الغربال والقفّة والتفكير الاستعماري – إبراهيم طه

الغربال استعارة أصيلة وجميلة للتعبير عن فكرة “الفرز” والغربلة. والغرابيل، ما كان منها فروطًا وما كان ضبوطًا، لا تكون إلا في حضرة القُفف. وعاءان متلازمان لا يكونان على انفصال. أعلمُ، قطعًا لا ظنًا، أنّ الفلاحين ما كانوا يفرّطون بشيء عندهم لإيمانهم اليقينيّ بالغائيّة والوظيفيّة الفطريّة والانتفاع بالموجودات كلها، وليس تقتيرًا أو إمساكًا مثلما يقول الجاحظ. لكلّ شيء في حياتهم وظيفة حتى للزوان. كانوا يغربلون وينخّلون وينقّون ويعرّبون كلّ شيء حسب وظيفته والحاجة إليه. ولكلّ حاجة عندهم أوانٌ ومحلّ، لهم ولدوابّهم. وكانت القفف تلمّ وتجمع كلّ ما يسمح الغربال بنفاذه عبر الثقوب.. قرأت مقال الأستاذ عصام مخول “زمن الفرز السياسي والوطني” وأصغيت إلى نبضه ونبره بكثيرٍ من التأنّي وقليلٍ من التوجّس. وقليلٌ منه يُعينني على تعريب الكلام وضبط صياغته كشرط قبْلي لحوار مأمول ومأمون.

 

المهاد الفكري

الاستعمار التقليدي المأنوس جغرافيّ المنشأ يتّجه إلى المادّة. الاستعمار الجديد فكريٌّ ثقافيّ يتّجه نحو الوعي. كلّ النظريات التي تتصدّى لموضوعة الاستعمار، بمدلولاته التقليدية والحديثة، تلتفّ حول دالّة العلاقة التفاعليّة بين مؤشّرين اثنين: الهيمنة والتبعيّة. في كلّ ظرفٍ سويّ، الدولة تابع والمواطن متبوع تتأدّى حقوقُهُ بقوّة انتمائه المدنيّ. وإذا انعكس الأمر وصار المواطن تابعًا للدولة، بقوّة الهيمنة التي تتغاوى بها، تهيّأ المهاد الأول للتفكير الاستعماري. وعلى أساس التفريق بين الاستعمار ذاته والتفكير الاستعماري، مثلما تعرضه الأدبيّات الحديثة، قد تمارس الدولة تفكيرًا استعماريًا قمعيًا ضدّ رعاياها نفسها تترجمه إلى منظومة من الأدوات الإجرائية الميدانية. وهذه مرنة سائلة مرهونة بحدّة الظرف ورخاوته. وأول أشراط التفكير الاستعماري وشروطه هو إسقاط الشرعية عن الأقليّة ورهن الحقوق المدنيّة باستحقاقات عقائدية وسياسية. بفعلها هذا تسعى الدولة إلى تخريط الوعي العام وترسيمه من جديد ترسيمًا يتساوق مع منافعها الأيديولوجية بالضبط. بهذا الناظور تحدّق الدولة الإسرائيليّة برعاياها من الأقليّة العربية الفلسطينية التي ينبغي أن تحميها المدنيّة المتاحة في كلّ دولة بوصفها كيانًا سياسيًا. هذا هو المُعامِل الاستعماري على وجه العموم. أمّا من أيّ جحر تطلع كلّ هذه السفسفة وهذه المقابح، التي تتسفّه بها الحكومات الإسرائيلية، فهو سؤال على قدر كبير من الوجاهة، له محلّه وأوانه.

في كتابه “شروط النهضة” يسجّل المفكّر الجزائري مالك بن نبي مُعامِلين اثنين للاستعمار: مُعامِلا في المستعمِر، ويعني أنّ هناك نمطًا واحدًا ثابتًا من السلوك يمارسه المستعمِر أينما حلّ وارتحل، وآخر في المستعمَر نفسه وهذا قد يتمظهر في أحد خيارين: إمّا اللعب بأوراق تسمح بها الهوامش المدنيّة في حدود ضوابطها وأعرافها المتّبعة، وإمّا اللعب بشروط المستعمِر، وهذا هو معنى القابلية للاستعمار (Colonizability). وهي فكرة مدعّمة بمرجعيّات وردت عند ابن خلدون عمادها الاقتداء والتبعية التي تفرزها الهيمنة. وهي تبعيّة تبدأ بولع المغلوب بالغالب والاقتداء “في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”.

 

الحاجة بوصلةُ التفكير الاستعماري

لا يحتمل أحدٌ، لا على مستوى الحقيقة ولا على مستوى المجاز، مسؤولية مطلقة عمّا نراه من هلهلة وركاكة في الفعل السياسي. الحركة الإسلامية الجنوبية هي حالة استعارية بعضيّة. أعني أنها تمثّل بعضًا من أبعاضٍ أو شريحةً تتعب وتنخذل في بعض الأحايين من طول الطريق ووعورته، شريحة يرهقها الحاكم وينهكها بما يملك من آليّات قهر وقمع هي محصّلة تفكيره الاستعماري. وهذه حقيقة. الدكتور منصور عباس، كأيقونة واستعارة ، أوهنُ عند نتنياهو من أن يكون مفتاحًا يفتح به أبوابًا يدلف منها إلى الجماهير كما يظنّ الدكتور إمطانس شحادة. نتنياهو يقلّب أتباعه ومتشيّعيه الأصليين الطبيعيين ويبدّلهم مثلما يتحرّر من جواربه أو يتحلّل من ملابسه الداخليّة. من يشقّ الباب لتزلّف نتنياهو وتدليسه ولهاثه هو حاجته إلينا. ما يوجّه التفكير الاستعماري ويحدّد منحاه هو الحاجة وليست العلاقات الإنسانية. وهي الحاجة نفسها والمنفعة التي أجاءته إلى إلعاد وبيتار عيليت وموديعين عيليت وبني براك وجعلته يمرّغ خشمه في أزقّتها ويتسفّه في لهاثه وراءهم. موديل اليهود المتديّنين ضروري للمشابهة. والتشبيه هنا تمثيلي وليس عينًا بعين لا سمح الله. النفعيّة هي محرّك التفكير الاستعماري وباعثه. وهذا قولٌ على الإطلاق.. وهنا بالضبط، هنا بالتحديد ينطرح السؤال الأكبر بعيدًا عن مخايل الرومانسية الساذجة: أليس من النافع إذًا أن نحاول قلب معادلة التبعيّة وترتيبها من جديد؟ أليس من الحكمة أن نتفاكر ونتثاقف في المسألة بقدر ما يجيزه الظرف من هدوء وسكينة؟ ومن السؤال الأول ينسل الثاني وينسرب: أنفعل ذلك بالتفريق أم بالتوفيق المقعّد على قواعد الحوار والتفاعل؟ أيكون بالإقصاء أم بالالتفاف حول ثقافة الحوار بغضّ النظر عن الإفرازات السياسية لهذا الحوار ودون أيّ اعتبار للأرقام وأعدادها؟ ولي في الحواريّة مآرب أخرى ومنافع كثيرة بعيدًا عن الحساب السياسي.

كنت في مقال سابق عن حركة الثقافة أشير إلى دور النخب السياسية في فعل التثقيف وهندسة الوعي الجماهيري خصوصًا في حالةٍ تتعامل فيها السلطة الحاكمة مع رعاياها بمنطق التفكير الاستعماري. النخب في حالتنا نحن، والأستاذ عصام ضمنها، هي البوصلة التي تمحق قتامة الطريق، أو ينبغي لها أن تكون. إذا أصابها تعبٌ ونصَبٌ وشيءٌ من القنوط والتراخي، كهذا الذي يصيب بعضًا من الناس، أضاعت الطريق، تاهت وتيّهت الناس. التعلّل بتعب الناس ليس حجّة علينا للانزلاق والارتكاس بقدر ما هو حجّة لنا للارتقاء بالناس. والكلام لتلك الشريحة المتعبة التي تبحث عن الشهد في أدبار الزنابير. لا يملك أحدٌ منّا إلا الدفع بالصدور، بالقلوب التي في الصدور والعقول التي في الرؤوس. دالّة الغالب والمغلوب ومعادلة المتبوع والتابع تخضع لامتحان صارم جوابه واحد. “كي نتحرّر من أثر هذا الاستعمار ينبغي أن نتحرّر من سببه وهو القابلية للاستعمار”. قول رشيد سديد لمالك بن نبي.

 

التفكير دفعٌ للتكفير

استعارة الغربال ناجعة لتحقيق معنى الفرز الذي يريده الأستاذ عصام والذي نقرّ بضرورته على مستوى المبدأ لتحصيل الحواريّة. أما إذا كان فرزًا تتبعه قطيعةٌ فالأمر يستجلب السؤال والمساءلة. بين النقاش، وإن كان منفتحًا عنيفًا ودراميًا، وبين القطيعة مسافة كبيرة. التطليق المطلق يُفضي إلى تلاحم أرضي ومُناجزة عنيفة وتكفير وتفتيت وتعطيل للموارد والطاقات. النسق الحواري مدعاة للتفكير. والتفكير دفعٌ للتكفير. من يملك التفكير يملك الفكرة. ومن يملك الفكرة يملك اللغة، يملك الدافعية للنقاش. ولا ينعكس. ومن يملك اللغة كان عليه حقًا وواجبًا أن يحاور أو يصاول. أستصعب فهم اللواحق الإجرائية الميدانية التي تفرزها فكرة الفرز. أستصعب إدراك التبعات العمليّة لهذه الفكرة، التي يصرّ عليها الأستاذ عصام، وإن كنتُ أعقلها على مستوى معرفي آخر.

ليست حسبتي سياسية في أصلها، وليس في منحاها شيءٌ من التشيّع والتحزّب. ما يوجب التذكير. وهكذا لا تعنيني القائمة المشتركة في ذاتها لأنها نفسها حالة سياسية مؤقّتة أفرزتها الضرورة التحتيّة، ولأنها معلول الحوارية أصلا وليست علّة الحوار ولا مسوّغ هذه المداخلة الاقتحامية. لا علاقة عضوية للحواريّة التي أعنيها بالهيكلة السياسية. الحواريّة قوامها ومقامها الاختلاف وهذا ما يفرزه الغربال. إذا كان الحوار يفضي في مرحلة تاريخية إلى قناعة بتشكيلٍ سياسي معين، كأن تلتمّ الأحزاب العر بية في صياغة واحدة مثلا، فهذا وارد ومتاح. وإذا كان يفضي إلى قائمتين فهذا وارد ومباح أيضًا. الأرقام وأعدادها هي ناتج فعل الحسابات. والحسابات ظرفيّة بطبعها. والظروف لزجة متبدّلة وليست نهائية منجزة. ما يعنيني في المحصّلة الأخيرة هو التشبّث بنسق الحوار حتى وإن كان الخيار في قائمتين اثنتين أو أكثر. الأرضيّة التحتيّة للحوار الداخلي هو إدراك الذهنيّة العامة لحركة التفكير الاستعماري، والسقف الأعلى للتفاعل الحواري هو التنافس في التصدّي لأيّ تفكير من هذا القبيل والمثيل.

الغربال يحدّد أطراف الحوار لأنه يفرز التباينات والفروقات والاختلافات. والاختلاف هو من مسوّغات الحوار ودواعيه. والحوار قد يكون تناوشًا جريئًا وحادًا داخل المساحة المتاحة في القفّة. ولا بأس في ذلك. الغربال ضروري لتقعيد الأسس لأيّ نسق حواري. والحوار في الجوار والتجاور، والتجاور هو منطق قُففيّ يستقيم فيه الحديث الشريف “أفضل الجهاد كلمة عدل وحقّ عند سلطان جائر”. وهذه العنديّة هي هي من ضوابط هذا المنطق القُففيّ.

 

تذييل وتذكير

بعيدًا عن الصياغات الفوقية المتعالية، أرتّب مقولاتي في هذا التذييل، بما يتيحه التفكير العلمي والعملي من آليّات، وأضبطها في ترسيم ثلاثي يبدأ بفرضيّة تعقبها غاية تتّكئ على استراتيجية إجرائية. تصرّ الفرضيّة على أنّ التفكير الاستعماري هو تفكير غائيّ بطبيعته توجّهه الحاجة وتضبط حركتَه المنفعة. وكلّ حديث في الغزل أو التشبّب أو الحبّ باطل. لن يعشق المستعمِر مستعمَرًا وينعكس بالضرورة. أما الغاية فتسعى إلى قلب المعادلة الاستعمارية وعكسها على نحوٍ ترتهن فيه سلوكيّات السلطة بمشيئة رعاياها. وهذا حدث ويحدث باستمرار في الدولة الإسرائيلية. وحتى تتحصّل هذه الغاية لا بدّ من استراتيجية ترافقها أداة فاعلة. الخطوة الأولى الموجبِة في هذا الاتجاه هي تحديد الحاجات والمنافع التي يبحث عنها التفكير الاستعماري عندنا. سؤال صغير جوابه كبير. ولعلّ الحوار أنجع القنوات الأدائيّة وأنفعها لفهم السؤال والجواب رغم الجراحات العتيقة والعميقة. حوار نريده أن يظلّ نسقًا ثقافيًا وحضاريًا وعقائديًا وحزبيًا سياسيًا نرضى به ولا نفرّط.

إذا كان التفكير الاستعماري يملك كلّ أدوات الإعنات والتوهين لبسط الهيمنة، هل بعد هذا يحقّ لنا أن نمارس على أنفسنا مزيدًا من الإقصاءات؟ الدولة تمارس سياسة الإقصاء من الخارج. والأقليّة نفسها تمارس على نفسها إقصاء من الداخل. هذا الإقصاء المزدوج، البرّاني والجوّاني، قد يدفع إلى مزيد من التبعيّة والارتكاس. إذا كان بعضهم قد تحرّف في أخلاقه وركّ في نهجه واقترف حرامًا وعيبًا وغلطًا فطريق الحلال والصواب والاستقامة مبيَّنة. كلّ مظاهر الترخّص والاتّضاع في الفعل السياسي في الآونة الأخيرة مردودة إلى غثاثة في العزيمة وليس في فطرة العقيدة. كلّ من سقط في حبائل الهيمنة واتّبع إنما فعل ذلك لشدّة إلحاح الحاجة وليس لإيمانه العضوي بنظافة الغالب ونزاهته. وأظنّ ظنًا شبه يقين أنّ من يتزلّف للمستعمِر يسدّ خشمه من نتانة فعله حين يركن إلى نفسه وبها يخلو وينفرد… وهذا يكفيه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*