السلام عيكم ورحمة الله وبركاته؛
بدايةً، أحيّيكم من حيفا وكرملها وبحرها، واسمحوا لي أن أشكر الصديق سعيد الطارشي الذي دعاني للمشاركة وأتاح لي الفرصة لأكون معكم وبينكم في هذا الملتقى الاحتفائي بلغتنا العربيّة في يومها العالمي، وكلّي أمل أن تكون كلّ أيامنا لغة عربيّة، لصيانتها وحمايتها في ظل المعركة الكونيّة ضدّها في زمن العولمة.
وُلدت في قرية كفر قرع، لواء حيفا في فلسطين المحتلّة، درست اللغة العبريّة منذ الصغر، في مرحلة المدرسة الابتدائية، حيث كانت محاولة شرسة لأسرلة أهلنا وتهويد البلاد، درست القانون في الجامعة العبريّة في القدس وأزاول مهنة المحاماة منذ عام 1984. أستعمل اللغة العبريّة يوميًّا خلال مزاولة مهنتي وحين المرافعة اليوميّة في المحاكم الإسرائيليّة وفي تعاملي مع الزملاء وفي الحياة اليوميّة.
مع الزمن تبلور الحسّ القومي العروبيّ لدى جيلنا، بعد أن صمد أهلنا في وجه محاولات الاقتلاع والتهجير إبان النكبة، لإيمانهم بأنّ الحجر في أرضه قنطار، ومن هنا بدأنا بدراسة اللغة العبريّة على أصولها والتمكّن منها، من باب النديّة وصراع البقاء لنتميّز بها.
إن للترجمة دورًا مهمًّا جدًّا وضروريًّا في عملية التثاقف بين الشعوب المختلفة، وهي بمثابة وسيلة للتفاعل مع الآخر الذي يتكلّم لغة أخرى. هي وسيلة للتواصل ولبناء علاقات إنسانيّة سليمة، وأعتبرها جسرًا يربط بين الشعوب والفئات ويقرّب بينها، فهي تؤدّي إلى التفاعل بين الثقافات المختلفة.
“اعرفوني كما أريد! وسأختار ما أريد وأُترجمه بنفسي!” هذا ما قاله صديقي د. نبيل طنوس في حواريّة حول الترجمة وأصولها، فالترجمة عبارة عن فن وضرورة كونيّة من أجل التعرّف على الآخر وتفهّمه عبر ثقافته، والحديث عن الترجمة الأمينة، بعكس الترجمة الحرفيّة و/أو الحرة، التي تسعى للحفاظ على روح المتَرجَم ورونقه وليس الترجمة “الغوغليّة” الحرفيّة الخشبيّة أو المعدنيّة التي تُفقِد النص جماليتّه وتُشوّهُه.
نحن، كأقليّة قوميّة نعيش بين أغلبيّة يهوديّة، حافظنا على لغتنا وعروبتنا، رغم حرب التهويد اليوميّة، نقرأ الصحف العبريّة ونتابع الإعلام العبري ووسائل التواصل الاجتماعي ومنها نستمدّ قوّتنا في صراع البقاء اليومي، من باب “اعرف الآخر”؛ فالمعرفة قوّة وسلاح مقاومة فتّاك، ومن هنا نعمل على ترجمتها للتعايش معها.
أعي تمامًا أنّ هناك ترجمة مؤسّساتيّة مبرمجة ومؤدلجة، بصورة سلبيّة، أطلقتُ عليها في حينه “ترجمة شباكنِكِت” أي ترجمة مخابراتيّة استخباراتيّة، تحاول تشويه اللغة العربيّة ومحوها، تجييرها وتهويدها، فسرقوا المعالم التاريخيّة والجغرافيّة، سلبوا المكان والزمان، سرقوا الأكلات الشعبيّة واللباس الشعبي، الأغنية والرقصة العربيّة، في محاولة مُمأسَسة للسطو على اللغة، ومن هنا تنبع أهميّة معرفتنا وإلمامنا باللغة العربية كي نقف بالمرصاد، حُماة للغة والديار.
وكما كتب المترجم من العربية البروفسور يوسف ريفلين ،مترجم القرآن الكريم إلى العبرية: “التعرف إلى الشعر العربي هام خاصة لنا اليهود، والتي كان لها الأثر الكبير على أدبنا القديم، خاصة في العهد الإسباني، العهد الذي يعتبر الأكثر تألقا في أدبنا”(من ترجمته لأشعار عنترة بن شداد).
ومن هنا، معركتنا مع اللغة يوميّة؛ حيث تحاول المؤسّسة من خلال الترجمة المشوّهة إعادة قراءة للفلسطيني، وقراءة جديدة بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة، لا، بل تزييفها وتزويرها بما يخدم مصالحهم ونهجهم في بناء التاريخ والتأريخ من جديد.
أخذوا بدايةً مصطلحاتنا وأدخلوها للمعجم العبري، مع تحريفها، لعبرَنَتها وتهويدها، في محاولة بائسة منهم ونسبها لهم أبًا عن جد. كم يؤلمني سرقة مأكولاتنا ونسبتها إليهم، مع تغيير حرف هنا وهناك في محاولتهم لصهينتها، من الحمص والفلافل والتبّولة والمجدّرة، وهذه السنة سرقوا العرايس. وكذلك سرقة أسماء الشوارع والأحياء، القرى والمدن الفلسطينيّة في محاولة لجعلها عبريّة “أصليّة وأصيلة”.
من هنا جاء الرد عكسيًّا؛ تمسّكنا أكثر وأكثر بلغتنا وتراثنا، عُدنا للغتنا العربيّة الجميلة على أصولها، وشخصيًا “هجرتُ” الترجمات العبريّة للأدب العالمي ولجأت للترجمات العربيّة، وبدأت أفكّر وأكتب المقالة الأسبوعيّة بالعربيّة، بعد أن كنت أكتبها بالعبريّة.
يرى بعض النّقّاد أنّ “التّرجمة خيانة”، وكما كتب الأديب الفلسطيني فراس حج محمد: “إنّها هنا ستبدو جريمة لغويّة وفكريّة. لأنّ المترجم خاضع للشّرط اللّغويّ الخاصّ الّذي ينطلق منه لفهم النّصّ الأصليّ. ثمّة حساسيّة لغويّة لدى الكاتب حتّى مَن يكتب فكرا محضا، وليس فقط شعرا، ستفقد الألفاظ حساسيتها السّياقيّة ومدلولاتها اللّغويّة العميقة الّتي أراد الشّاعر أو الكاتب أو المفكّر أو الرّوائي تحميلها للّفظ في سياقه عند صناعة الجملة في اللّغة الأصليّة.
كان الراحل غسّان كنفاني، (صاحب مصطلح أدب المقاومة) أوّل من ترجم الأدب العبريّ للقارئ الفلسطينيّ والعربيّ، ليكشف عن حجم التضليل والدعاية السياسية الصهيونية المفخّخة في هذا الأدب روايات وأشعاراَ، وكيف نجحت تلك الأعمال في الوصول إلى عقلية القارئ الغربي، والعربي، فيتبناها ويدافع عنها، وعليه يستوجب مراعاة أهداف التّرجمة وغاياتها وألّا تكون عشوائيّة”. وخطا على طريقه بعض المترجمين العرب، ومنهم على سبيل المثال، لا الحصر، أنطون شماس، محمد حمزة غنايم، أنطوان شلحت والدكتور نبيل طنوس.
غالبيّتهم من امتهن الترجمة كمهنة ووظيفة، ولكن جاء الدكتور الجليليّ نبيل طنوس بفكرة ونهج جديدين، ووِجهته: “أترجم ماذا أريد”، ومن هنا قام بترجمة المئات من النصوص، طواعيةً، من العربيّة للعبريّة، لمحمود درويش، راشد حسين، سميح القاسم، بدر شاكر السياب ولعشرات غيرهم، ليوصل رسالة واضحة؛ لدينا الأدب الجميل وجدير بالآخر أن يتعرّف عليه وعلى ثقافتنا بمرآة جميلة وصحيحة، بعيدًا عن الشيطنة التي يحاول الآخر أن يوسمنا بها، وكذلك ترجم نصوصًا من العبريّة للعربيّة.
نعم، “تشكّل الترجمة عملا مبدعا يتمّ فيه التّمازج بين المترجِم والكاتب، ويمثّل حبّا لا يمكن أن يقوم بدون إبداع وفنّ حقيقي، حيث يندمج المترجِم مع المؤلّف اندماجا كاملا يستطيع استقصاءه من الدّاخل… من أعماق مكوّنات روحه، وهو في الحقيقة يكشف عن مكنون نفسه كمترجم بالذّات”. ليصل إلى هذا الحكم على النّصّ المترجَم “إنّ أفضل ترجمة هي الّتي تُنْسي القارئ أنّه يقرأ كتابا مترجما”. وهكذا أرى بطبيعة الحال أن المترجم الجيّد يكتب النص من جديد ليوصل الفكرة، جسدًا وروحًا، حيويّة بعيدة عن التكلّس والتقوقع.
أظنّ أن قضيّة التّرجمة مفتوحة لأنّها تناقش مسألة ثقافيّة حسّاسة نوعا ما مرتبطة بثقافة الغير الّذي هو بالضّرورة آخر لي أنا العربيّ، بحيث أتصوّر ابتداء وجود خطر ما على الفكر العربيّ من الأعمال الشّعريّة الأجنبيّة، وكأنّها ستدخل مثل الوباء فتصيب لغتي وثقافتي الأدبيّة ومنها الشّعريّة بالشّلل والامّحاء والسّيطرة، ومغلقة في آنٍ واحد، لأن مسألة التّرجمة مسألة ثقافيّة مستقرّة ولا محظور فيها غير تلك المحظورات الّتي تتبناها كلّ ثقافة من الثّقافات حسب معتقداتها وأبجديّاتها الحضاريّة، وقد أسّس أسلافنا العرب حضارة قويّة كانت فيها ثقافة الآخر المختلف الّتي دخلت العربيّة بالتّرجمة من- إلى وباللّغتين بالتّناوب مع اللّغة الأخرى.
ولأهميّة الأدب المترجم والإبداع في التّرجمة يكفي أن نشير إلى احتفاء بعض الدّول بمترجميها على قدم وساق مع الكتّاب المبدعين، مخصّصين يوما وطنيّا للاحتفاء بهم، فليس من العبث أن يمجّد الشّعب ذكراهم كلّ عام في يوم عيد المترجمين.
وأنهي بما قاله الكاتب الراحل سلمان ناطور:
“الأدب هو الصندوق الأسود لكلّ شعب، ويجب التعرّف إلى الأدب أيضًا عن طريق الترجمة”.
وأخيرًا؛ هناك دراسة جادّة للدكتور نبيل طنوس حول الترجمة وسيُصدر قريبًا كتابًا بعنوان “بين العربيّة والعبريّة، قضايا في الترجمة بين اللغتين” ويسعدنا تزويدكم بنسخ منه حال صدوره.
وكلّ العام واللغة العربيّة بألف خير.
—————–
* مداخلة ألقيت في الملتقى الدولي الأول للغة العربية الذي أقامته شبكة المصنعة الثقافية، سلطنة عُمان.