“أرباب العمائم والطرابيش” هي استعارةٌ معروفة. وُظّفت في حينه للإحالة إلى شيوخ الدين والمثقّفين والتخاصم النخبوي الفوقي بينهم على اتّجاه النهضة العربية. استعارةٌ عتيقة ودقيقة وجميلة. ولجمالها ودقّتها أستعيرها من سياقها التاريخي لأضبط أفكاري وأطروحاتي اللاهثة في هذا المقال المستعجل. غير أنها لن تفيدني كلّ الإفادة في صياغتها الحالية إلا بعد ترميم، أتمّم ما نقص منها وأوسّع ما ضاق فيها. أولا: الاستعارة ناقصة تعوزها الحطّات. والحطّات الفلسطينية هي من العلامات الأيقونيّة لعامّة الناس ومن مخايل الجماهير التحتيّة العريضة. ثانيًا: ضاقت الاستعارة في إحالاتها فانحصرت العمائم في الدين وشيوخ الدين والطرابيش في أرباب الفكر الدنيوي الأرضيّ. توسيع الاستعارة، كي تشمل كلّ أشكال السلطة بكلّ مجالاتها المعرفية والسياسية والاجتماعية والأدبية، هو من موجبات النقاش في هذا المقال.. والمقال عن هذه الصحبة الثلاثيّة، أرباب العمائم والطرابيش والحطّات، وتفاعلاتهم لإنتاج الثقافة وتنسيقها في أنساق. والثقافة التي نعنيها هي لفظ حاشد يحشد في تضاعيفه كلّ معاني الفكر والأخلاقيّات والأدبيّات.
المقال عن هذه المعاني، عن الثقافة بلواصقها المعجمية ولواحقها الاجتهادية، عنها نفسها وعن أنماط إنتاجها وتغليفها وأعراف استهلاكها. والثقافة بركة لأنها وليدة الحركة. لا تكون الثقافة إنتاجيّة بالتعاقب الأحادي، ولا يمكنها أن تكون، لأنها في فطرتها نتاج مُنابذة أو مُنافرة أو تهاوش. وهذه كلّها تُفضي إلى اختلاف أو خلاف يعقبه تفاوضٌ بالضرورة. الخطاب التفاوضي مع الآخر يضبطه منطق الكرّ والفرّ والأخذ والعطاء. الخطاب التفاوضي تبادلٌ وتداول. هذه هي الحاضنة القبْليّة لكلّ حالة مثاقفة. والمثاقفة أبقى من الثقافة وأجدى. الثقافة عمل والمثاقفة عمليّة. والفرق بين العمل والعمليّة في أنّ الأول تتابعي والثاني تبادلي. العمل يتحرّك باتجاه تعاقبي مضبوط وملزم “من إلى”. والعمليّة هي تفاعلٌ بين أطراف تحتكّ أفكارهم، تصطدم، تتهاوش، تتلاقح فتنتج حالة مثاقفة.. و”ما محبّة إلا بعد عداوة”.
الحركة الثقافية والفكرية، بمفاهيم جغرافيّة، رباعيّة تتحصّل في أربعة اتّجاهات هي أربعة خطوط مركزية: (1) من الثقافة ما ينتج في خطّ نازل من فوق إلى تحت، (2) ومنها ما يتحصّل في خطّ طالع من تحت إلى فوق، (3) ومنها ما يكون في خطّ ثنائي تبادلي من طلوع ونزول، (4) ومنها ما يكون بتفاعل المتجاورات، بالتلاقح التعدّدي العرْضي.. هذا ترتيبُ مفاضلة وليس مصادفة. أنجع الخطوط الأربعة أواخرها وأعنفها أوائلها. التفكير النازل دموي قمعي. التفكير الطالع عفوي فوضوي بحاجة إلى ضبط وتقنين. التفكير التبادلي حواريّ. والتفكير التعدّدي تكافليّ. الثقافة النازلة هي رقابة العسكر والثقافة الطالعة هي رقابة الشارع والثقافة التبادلية والتعدّدية هي رقابة حواريّة تكافليّة.
(1) الثقافة النازلة
الثقافة النازلة مُجلبةٌ صاخبة، سطوتها في قدرتها على تفعيل الجلبة والصخب. من الفكر ما يندسّ، بسطوة القمع والقهر، في كلّ الشقوق المباحة والجحور المتاحة، مثل السيل العارم يندفع ويندسّ. حركته اندفاعية من فوق إلى تحت، من عارفٍ يدّعي في العلم معرفةً إلى جاهلٍ حرصوا على تجهيله. الثقافة النازلة تنزّلها “السلاطين” من أرباب العمائم والطرابيش إلى أرباب الحطّات البيضاء والسوداء والحمراء. هذه ثقافة قهرية ضاغطة. لأغراض التمثيل والتوضيح أذكّر بأنّ الجدانوفية تفكير نازل، نموذج كلاسيكي للثقافة النازلة. كان جدانوف يرسم الأفكار، ينتقيها بعناية قصوى، ينزّلها ويفرضها على الكتّاب والأدباء والمثقّفين من فوق إلى تحت. كان يُسقط فرماناته الأدبية والثقافية بقوّة الدفع الرباعي.. التفكير النتنياهوي نازل هابط متهافت، واحدٌ وحيد يقرفص فوق رقاب الناس، يتحكّم بمصائرهم ويعيد ترتيب مؤسّساتهم على النحو الذي يرتضيه لنفسه. لأجل واحدٍ وحيد تحوّلت الدولة إلى ورشة انتخابات يقظة بصفة حوليّة على نحوٍ يضمن بقاءه بعيدًا عن أروقة المحاكم. التفكير النتنياهوي تكفيري لأنه يحتكر المعرفة والحقيقة.. وعندنا نحن ما زالت الانتخابات المحلّية في كثيرٍ من قرانا ومدننا تخضع لثقافة نازلة. في التفكير النازل الحمولة أو الطائفة تُنزل صوتها جاهزًا مبرمجًا يريح الجماعة من القرار، يصادر حقّهم في المشيئة الفردية. في التفكير النازل نصوّت كالقطيع للحمولة أو الطائفة. في التفكير النازل يتحرّك كلّ أرباب العمائم والطرابيش والحطّات بشكل آليّ مبرمج جاهز قبْلي. حتى نتنياهو نفسه، الذي يُنزل مشيئته من فوق إلى تحت، توجّهه رغبته الغرائزية المحوسبة في البقاء، حتى باتت ممارساته آليّة مؤتمتة مرسّمة مسبقًا.. التفكير الجندري/الجنساني في مجتمعاتنا القبَلية والعشائرية نازل، يقيّد المرأة بقيود فحولية ويعقلها بأصول مستفحلة. التفكير الجندري عندنا نسق قهر وقمع. الثقافة الجندرية هي منتج منجز تفرضه الأصول والأعراف المجتمعيّة المعلّبة والمجهّزة بالتراكم. التفكير النازل هو الذي حجب رواية علاء الأسواني “عمارة يعقوبيان”. وهو نفسه الذي يجعل مساحة الحريّة المتاحة في كلّ العالم العربي لا تكفي لكتابة رواية واحدة مثلما يقول يوسف إدريس.
التفكير القبائلي نازل. التفكير السلفي في كلّ مناحي الحياة ومفازاتها نازل. التفكير الفحولي نازل. التفكير الرأسمالي نازل. تفكيرٌ يضغط باستمرار ويقمع بإصرار، يرهب ويرعب. في التفكير النازل يتساوى كلّ الأرباب الثلاثة في مصير تراجيدي واحد. أدقّ مثال للتراجيديا هو التفكير النازل. والتراجيديا في أبسط تعريفاتها هي هذا الوجع الذي يجلبه الإنسان على نفسه بنفسه. الثقافة النازلة هرمية في ترسيمها الخرائطي وبنيتها المنجزة. كلّ ثقافة نازلة يقف على رأسها جلف غليظ الكبد.
(2) الثقافة الطالعة
حركة الجموع طالعة. حركة التاريخ تصعد من تحت إلى فوق. حركة الواقع والظرف طالعة تصعد بقوّة. سنة كاملة والكورونا تتحرّك إلى أعلى بحركة رأسية عمودية تصعد من قاع الواقع والظرف. أنتجت أخلاقيّات وسلوكيّات عُرفيّة وفرضت نفسها على أجندة القرار السياسي العالمي وما زالت. صارت الأجندة الطبّية تضغط على عصب القلق العالمي، وكانت من قبلُ على هامش الخطاب الجماهيري والنخبوي على حدّ سواء. بات المصطلح الطبّي منسيًّا وأصبح مأنوسًا. أصبح الخبر الطبّي يتصدّر نشرات الأخبار المركزية في العالم كلّه من أقصاه إلى أقصاه. حتى نحن عامّة الناس صرنا أنصاف أطبّاء نتقن فنّ التشخيص والاستشفاء والتداوي، صرنا بسنة واحدة خبراء بأنواع الفيروسات والفروق بين التطعيمات وأنواع الكمامات والحقن الطبية. كلّ هذا وأكثر بسنة واحدة. التحتيّ يحدّد الفوقي والمستقبلي. بحجّة الكورونا قامت حكومة وحدة في إسرائيل. نتنياهو يستعمل الكورونا لفرض أجندة مستقبلية. الكورونا وضّحت الحدود العائمة بين الشمال والجنوب وبين الأبيض والأسود. من يملك ثمن التطعيمات يسابق الريح ويدفع أضعافًا مضاعفة ليقتنيها. ومن لا يملك ينتظر دوره في آخر الصفّ. والدور يبدأ عند المالك الفوقي والقوي. أعادت الكورونا إلى الأذهان التقاطب والتنافر بين الأقطاب الذي جاءت كلّ نظريات ما بعد الاستعمار لمعاداته. خفّفت الكورونا من حدّة العولمة وسطوتها القهرية وميّعت فكر القطب الواحد. حتى بعد انقلاعه من البيت الأبيض ما زال ترامب يصرّ على تسمية الكورونا بالفيروس الصيني. حتى اليوم ما زالت الدول الغربية تحارب التطعيم الصيني والروسي بالسخرية والإسفاف. بسنة واحدة فضحت الكورونا عورات العولمة ووهمها. بحركتها من تحت إلى فوق بيّنت وهن الوهم الذي سوّل للشمال الأبيض أن يسيطر على الجنوب الأسود بحجّة العولمة.. والثقافة الطالعة هي التي ضغطت من تحت إلى فوق وحاربت الزميلة سامية محرز ومنعتها من تدريس “الخبز الحافي” لمحمد شكري في الجامعة الأمريكية في القاهرة. هذه رقابة شارع.. قد تكون القائمة المشتركة من إفرازات الضغط الجماهيري التحتي. وقد تكون مقنعة وصادقة. قد تكون. لكنّ الضغط الطالع من تحت إلى فوق حالةٌ مؤقّتة ينبغي أن نُرجع البصر إليها كرّات وكرّات.. والحبل على جرّاره لم يصل إلى القاع… الثقافة الطالعة بعضها حميد وبعضها خبيث وبعضها عفوي عارض وبعضها مرتبك.. وكلّ هذه الأبعاض تتحرّك بعشوائية تحتاج إلى ضبط وتقنين، لا يضبطها إلا التفكير التبادلي التعدّدي، ولا تقنّنها إلا الرقابة الحواريّة التكافليّة.
(3) الثقافة الحواريّة الطالعة النازلة
أليس الفعل الثقافي برأسيه الإثنين، الآيديولوجي والإستراتيجي، الفكري والإجرائي، ملزمًا بأن يُنزل ويرفع؟! أليس هو الذي ينبغي أن يرفع الإرادات والمشيئات والرغبات والغايات ويُنزل الأدوات والاستراتيجيات لتحقيقها؟! أليس السياسي كالأديب ينصت إلى الآلام كي يحوّلها إلى آمال بما يحفظ ماء الوجه؟! السياسة كالأدب منظومة آيديولوجية تعرض حزمة فكرية تفعّلها بأدوات إجرائية ملائمة تتساوق مع الغايات التحتية. والأدوات نفسها تصير مرجعًا للوعي والتوعية حين تتحوّل من أدوات إلى غايات. غائيّة الأداة جزءٌ من كلّ تفكير آيديولوجي منظّم (بالتحتانية والفوقانية). والحديث ليس لمنصور عباس وحده. إذا كانت مطالب الجماهير لا تُحقّق إلا باستراتيجيّة المواجهة والمراغمة، وما تستلزمه من أدوات نضالية، فهذه الاستراتيجية تصير جزءًا عضويًا من الآيديولوجيا نفسها. استراتيجية النضال تصير بالتراكم والتداول ثقافة عضوية عند أرباب الحطّات إذا أصررنا عليها وناقشناها معهم بالتفاكر والتثاقف. الأدب، مثل السياسة، فعل فكري ونشاط معرفي في المقام الأول، يسحب مادّته من تحت يرفعها إلى فوق، يصوغها بالأدوات الملائمة ليعيد تصديرها إلى مصدرها حيث أتت. أدوات الصياغة والإنتاج من واجب الأديب. الفكرة من حقّ الناس. يقول المثل الشعبي البريء، الذي يحتاج إلى مزيدٍ من التدقيق والتهذيب: “كُل اللي بعجبك والبس اللي بعجب الناس”. مثلٌ مقبول على علّاته.
نريد طريقًا ذلولا لا ذليلة ولا مُذلّة. إيْ، نريد عنبًا رغم أنف الناطور، عنبًا من كرومنا التي سلخها منا الناطور وسحلها يا شيخ منصور. نريد القطوف الدانية والعالية بالمراغمة لا بالاستجداء. الناس لا يطلبون ولا يقبلون أصلا أن تطعمهم عنبًا مرشوشًا بالمهانة. هذه هي فطرة الناس. ربّك الأعظم خلق الناس على فطرة الكرامة إلا من وهن منهم وارتخى. وواجبك تأييد الضعيف بقوّة من عندك. رفع الناس أصواتهم وبحّت حناجرهم نعم لكنهم لا يقبلون أن تذلّ نفسك أو تذلّهم. رفعوا إليك حاجاتهم لكنهم لم يرفعوا إليك طلبًا بالمذلّة. حدّدوا رغباتهم وغاياتهم فحدّد أنت الصراط المستقيم الذي يرتضونه لهم ولك. إذا كنت تنصت إلى هذه الحناجر فانصت أيضًا إلى نبض فطرتها التي تدفع عنها أسباب المهانة والخسف. لسنا محترفي وجع ولسنا بالقطع محترفي توجّع أو تفجّع، صحيح، لكننا بنفس القدر بالضبط والتحديد لسنا محترفي ذلّ ولا هوان.
أليست السياسة، مثل الأدب، تهدي للذي هو أقوم وأصلح؟! من ذا الذي يملك أُذُن خير ينصت لصوت الحقّ والخير؟! من هذا الذي يجعل الطريق ذلولا لا ذليلة؟! أليس السياسي كالأديب مشّاء بخير الناس ساعيًا إليه؟! ومن ذا الذي يحدّد الأقوم والأكرم؟! أهم أرباب الحطّات وحدهم؟! وهل هم أرباب العمائم والطرابيش وحدهم؟! السياسة كالأدب لا تشتغل شغلها إلا في مهاد الحواريّة النشطة بين قاعدة الهرم ورأسه. أرباب الحطّات، يا أرباب العمائم والطرابيش، أتعبتهم النتنياهوية وأرهقتهم فاتّقوا الجماهير الذين أنتم لهم ممثّلون خادمون. يرفعون إليكم أصواتهم فخذوها واضبطوها وشذّبوها وارجعوها إليهم مهذّبة. واجب العمائم والطرابيش أن تنصت وتحاور وتهذّب. ليس من واجب السياسي أو الأديب أن ينقل. واجبه أن يعقل. حين تصرّ السياسات النازلة على الضغط قد ترتبك بعض الهمم المتعبة والمرهقة وقد ترتخي، يا دكتور منصور، فتختصر الطريق إلى غاياتها. وهذه مغامرة ومقامرة خطيرة. واجبك أن تنصت بقدر ما تصحّح. إذا كنت تحتجّ بآلام الجماهير وتعب الناس، وحجّتك صادقة، فاضرب عصفورين بحجر!
(4) الثقافة العرْضية التعدّديّة
الثقافة العرْضيّة تجاورية. والتجاور يجعلنا في مسيس الحاجة إلى عِمامة الشيخ منصور عبّاس وطربوش الأستاذ أيمن عودة ومحمد بركة وحطّة جاري أبو العبد حتى تتحرّك ثقافتنا باتجاهات مكوكيّة متعاكسة، لعلّها تتجافى، تتوازى، تتقاطع، وتتلاقى على الحدّ الأدنى. العلاقة بين هؤلاء الأرباب الثلاثة تعاقدية تؤسّس لمنطق التجاور والتحاور. حديثي عن التجاور وليس عن وحدة الحال بالضرورة. لا يفزعني النقاش بين أرباب العمائم والطرابيش والحطّات. يزعجني غياب النقاش إلى حدّ الجزع. تعجبني الرقابة المسافرة بينهم حين تنسل مثل الريح من كلّ حدب.. الثقافة العرضية التعدّديّة تأثير وتأثّر. التفكير العرضي يمهّد الطريق لقبول الآخر والمختلف. والقبول لا يعني العناق ولا الاعتناق بقدر ما يعني الحقّ في التجاور. إذا كنا لا نستطيع أن نشطب المختلف بجرّة قلم ولا بجرّتين فالأولى أن نحاوره على قاعدة المجاورة. المجاورة تتيح للأضداد أن تتفاعل على أساسٍ سلمي تصالحي. لن تزول الضدّية ولن تمّحي لأنها فطرة الحياة، لأنّ الأخرويّة من ضرورات الوجود وموجباته. من أحرق شجرة الميلاد في سخنين هو الآخر، من أحرقها محروقٌ بجهالته وغبائه وضآلته وضحالته من ناصيته إلى اصبع القدم، محروقٌ عظمه ولحمه من يافوخه إلى أخمص القدم.
أذكّر
التفكير النازل دموي قمعي. التفكير الطالع عفوي فوضوي بحاجة إلى ضبط وتقنين. التفكير التبادلي حواري. والتفكير التعدّدي تكافليّ. الثقافة النازلة هي رقابة العسكر والثقافة الطالعة هي رقابة الشارع والثقافة التبادلية والتعدّدية هي رقابة حواريّة تكافليّة… وكلّ عام ونحن جميعًا بخير وعافية وهدأة بال في هذه اللحظات المقدّسة والمباركة!