“شتاءُ الغريب” – محمدبكريّة

غرفةٌ في فندقٍ قابعٍ كصومعَةٍ على خاصرةِ بلدٍ بعيد.

طرقاتٌ طويلةٌ لساقَيْه وعرباتِ الخيل.

نهارٌ قد انكمشَ  وليلٌ  تمطّى على قُبّعاتِ الجبال.

لا ينتظرُ أحدًا , لا ضيفًا عابرًا .

يشتهي طيرًا يحطّ على النافذة مُرهقًا من رحلةِ الشتاء المضنية.

مع ظلّه يعيشُ الغريبُ هنا وحيدًا , يقطّعُ الوقتَ بموهبِة التجلّي,

يرسمُ بوابةً واسعةً يعبرُها المبُعدون العائدون,

يهذّبُ مساكبَ الُدخان , يَشْذِبُ أشجارَ الزيتون , يُرهقُه اخضرارُ السهوب , يعيدُ شقاوةَ حّبٍّ قديم ,  يأخذُه النُعاسُ على تراتيلِ أمّه الحنون.

في نشوةِ الخيالِ يقولُ الغريب :

 لا تترنّحْ كثيرًا أيّها الهواء, غيّر طبيعتَك , كنْ صَلبًا لأثبّتَ قدماي على ظهرِك ,كنْ بساطَ سليمان.

  هنا يعيشُ الغريبُ وحيدًا يتلهّى بأثير بلادِه البعيدة ,

 بغدٍ صامتٍ ورتقاتِ غيمٍ أبيض , بنفسجٍ وافرٍ على التلال وظلّ صنوبراتٍ ظليل.

يخيطُ حُلمًا جميلًا يتّسعُ لخياله الجامح وليلِ الشتاء  الطويل .

 يغفو على كرسيّ في المقهى كإسباني عجوزٍ أرهقَه المللُ ونعاسُ الأصوات.

يصيحُ به الضوءُ ساخرًا , شهريار انهض لستَ أميًرا ,

لا تغفُ على عتباتي لئلّا تتعثرَ أكعابُ الآنسات بكَسَلِك الرتيب.

 انهض , فصلُ الربيع بعيدٌ ,  وهذه السماءُ قد خبّأت وجه الشمس وراء حجابِ الغيم ,أسودَ , أسود .

يشربُ قهوتَه خائبًا متعجّلا,  يتنزّى عن منحدرِ الحُلُم ويواصلُ السير ,

جفّفْ دموعَك يا غريب , , فلا تجزعْ, خانتْكَ كلُّ البلاد,

هل صدّقَ العاشقُ الوفيّ يومًا عهدَ الغانيات؟ 

خانتْكَ كلُّ البلاد , كذّبَ عليك عسلُ الخيال.

 عند منتهى الطَرْفِ سروٌ على خدّ تلة

يتمايل كما العاشقين الراقصين ,كأنّ  الريَح الكفيفةَ تخاصرُه .

 هناك قُبّةٌ, جرسٌ , وقدّاسُ الميلاد

يقول : قبلَ الصلاة أخلعُ عنّي أسمالَ الحداد.

وهنا , مئذنةٌ آمنةٌ وأعشاشُ حمام

 ليتني مثلَها  لأفرحَ بدُعابِ  السائحين يتمنّى الغريبُ في سريرتِه .

لا تصعدْ على التلالِ في رحلةِ الشوقِ والخيال لا تصعد على التلال.

الأنبياءُ وحدَهم من يَعرُجون فوق , وزرادَشْتْ هو الوحيدُ

من عادَ من الجبل مع ” إلإفيستا”.

هنا وترُ النهوندِ يعزفُ لحنَ اللّيل ,تسيلُ الروحُ على ضفافِه من برقٍ قد أضاءَ  وجه أمّه على صدْغِ القمر.

هنا يحيى غريبًا ,  شجرةً عطشى تنوءُ من وجعِ  الصيفِ والضجر,

لا حيلةَ لها إلّا إذا انهمرَ المطر .

هنا على ظلّه يموتُ مِنْ شُحّ  العواطف , يكتبُ تأبينًا لجثمانِه , إذْ لا يرى خلفَ نعشِه مشيّعين.

تذوبُ الذكرى تمّحي الذكرياتُ كنمشِ الفضاء , أوْ كبقايا شَبَحٍ هاربٍ من الضوء.

هنا يعيشُ غريبًا شريدًا, بلا مئذنةٍ  تأويه ,  أو قُبةٍ تُغطّيه,

 يَسقطُ من وجعٍ ما بين وحدةِ الرّوح وخيبةِ التجلّي

على ظّلّه يسقطُ , يموتُ بعيدًا عن وجه أمّه .

هنا عاشَ الغريب , هنا ماتَ الغريب

وحيدًا , وحيدًا.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*