أدب من قاع الواقع – أ.د إبراهيم طه

مقدّمة:

أدرّس في هذا الفصل الجامعيّ مساقًا متقدّمًا لطلبة الماجستير عن جماليّات “التقليليّة في الأدب العربي” (Minimalism). والتقليل هو هذا الذي يسمّونه أدب التوقيعة أو الومضة أو البرقيّة أو اللافتة أو المقطوعة أو الشَذَرَة… وله أسماء أخرى طريفة. لهذا النمط من الكتابة امتداد عميق في أدبنا القديم. قصيدة البيت الواحد والمقطوعة والتوقيعات والأمثال والأخبار والطرائف والنوادر كلها جذور أصليّة أصيلة لثقافة التقليل. في الغرب يظهر التقليل في قصيدة الهايكو اليابانية في أصلها أو الإبجرام الأوروبية أو القصّة القصيرة جدًا التي صارت معروفة في العالم كلّه. أذكّر من نسي بأنّ العرب قد جعلوا كلامهم على ثلاثة أضرب: الإيجاز والمساواة والإطناب. والإيجازُ هو ما قلّ كلامه وكثر معناه. والمساواة هي ما كان معناه على قدر لفظه، لا أكثر ولا أقلّ. أما الإطناب فهو ثرثرةٌ وحشوٌ وترهّلٌ وكثرةُ كلام. أعني ما كثر كلامه وقلّ خيره. والعرب في ذاك الوقت، على عكس عرب اليوم، آثروا الإيجاز، لظروف بيئتهم الخشنة، سمّوه “جوامع الكَلِم” وجعلوه عماد البلاغة. عن هذا الموضوع كتبت كتابين واحدًا بالعربية والثاني بالإنجليزية وثلاثة مقالات بحثيّة باللغتين. وكتب غيري مثل ما كتبت. فلا حاجة لنا الآن إلى مادّة يتبعها ضجر وتلحقها ملالة وهي تملأ بطون الكتب والمقالات.

مسوّغ الأدب هو قلّة الأدب. هذه قاعدة حداثيّة معروفة. أيام المدح والردح والفخر والغزل والتشبّب ولّت. هذه أغراضٌ عتيقة قد زالت ودالت منذ زمن. لم يبقَ هناك من يستحقّ المدح، ولا هنا. ولم يعد من يجرؤ على المباهاة والمفاخرة. ولم يبقَ وقتٌ لا لغزلٍ عفيفٍ خفيف ولا لماجنٍ فاجر، لا هنا ولا هناك. مسوّغ الأدب هو قلّة الأدب. وقلّة الأدب التي نعنيها هي من جوامع الكَلِم تلمّ كلّ أمراض المجتمع وأوساخه وأدرانه وسقطاته. وما أكثرها في الأيام الأخيرة! أنظرُ حولي وأنصت إلى هذه الحشرجات، لا أصدّق ما أراه ولا أصدّق ما أسمعه! يريعني بعض ما أراه من ميوعة زئبقيّة ويجفلني ما أسمعه من فحيح سياسي في مجتمعنا. لا أعرف من أين يأتي الجاهل الأميّ السفيه بكلّ هذا الصلف كي يشبّ ويتطاول على القطوف العالية؟! من أيّ جُحرٍ تنبق كلّ هذه الفطريّات الموسمية المسمومة؟! من أين يأتون بكلّ هذه الكثرة من قلّة الحياء؟! وكيف يبدّل بعضهم جلده بين ليلة وضحاها؟! كيف ينطق بعضهم عن الهوى مخمّسًا مردودًا دون أن يرمش؟! من أيّ قاعٍ ينتق هذا الخُوار؟! من أيّ قاع؟! أرى وأنصت فأجفل ذاهلا غافلا غيرَ مصدّق!

لا أملك من الوقت والأعصاب ما يكفي للكتابة عن هؤلاء، غير أنّ ما يفعلونه بأنفسهم هو قاع الواقع. وواقع القاع وحلٌ ومستنقعٌ آسن. عين على الواقع وعين على الأدب. ولم أجد أليق من هذه النصوص التقليليّة للتعبير عن قلّة الأدب. هذه نصوصٌ من ثقب الإبرة، مستعجلة لاهثة، بعضها مجرَّح، مقرَّح، موجوع. وبعضها مجمور، مسجور، مفزور. هذه نصوصٌ لا يكتبها إلا من احتقن قلبه وعقله وفكره. أنظرُ بعينٍ واحدةٍ إلى الواقع فأرى ما أرى، أغمضها وأفتح الثانية على الأدب لأراه هناك منتصبًا محتقنًا. ما لهذا الأدب لا يترك طالحًا إلا ويذكره! ما لهذا الأدب لا ينطق إلا بما يغمّ القلب!

هذه بعض نصوص المساق منتقاةٌ بعفويّة. وكلها تحيل إلى واقعنا السياسي الآن هنا في قرانا ومدننا. حتى هذه المكتوبة في البحرين والكويت والعراق وسوريا والمغرب تتحدّث عنا هنا. بأدوات القياس والاستنباط والاستقراء نستقويها  ونستنطقها كي تسمّي لنا ما يحدث الآن من تراجيديا يونانية في الجليل والمثلّث والنقب. وهل واقع هذه النصوص بعيدٌ عن قاع واقعنا أصلا؟!

 

حياة مواطن

(نبيل جديد – سوريا)

حاضر سيّدي

قصّة من كلمتين لكنها سامّة لا يكتبها إلا مسموم سمّمه الأسياد فامتلأ قلبه سمًّا لا بدّ أن ينفثه. قصّة لا يعرف معناها الدقيق العميق إلا عبدٌ…

عبد

(نور الدين الهاشمي – سوريا)

حين صفعه سيّده على وجهه لم يحزن لأنه فَقَد قطعةً من لسانه، ولم يحزن لأنّ الدمَ سال غزيرًا من شفتيه، بل حزن كثيرًا وتألّم لأنه لن يستطيع بعد الآن أن يقول: “يا سيّدي” بشكل صحيح.

قصّة مجرّحة لا يكتبها إلا قاتل أو مقتول، أو عبدٌ مفزور فزروه فزرًا حتى بات يرى الرأس محلّ القدمين والقدمين في الرأس…

لغة

(قاسم حدّاد – البحرين)

فعلٌ ناقصٌ
ونحاةُ الكوفة
يستبسلون

قصيدة مرّة، حامضة، مالحة. لا يكتبها إلا قانط مرّرت عيشه حروب العرب على فعلٍ ناقصٍ لا يعترف بنقصه. والناقصون أنفسهم ما زالوا يستبسلون في فعلهم الناقص…

 

تصحيح

(نزار قبّاني – سوريا)

أنا لا أعلن الحرب
على جنس العرب..
وإنما أعلنها،
على عرب الجنس!

قصيدة مفشولة لا يكتبها إلا خائب فشل في الفصل بين الجنس والعرب. ما في القصيدة هو فعل استمناء يمارسه بعضهم في عزّ الظهر بلا حياء…

 

وظيفة القلم

(أحمد مطر –العراق)

عندي قلمٌ
ممتلئٌ يبحث عن دفترْ
و الدفتر يبحث عن شعرٍ
و الشعرُ بأعماقي مضمرْ
و ضميري يبحثُ عن أمنٍ
و الأمنُ مقيمٌ في المخفرْ
و المخفرُ يبحثُ عن قلمٍ
عندي قلمٌ
وقّع يا كلبُ على المحضرْ

قصيدة متورّمة لا يكتبها إلا حاقن يستبسل كي يبول على مخفرٍ لا يرى الفرق الغليظ بين السيف والقلم. وبعضهم يوقّع على المحضر بسيفٍ من عنده…

 

إذا

(عزّ الدين المناصرة – فلسطين)
إذا أردتَ أن تعرف مدينة
لا تبدأ بمثقّفيها!!
فهم لا يعرفون !!

قصيدة مقرَّحة لا يكتبها إلا مجرَّح من كثرة الكلام وقلّة الفعل وطول اللسان وقلّة الخير…

 

ماعدا ….
شعبٌ عظيمْ
بقياداتٍ تافهة
ما عَدا …
املأ الفراغ كما تشاء.

قصيدة قاتلة لعزّ الدين المناصرة لا يكتبها إلا مقتول بسيف الأهل. وسيف الأهل من حديد قاطع، وليس من خشب…

 

ملاحقة

(ليلى العثمان – الكويت)

تثاءب عشرات المرّات. في كلّ مرّة تدلف إلى ثغره ذبابة. في اليوم التالي كانت عشرات المضارب تلاحقه.

قصّة مقزّزة نرجو أن تصدق في وعدها، لأنّ الذباب الأخضر والأزرق عندنا أكثر بكثير من المضارب الورقيّة…

 

الضحك

(عبد اللطيف الزكري – المغرب)

ظلّ ينظر إلى البقرة الضاحكة في علبة الجبن، وهو يحسدها، كانت خواطره مضطربة لا تعرف الهدوء. وكلّ ما كان يتمنّاه أن يضحك مثل هذه البقرة.

قصّة بقريّة لا يكتبها إلا من فقد تقويم صورته، فبات يجهل الفرق بين البقرة على العلبة والبقرة في العلبة والبقرة في المراعي…

ليس للأدب وطن ولا قوم ولا جنس ولا دين. هذه نصوص تنفع هنا وهناك، وتصلح عندنا مثلما تصلح عندهم بالضبط. الحال واحد عندنا وعندهم. وبعضُ مَن عندنا ليس له لون ولا رائحة ولا طعم… مُشين!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*