   في هذه المجموعة القصصية نجد أن القاص قد تمكن باحترافية من توظيف الرمز والخيال والعناصر الفنية وقواعد القصة كعمل ابداعي في القصص التي أوردها، وتمكن بقدرة جيدة من اسقاط كل ذلك على الوطن والمجتمع، واثارة خيال القارئ لينظر الى ما حوله ويفكر كيف يمكن التغيير ومن أين يبدأ، وكان هناك تناسق كبير وانسجام بين عناصر القصة والمكان والزمان والأحداث والشخصيات، فعرى الواقع ومشكلات المجتمع وانتهاك الكرامة الانسانية وترك القارئ يرى الظلم والتعسف والوقع عاريا ورصد الخلل وأشار للتغيير، مركزا على المشاهد الدرامية التي يمر بها شخوص القصص، وجال في الروح البشرية والمشهد الخاص والعام في القصص والتي هي واقعية وترصد الواقع ومشكلات المجتمع بدقة كي يدفع القارئ للخروج عن دائرة الصمت، باحثا في تناقضات المجتمع وتناقضات الروح البشرية في مواجهة المشكلات بين مستسلم ورافض ومفكر وباحث عن التغيير، في معالجة مدروسة لمشكلات المجتمع من خلال القصة منطلقا من واقع ومشاهدة، لا يحكم منطلقاته إلا الرغبة بالتغيير، لاجئا لقدرته القصصية في قراءة موضوعية لمشكلات المجتمع والوطن والمواطن، فكانت قصصه واقعية بلغة متمكنة تتطابق مع شخوص القصص ومع مجمل الأحداث والمشكلات في واقع نحياه جميعا، لكن كم واحد منا شخص هذه المشكلات وأحالها الى نصوص أدبية تدفع الى التغيير جالبة الحلم رغم أكاذيب المساء؟  

“عمَّان 14/1/2021” 

  

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*