ما بين الكمّامة والكيلوت وكمّ الأفواه – حسن عبادي

تصفّحت صباح الجمعة الفائت، كعادتي مع قهوة الصباح، صحيفة “المدينة” الحيفاويّة، فوجئت بمقالة بعنوان “السمات المشتركة بين الكمامة والكلوت” للكاتب فراس حج محمد، قرأتها مثنى وثلاثًا، ومن باب الدعابة صوّرتها على شرفة منزلنا وبعثتها لفراس وإذ به يشاركها على صفحته فعقّبت: ” مقاربة جادة وجريئة، مقالتك نوّرت حيفا وشرفتنا، وصحيفة المدينة الحرّة”.

قارب الكاتب بين الكمّامة والكيلوت والدور الذي تقوم به كلّ منهما؛ وتطوّر هذا الدور عبر التاريخ، فقديمًا لم تكن النساء تغطي فروجهن بالكيلوتات في فترة ما قبل الحلال والحرام والعيب، وكانت تعيش بفطريّة مطلقة… ثم أتى زمن على البشرية غطّت فيها النساء فروجهن بالكيلوتات، وصار الفرج عيباً ومحرّمًا،  والتعرّي منافيًا للأخلاق العامّة البشريّة.

وها هي البشريّة مقبلة على مرحلة تعييب الفم وتجريم رؤيته دون كمامة، ليصير الفم عورة كما هو الفرج عورة “لا بد من تكميمه عمليا، اجتماعيا وسياسيا، وفلسفيا وفكريا، ونقله من وضع كان الناس يباهون فيه بجمال أفواههم إلى وضع يخجلون من الكشف عن أفواههم، فصارت موضع شك ومكان نفث العلل والأمراض والموت”.

صرنا في زمن أصبحت المخالفة على إظهار الفم شبيهة بالمخالفة التي كانت ترتكبها النساء عندما كانت تسير عاريات تماماً في الشوارع.

نعيش في زمن الموضة التي تتحكّم بكلّ كبيرة وصغيرة، ليجد فراس تشابهًا آخر بينهما؛ “هو التفنّن في صناعتها لتتوافق في ألوانها مع بقية ألوان الألبسة، تماما كما أن هناك توافقا بين الملابس الداخلية بألوانها وأشكالها؛ “اصطحبتها  إيحاءات أكثر أيروسية لتتوافق الكمامّة  في لونها مع الكيلوت وحمالة الصدر حرصاً على الأناقة والتآلف ومراعاة أسس التزيّن العصريّة وقواعد الإتيكيت”.

يحذّر الكاتب بلباقة من خطر أن “يكون  الكشف عن الفم جريمة أخلاقيّة تشبه الكشف عن الفرج، وربما صار “التناكح بالأفواه”- في الزمن القادم- سلوكاً تعويضيًا عن حالة الإخفاء القسري هذه، هو البديل الاحتجاجي الأكثر بلاغة وفعالية ضد من يفرضون على البشر تلك العمليات المجنونة من التحول الوحشيّ الغريب في أطواره وأسسه التي يقوم عليها، متجاوزين ما يحدث أحياناً في هذا العصر عن الكشف عن الصدر أو المؤخّرة والكتابة عليهما تحديّا للعرف العام إمعاناً في الاحتجاج عليه وتحقيره”.

 

 

فوجئت بالكاتب يبعث لي برسالة جاء فيها: “من الضرورة الإشادة بموقف رشاد عمري رئيس تحرير صحيفة المدينة الذي أفرد للمقالة صفحة كاملة في الصحيفة، وأعلن عن نشرها على الصفحة الأولى من الصحيفة، متحديا ومسجلا موقفا منحازا مع حرية التعبير ومناقشة الأفكار دون قداسة أو خجل”.

تبيّن لي لاحقًا أنّ بعض الصحف والمواقع التي تنشر المقالة الأسبوعيّة للكاتب امتنعت عن نشر هذه المقالة “لخدشها للحياء العام”، لا أكثر ولا أقلّ!

كذلك الأمر بالنسبة لمتابعيه، وهم كُثُر(أكثر من خمسة عشر ألف متابع)، فغالبيّتهم تجاهلوه وأهملوه لئلًا يصيبهم “الصَرع”!

تابعت بعض التعليقات الهزيلة؛ كتب أحدهم: “لا أعرف حجم الشتائم التي ستنهال عليك أو تنهار بعد هذا المقال، ولن أستطيع حمايتك من الحجارة التي سيلقونها عليك فتحمّلها وحدك يا صديقي، فبعد أن تصحر الرأس مني لا قِبَل لي بتحمل صرارة فكيف بحجارة؟”.

كتب آخر تحت عنوان “فرقٌ شاسعٌ بين مقالٍ ساخر ومقالٍ عاهر”: “لكأنّنا  أمام محاولة استظرافية فاشلة مؤسفة  للمقاربة بين نقيضين، ولأنني منذ أكثر من أربعين سنة – بداية مشروعي الادبي- ترفّعتُ عن الأدب الإباحي وما عرف بالإيروتيكي ومنتجاته القبيحة التي يراها البعض انعتاقًا و جرأةً فيما أراها سخطةً و سقطة.. لن ألجأ لذكر ما جاء عليه كاتب المقال  ومستوى الرداءة  في النص ومحاولة الولوج إلى قناعات المتلقّي عبر سبل التفافية  أساءت للنصّ ولم تخدمه فأضافت إليه المزيد من الرعونة والعريّ المفضوح على حساب الهدف النبيل إن وجد، تاركًا للقارئ اكتشاف هذه البذاءات بين السطور… وللحقيقة، أرى عبر هذه العجالة  أهمية  البحث عن تصنيف جديد ملائم، ندرج هذا النوع من الكتابة  تحته … وكمقترح أولي …أرى أن مصطلح (الأدب الكلاسيني) .. ومستوى هبوط اللغة والصورة الأدبية بما يتواءم مع هذا الاسفاف والتردّي في مادة قد يراها البعض خروجًا متاحًا عن المألوف وتغريدًا مشروعًا خارج السّرب، فيما أراه ومجموعة من وقفوا ضده استفزازًا منفّرًا في شان حيوي عام ووباء خطير يفتك بأرواح عزيزة لا يمكن أن تتحوّل في مقال استعراضي إلى مادة تندّر تضج بالسقطات السخيفة التي لم أتمنّها يومًا لهذا الكاتب او سواه.. إنّه لمن العار أن يندرج هذا النوع من النتانة والقرف تحت مسميّات الأدب ، أشعر بأسىً عظيم، بل بالخجل والاضمحلال ككاتب فلسطيني”.

 

 

وكتبت أخرى: “إن لم تستح فاكتب ما شئت. بئس المقال وبئس المقاربة”، فالغالبيّة الساحقة تجاهلته ورأت فيه بُعبُعًا، والأخرى هاجمته بشراسة تُحسد عليها، ولكن رغم ذلك أرى الضوء في نهاية النفق حين أقرأ ما كتبه الأديب المقدسيّ إبراهيم جوهر: “بصراحة يا فراس: أنت جريء جدا…تكتب وعينك على مشروعك الثقافي الخاص ولا تحسب حسابا لردة فعل القارئ وأنت ترجّ ما اعتاد عليه قراءة واستماعا…”، والكاتبة السوريّة رجاء شعبان: “مقال أكثر من عميق ورائع، يدق ناقوس الخطر على هول ما يحصل في المجتمعات البشرية وإعادة تدجينها مرة أخرى بصيغة أخرى دون فهم واعتراض على ما يجري حتى أنهم الظلاميون يحاولون القضاء على أي أثر للقيم الإنسانية بحجة الدفاع عن صحة وحياة الإنسان. ما يجري أخطر من مجرد وباء يحصد الأرواح. إنه يحصد الحياة نفسها والقيم الجميلة”، والشاعر والناقد الفلسطينيّ محمد علوش: “المقاربة قوية وتحمل دلالات والمقالة جريئة وصادقة ومعبرة .. لقد كتبت ما نعجز عن كتابته جميعاً.”

عقّب الفنّان التشكيلي الفلسطيني عبد الهادي شلا المغترب في كندا: “مقال أدبي فيه رؤية فلسفية في زمن يدّعي الفضيلة، لذلك أنصح بأن تستقبل الردود بروح الأديب الواعي”، والروائي الأردني قاسم توفيق: “قيم متعددة جمعها هذا النص، يضاف إليها جمالية النص وحالة السرد والتأريخ الموثقة والمهمة وكذلك الشرح التاريخي الموضوعي لمسألة التحريم، والأهم أيضا والأكثر عمقا هذا الربط بين أدوات الأسر واسقاطها على الواقع الذي أفرزته اللعبة الإمبريالية الجديدة، الكورونا، صديقنا الكاتب الملهم أبدع في كشف جدلية وسيرورة المؤامرة الكونية التي حيكت وتحاك اليوم ضد الإنسانية”، أمّا الشاعرة والروائيّة الأردنيّة صفاء أبو خضرة فكتبت: “لا أنكر أبدا دهشتي عند قراءة العنوان، الكاتب جريء وهذا ما تحتاجه الكتابة المطلقة إذا ما كانت غطاء تندرج تحته معطيات ذات شأن لا أن تكون سطحية لا هدف منها سوى لفت الانتباه وهذا ما لم يقله الكاتب أن يكون سطحيا، بل كان جريئا فضح الواقع وعرّاه وجعلنا نشاهده على طبيعته التي تحوّل إليها فعلا.. أقول للكاتب، لا عليك من الحجارة.. أكتب بعمق واجعل الكلمات سميكة حتى لا تتكسر تحت الرشق.”.

بالمجمل؛ تواجه المقالة حملة نكراء بحجّة خدشها للحياء. لا أكثر ولا أقلّ! كأنّنا قد عُدنا إلى عصور الظلام ومحاكم التفتيش.

 

 

ملاحظة لا بدّ منها؛ إذا قارنّا ما كتبه فراس وبين إباحيّة أزمنة مضت نجده “لايْت” ونجد أنّ أسلافنا كانوا أكثر انفتاحًا وجرأة، يسمّون الأشياء بمسميّاتها دون رتوش وتورية. صدق الراحل نزار قباني بقوله: “إنّ ما فعله كان نقل سريره إلى الهواء الطّلق، من منطلق رفضه أن يلعب اللعبة خلف الكواليس. أمّا الهدف من ذلك، فهو أن أحرّر أثداء النساء من أسنان الخلفاء، أن أُنهي مرحلة السريّة والأحكام العرفيّة المفروضة على جسد المرأة العربية، وأُعيد للحبّ شرعيّته”.

وأخيرًا، هيّا بنا نبتعد عن القطيع والقبيلة ونفتح عقولنا للتعدديّة وقبول الآخر تيمُّنًا بما قاله الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير في القرن الثامن عشر: ” لا أوافق على رأيك، لكنني مستعد للموت من أجل حقك بالتعبير عنه”.

حسن عبادي

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*