مداخلة وتحليل سيميائي لديوان الشّاعر محمود الريّان في أمسيّة ثقافيّة بمناسبة إصدار ديوانه “نشيد الحرف”، الّذي أقيم في المركز الجماهيري في شفاعمرو.
في مداخلتي هذه سأتناولُ موضوع سيمائية عتباتِ النّصِّ: العنوانَ والغلافَ والمقدمة. فالعتبةُ الأولى هي العنوانُ، “نشيدُ الحرفِ” كلمةُ نشيدٍ تعني “قطعةٌ من الشعر أَو الزجلِ في موضوعٍ حماسيٍّ أَو وطنيٍّ تنشدُه جماعةٌ” والغناءُ دلالةٌ على السّرورِ والفرحِ ورغدِ العيشِ والهناءِ، لكنّنا لسنا بصددِ غناءٍ عاديٍّ؛ وإنما غناءٍ للحروفِ. فشاعرُنا المحمودُ يجعلُ الحروفَ تتراقصُ أمامَ عينيِّ القارئِ على عزفِ فونيماتٍ لتشكلَّ فيما بينها كلماتٍ شعريّةٍ على شكلِ قصائدَ موزونةٍ واخرى غيرِ موزونة.
ولو أبحرَ القارئُ في عالمِ قصائدِ الكتابِ، لا يجدُ عزفًا ولا نشيدًا؛ وإنّما يجدُ صورًا قاتمةً أحيانًا، تعكسُ همومَ الشّاعرِ وقلقِهِ على وطنِهِ ولغتِه وأمّتِه العربيّةِ، ثمّ همّه من يومِ ملاقاةِ ربّهِ، وخوفِه من يومِ الدّينِ. وقد برزَ ذلكَ في نصوصٍ عديدةٍ “كموتيفَ” أو “تيمة” مركزيّةٍ. والتيمةُ هي فكرةٌ يبني حولَها الكاتبُ صورًا كثيرةً يطرحُها من خلالِ طروحاتٍ متعدّدةٍ أكثرَ من مرةٍ. فيوم القيامةِ وردَ على شكلِ تعابيرَ مختلفةٍ منها: يومُ الوعيدِ، يومٌ مثقلٌ بالانشراحِ، يومٌ انتَ عازفُه وغيرها.
والمبحرُ في قصائدِ الرّيّانِ يلمسُ تأثرَ الشّاعرِ بالصّوفيةِ. حينَ يستعملُ دلالاتٍ صوفيةٍ كأن يقولَ مثلًا: “وسمتُ الصّوفِ سربالا، يعتريني حنينُ حبِّ الهباتِ يا الهي مخلصي للنجاةِ، أرقُّ شهودٍ، عزةٌ صوفيةٌ، دفئًا للقلوبٍ الخاشعةِ، قراحِ الراحِ” والخمر هنا ما هو الا حبُّ الإله،… قد يرمزُ الغناءُ ايضًا الى ما يتلوهُ الصّوفيون في حلقاتِ الذّكرِ من اناشيدَ عندما يرقصونَ رقصتهم المعروفة.
ولو تتبّعنا سيميائيةَ الصورةِ المرافقةِ للعنوانِ، نرى صورةَ عصفورٍ وحولَه نُثِرت بعضٌ من حروفِ اللغةِ وكأنَّ الطائرَ ينشدُ هذه الحروفَ، أو حينَ ينشدُ العصفورُ تتطايرُ الحروفُ حولَه كما الأوراق التي تتساقطُ في الخريفِ. ولكنَّ هذا العصفورَ يقفُ على متنِ شجرةٍ عاريةٍ من الأوراقِ ترفعُ فروعَها السَّوداءَ مبتهلةً إلى الله، أمّا الأرضُ التي تحتَها فسوداءُ جرداءُ قاحلةٌ خاليةٌ من الماءِ والكلأِ كما تخلو من الحياةِ فالصورةُ تعكسُ حالةَ الموتِ، وفي الموتِ سكونٌ وركودٌ وفناءٌ، فكيف يجتمعُ النشيدُ والغناءُ مع الموتِ؟ إنها صورةٌ “لأكسيميرون” واضحةٌ أو ما يسمى بالتّرادفِ الخلفيِّ، فكيفَ تجتمعُ الحياةُ مع الموتِ، وكيفَ يكونُ الحلمُ المسافرُ مع الرؤيةِ المسهَّدةِ؟ وكيفَ يجتمعُ زهقُ الأجسادِ مع دفقِ الحياةِ في قصيدة انثيال ص37 ؟ هذه الصورُ “الاوكسوميرونيةُ” تجمعُ بينَ التناقضاتِ وتعكسُها سيميائيةُ الصّورةِ المرفقةِ، وشواهدُ كثيرةٌ على ذلك في النّصوصِ. لا أدري اذا كان الغلافُ من اختيارِ الشّاعرِ أم أن المصمّمَ هو الّذي اختارَه، وفي الحالتين دلالاتُ الصّورةِ تعكسُ متنَ النّصوص.
أمّا المقدّمةُ والّتي قامَ الشّاعرُ بتدوينِها، فلا تختلفُ العلاقةُ بينَها وبينَ المتنِ عمّا هو الحالُ بين سيميائيةِ الصّورةِ والعنوانِ والمتنِ. يقول في مقدمتِه: “لقد أصبغتُ القصائدَ نظرةً نقديةً لعلّها تضفي مسحةً موضوعيةً وبعدًا جماليًّا…” وهل يجتمعُ النقدُ مع الجمالِ؟ الجمالاتُ اللُّغويةُ يسبغُها كلُّ ما يرافقُها من البلاغةِ والصّورِ الشّعريّةِ، فكيفَ تجتمعُ مع النقدِ والموضوعيةِ ونحن نعلمُ انَّ كلَّ ما هو موضوعيٌّ يتصفُ بالتقريريةِ والايجازِ ويخلو من البديعِ والبلاغةِ والمحسّناتِ اللفظيةِ، كما يخلو من العاطفةِ والإحساس. فهذه لوحةٌ “أكسوميرونيةٌ” أخرى، “فالاكسيمرون” يمكن اعتبارُه موتيفًا يجتاحُ عتباتِ النصِّ ومتنِه.
ثمّ يتابعُ في المقدمةِ قائلًا: “الكتابُ تخطّى مظاهرَ الحرفِ وخاضَ غمارَ الكلمةِ في الشّعرِ والتي تطمعُ في القربِ من المتلقّي”. وأنا كقارئةٍ عندما تصفحتُ الكتابَ وبدأتُ القراءةَ لم أفهمْ نصًّا واحدًا من القراءةِ الأولى، ولا من الثّانيةِ ولا الثّالثةِ، فقد استغثتُ بالمنجدِ مرارًا علّه يَهديني إلى خيطٍ يساعدني في فكِّ الرّموزِ والدّلالاتِ التي أسبغها الشّاعرُ على متن القصائد. وحتّى المنجدُ لم يصلْني إلى برِّ النّجاةِ أحيانًا كثيرةً، فاضطُررتُ أن أشاركَ بعضَ الفقهاءِ في اللّغةِ، ولم تكن حالُهم أفضلَ من حالتي إزاءَ هذه المُعضلةِ؛ فادركتُ انّه لم يمسَّني هوانٌ أو تخاذلٌ؛ وإنّما أنا أمامَ كتابٍ متفردٍ منفردٍ بذاتِه نسيجٌ وحده. والسّؤالُ الّذي يفرضُ نفسَه: لمن نكتبُ؟ إذا كتبَ الشّاعرُ لنفسهِ لماذا ينشرُ؟ وإذا كتبَ لغيرِه فلا بد من وجودِ رسالةٍ يريدُ إيصالَها للمتلقّي، فإذا كانت اللغةُ إعجازًا كيف سيتمتّعُ القارئُ بها؟ ومن لا يفهمُ لا يتمتّع.
فحتّى الشّعرُ الجاهليُّ الّذي اتّصفَ بالوعورةِ، حينَ تتعرّفُ على مرادفاتِ الكلماتِ تنجلّي أمامَك سيميائيةَ الصّورةِ واضحةً. فحينَ يقولُ امرؤُ القيسِ في معلقتهِ “فيا لكَ من ليلٍ كأنَّ نجومَهُ /بكلِّ مغارِ الفتلِ شُدّت بيذبلِ/ كأنَّ الثّريّا عُلّقتْ من مصامِها/ بأمراسِ كتّانٍ إلى صُمِّ جندلِ”. للمرّةِ الأولى قد لا تفهم البيتَ؛ ولكنْ بعد أن تقفَ على مرادفاتِ الكلماتِ تنكشف لكَ الصّورةُ واضحةً، فامرؤُ القيسِ لشدّةِ قلقِهِ تمنّى أن يطلعَ عليهِ النّهارُ ليخلصَ من همومِهِ، ولكنَّ النّجومَ بقيت مكانَها وكأنَّها شُدَّت بأحبالٍ إلى صخرةٍ كبيرةٍ في الأرضِ، وفي ذلك دلالةٌ على القلقِ والحزنِ فتنقشعُ أمامَك صورةٌ شعريّةٌ في قمّةِ الجمالِ. وحتّى القرآنُ الكريمُ الذي هو الإعجازُ الاكبرُ يستطيع القارئُ أن يفهمَ آياتِه حينَ يقفُ على المعاني الصّحيحة. اقرأُ قصيدةَ “انثيال” لتتعرّف على نمطِ كتابةِ الرّيّان!
ولستُ في وضعِ افتراءٍ على شاعرِنا الموقّرِ فقد صرّحَ جهرًا في طرحِهِ أنّه تعمّد وعورةَ السّطورِ وما بينَها حيثُ يقولُ: “لا يمكنُ إخفاءَ الشّعريّةِ المتجلّيةِ في ثنايا السّطورِ والأبياتِ؛ فالشعريةُ تحملُ رؤيا الشّاعرِ وطويّتهِ المنسابةِ بين حروفِ القصيدِ ولا يُجليها من مكانِها الّا الدارسُ الحصيفُ”.
فالدّارسُ لا بدَّ أن يكونَ عبقريًا جدًا ليستوعبَ بذائقته المعانيَ الملمّحَ إليها أو المستنبطةَ بفكرهِ وتحليلهِ الشّخصيِّ.
لقد أجمعَ علماءُ التربيةِ أنّه حتّى يكونُ النصُّ مفهومًا وممتعًا للقارئِ؛ يجب أن تكونَ 98% من كلماتِه مألوفةً ومفهومةً، و 2% فقط إذا عجمَت، تُفهم من خلالِ السّياق، وهذا يتنافى مع رؤية الشّاعر.
وأمّا العتباتُ الداخليةُ فقد جاءَ بعضُها مربكًا والآخرُ شفافًا. فهناك نوعان من العتباتِ الدّاخليّةِ: العنوانُ الشّفافُ، الذي يعطي المعنى المقصودَ، وقد تجلّت في معظمِ القصائدِ مثل: إلى حيفا، القدس، الشّعر، هذا العيد، سرتُ السّنين، سجال الفي، وغيرها. وهناك العنوانُ المربكُ والمقصودُ به إعطاءُ معنًى عكسيًّا للقصيدةِ مثل: رسم المدى، انثيال، وقع المدى، حالة، إلى مضايا…
ثمّ ندخلُ في لجّةِ البحرِ الشّعريِّ فنجدُ المواضيعَ الّتي تناولَها الديوانُ كثيرةً، منها الّتي تحملُ همَّ الأمّةِ العربيةِّ، والوطنَ العربيَّ، والظلمَ المتفشّي، والقتلَ والدّمارَ والحريقَ، ثمّ اهتمامَه باللّغةِ العربية.
لكنَّ الشاعرَ يصبُّ جلَّ اهتمامه في موضوعِ الدّينِ والتَّديّنِ والدّعوةِ إلى عبادةِ الله، ليعلمَ الإنسانُ أنَّ هذه الدّنيا دارُ ممرٍّ لا دارُ مقرٍّ، وما عليها فانٍ وأنَّ الإنسانَ يجب أن يعملَ لآخرتِه، وحينَ يقابلُ ربَّه عليه أن يكونَ مزوّدًا بالأيمانِ وبالعملِ به. ونجدُه في حالةٍ صوفيَةٍ يناجي اللهَ ويدعو إلى محبّتِه، حتّى أنَّ حبَّه له عشقٌ وليسَ حبًّا عاديًّا، إذ تتجلّى الصّوفيّةُ بينَ سطورِه واضحةً.
لم يكنِ استنباطُ المعاني بالأمرِ السّهلِ، لأنَّه اعترتِ القصائدَ ثلاثُ اشكاليّاتٍ: 1 – كثرةُ المفرداتِ الّتي تحتاجُ إلى معجمِ المعاني 2 – رافقَ إنشاءَ الجملِ غموضٌ في أحيانٍ كثيرةٍ 3 – اتّبعَ الشّاعِرُ أسلوبَ “السّرياليّةِ” في نظمِ قصائدهِ حتّى العموديةِ الموزونةِ منها.
“والسرياليزم” مأخوذٌ من عالمِ الرّسمِ الغيرِ مفهومٍ، ويقومُ على دلالاتٍ فرديةٍ لكلِّ من يراهُ أو يفسّرُهُ، “والسّرياليةُ” في الأدبِ تعطي القارئَ الحقَّ في فهمِ وتفسيرِ ما يقرأُه حسبَ ذائقتِه، وفهمِه ورؤيتِه للأمورِ تمامًا كما اللوحة “السّريالية”؛ لكنَّ “السّرياليةَ” إذا تخطّتْ حدودَها تصبحُ غموضًا يفسدُ الأدبَ؛ لانَّ وظيفةَ الأدبِ إمتاعَ القارئ.
أنا لستُ بناقدةٍ وإنّي لأصغرُ بكثيرٍ من أن أبخسَ شاعرًا إبداعَه أو أحطَّ من قدرِه، فما قدّمتُه ليس إلّا وجهةُ نظرٍ والقاءُ ضوءٍ على انزياحاتٍ تتبّعتُها وأسبغتها حلةً من ذائقتي ومن فكري ومن نظرتي للحياة. فالشّاعرُ المحمودُ يملكُ قدرةً لغويةً عاليةً، والكتابُ يشهدُ على تلكَ الثّروةِ اللّغويةِ الّتي تزخرُ في نصوص الدّيوانِ فما الإعجازُ الّذي اصطدمتُ به إلّا عالمًا من الإبداعِ والابتكارِ الّذي أراده الشّاعرُ أن يكونَ مختلفًا متميّزًا وقد نجحَ في ذلك.
لقد وضعني هذا الدّيوانُ أمامَ امتحانٍ للمعرفةِ، وحثّني على المطالعةِ والاستكشافِ، فإذا توجّب عليَّ تقديمَ مداخلةٍ لكتابٍ من هذا النّوعِ، لا بدَّ أن أكونَ على قدرٍ من التّحدّي للغوصِ في لججهِ واكتشافِ معالمِهِ وصورهِ وانزياحاتِه. ولا أخفي عليكم أن هذا الكتابَ أثراني بطريقةٍ غيرِ مباشرةٍ، وأعتبرُه معجمًا يمكن الاستعانةَ به، كما أنَّ كلَّ قصيدةٍ فيه استفزّت قدراتي الذّهنيّةِ، وهذا أمرٌ لا يشعرُ به إلّا الّذين يحبّون عوالمَ التّحدّي!
في النّهايةِ أعذرني شاعرَنا على صراحتي المبالغِ فيها: حبّذا لو أعيدَ النّظرُ في الكتابِ قبلَ أن يُطبعَ حتى لا نرى اللّحنَ في اللغةِ والأخطاءَ الإملائيّةِ والنحويّةِ وكسرِ الوزنِ الّذي اكتشفتُه سماعيًّا قبل أن أدرس علمَ العروضِ، فمن كان بهذه البراعةِ في الكتابة لا بدّ أن يأخذَ بعينِ الاعتبارِ هذه الأمور. الفَ تحيةٍ لكَ الشّاعرُ محمود وإلى الأمام والمزيد من التّألّق.