غرفةٌ في فندقٍ قابعٍ كصومعَةٍ على خاصرةِ بلدٍ بعيد.
طرقاتٌ طويلةٌ لساقَيْه وعرباتِ الخيل.
نهارٌ قد انكمشَ وليلٌ تمطّى على قُبّعاتِ الجبال.
لا ينتظرُ أحدًا , لا ضيفًا عابرًا .
يشتهي طيرًا يحطّ على النافذة مُرهقًا من رحلةِ الشتاء المضنية.
مع ظلّه يعيشُ الغريبُ هنا وحيدًا , يقطّعُ الوقتَ بموهبِة التجلّي,
يرسمُ بوابةً واسعةً يعبرُها المبُعدون العائدون,
يهذّبُ مساكبَ الُدخان , يَشْذِبُ أشجارَ الزيتون , يُرهقُه اخضرارُ السهوب , يعيدُ شقاوةَ حّبٍّ قديم , يأخذُه النُعاسُ على تراتيلِ أمّه الحنون.
في نشوةِ الخيالِ يقولُ الغريب :
لا تترنّحْ كثيرًا أيّها الهواء, غيّر طبيعتَك , كنْ صَلبًا لأثبّتَ قدماي على ظهرِك ,كنْ بساطَ سليمان.
هنا يعيشُ الغريبُ وحيدًا يتلهّى بأثير بلادِه البعيدة ,
بغدٍ صامتٍ ورتقاتِ غيمٍ أبيض , بنفسجٍ وافرٍ على التلال وظلّ صنوبراتٍ ظليل.
يخيطُ حُلمًا جميلًا يتّسعُ لخياله الجامح وليلِ الشتاء الطويل .
يغفو على كرسيّ في المقهى كإسباني عجوزٍ أرهقَه المللُ ونعاسُ الأصوات.
يصيحُ به الضوءُ ساخرًا , شهريار انهض لستَ أميًرا ,
لا تغفُ على عتباتي لئلّا تتعثرَ أكعابُ الآنسات بكَسَلِك الرتيب.
انهض , فصلُ الربيع بعيدٌ , وهذه السماءُ قد خبّأت وجه الشمس وراء حجابِ الغيم ,أسودَ , أسود .
يشربُ قهوتَه خائبًا متعجّلا, يتنزّى عن منحدرِ الحُلُم ويواصلُ السير ,
جفّفْ دموعَك يا غريب , , فلا تجزعْ, خانتْكَ كلُّ البلاد,
هل صدّقَ العاشقُ الوفيّ يومًا عهدَ الغانيات؟
خانتْكَ كلُّ البلاد , كذّبَ عليك عسلُ الخيال.
عند منتهى الطَرْفِ سروٌ على خدّ تلة
يتمايل كما العاشقين الراقصين ,كأنّ الريَح الكفيفةَ تخاصرُه .
هناك قُبّةٌ, جرسٌ , وقدّاسُ الميلاد
يقول : قبلَ الصلاة أخلعُ عنّي أسمالَ الحداد.
وهنا , مئذنةٌ آمنةٌ وأعشاشُ حمام
ليتني مثلَها لأفرحَ بدُعابِ السائحين يتمنّى الغريبُ في سريرتِه .
لا تصعدْ على التلالِ في رحلةِ الشوقِ والخيال لا تصعد على التلال.
الأنبياءُ وحدَهم من يَعرُجون فوق , وزرادَشْتْ هو الوحيدُ
من عادَ من الجبل مع ” إلإفيستا”.
هنا وترُ النهوندِ يعزفُ لحنَ اللّيل ,تسيلُ الروحُ على ضفافِه من برقٍ قد أضاءَ وجه أمّه على صدْغِ القمر.
هنا يحيى غريبًا , شجرةً عطشى تنوءُ من وجعِ الصيفِ والضجر,
لا حيلةَ لها إلّا إذا انهمرَ المطر .
هنا على ظلّه يموتُ مِنْ شُحّ العواطف , يكتبُ تأبينًا لجثمانِه , إذْ لا يرى خلفَ نعشِه مشيّعين.
تذوبُ الذكرى تمّحي الذكرياتُ كنمشِ الفضاء , أوْ كبقايا شَبَحٍ هاربٍ من الضوء.
هنا يعيشُ غريبًا شريدًا, بلا مئذنةٍ تأويه , أو قُبةٍ تُغطّيه,
يَسقطُ من وجعٍ ما بين وحدةِ الرّوح وخيبةِ التجلّي
على ظّلّه يسقطُ , يموتُ بعيدًا عن وجه أمّه .
هنا عاشَ الغريب , هنا ماتَ الغريب
وحيدًا , وحيدًا.