خطوات في المساء – دينا سليم حنحن – الرملة – استراليا

كان المساء بعيدًا عن ظلّ خطواتي، لكنه لم يكن بعيدًا عن ظلّ شالي الذي عقدته في طرف حقيبتي بعد أن أنزلته عن رقبتي، ترنّح عن جنبي، قصر أحيانا وطال في أحايين كثيرة، سرتُ بجموح اللبؤة في طريق تؤدّي إلى شاطىء البحر، لستُ أدري لماذا خطرت على بالي جارتنا بهية، في طفولتي، كانت تعمل سجانة، وكانت قد اعتادت على عقد منديلها في طرف حقيبتها أيضا.

قالوا عنها امرأة غليظة، لأنها كانت كلما ركبت الحافلة، أخرجت الرّكاب عنوة من مقعد اتخذته بجانب النافذة، صرخت مرّة في امرأة هزيلة قاومتها، شتمتها ورفعتها عن المقعد وأقعدتها على الأرض، هي غليظة فعلا، لكنها كانت تحرص حين تمرّ الحافلة من أمام بيت ابنها على إلقاء كيس سكاكر من النافذة، وكانت تصيب الهدف دائما، وقد تعوّدَت أن تصرخ، وبأعلى صوتها:

  • هذه السكاكر لحفيدي، إياكم والاقتراب منها! كانت السكاكر من النوع الرخيص جدا.

لنعد إلى الحاضر.

ظللتُ على الحال ذاتها أسبوعا كاملا، وأنا أبحث عن قطتي التي خرجت من بيتي ولم تعد، لقد كانت قطتي صمّاء.

مرّت  بقربي حافلة، رفضتُ استقلالها حتى لا أشبه المرأة السّجانة، وآثرتُ الاستمرار في البحث عن قطتي سيرًا على الأقدام، قال لي أحد الصبية إنه شاهدها عندما توقفت فجأة في منتصف الدوار المكتظ، لم تعبر، عطلّت السير حين تسمّرت في مكانها، حتى أن أحد السائقين ظلّ يزمر لمدة طويلة، وقلّده بقية السائقين في ما فعل، امتلأ المكان بالزمامير والصفافير، ولم تخف قطتي، نزل أحد السائقين من مركبته وأراد ركلها بقدمه، صرخ وبصق عليها، ونعتها بالملعونة، ورغم كل ذلك بقيت مكانها.

قال الطفل:

  • أشفقتُ عليها، وأردتُ مساعدتها لكنها هربت مني عندما اقتربتُ، هذه قطة معتوهة، ماذا تريدين منها، لو كنتُ مكانك لتخلصتُ منها واسترحت!.

سخطتُ عليه وقلتُ في سرّي، لا يستحق الأطفال السكاكر، حتى لو كان حفيدي، فلن أبتاعها له، لن أفعل كما فعلت السجانة بهية، ولن أتشاجر مع الركاب في الحافلة، ولن أنزلهم عن مقاعدهم، ولن أستحوذ على مكاني بالقوة، ولن ألقي كيسًا رخيصًا من السكاكر إلى أي مكان!.

لكنني بدّلتُ رأيي حالا عندما صرخ الطفل مبتهلا بعد أن شاهد قطتي على الرصيف المحاذي، قال لي:

  • ها هي القطّة واقفة هناك، إنها هناك، حمدا لك يا ربي لأنك حميتها من الأذية.

هل حمد ربه فعلا وفرح بعودة قطتي؟ سألتُ نفسي، قلتُ، سوف أقتني له السكاكر التي تعجبه، إنه صبي نجيب.

عادت قطتي البيضاء بمعية قط جارتي الأسود، كان قد دلّها على الطريق وسلكا معا طريق البيت، تفاهما بلغة العيون وسارا بخطوات متوازية. يتوقف القط الأسود فتحذو حذوه، مثله، لقد قادها نحو الأمان، وعندما وصل إلى بيته، عرج على الحديقة، وبقيت هي على الرصيف، هزّ لها ذيله مودعا، لكنها توقفت مكانها وأخذت تراقبه، ماءت، فعاد أدراجه، ماء لها يطالبها بالاستمرار، فلم تصدر صوتا، لأنها لم تسمعه، كانت تحرص على ألا تفقده، فهو دليلها الوحيد الذي قادها مستخدما النظر.. كان المشهد مغريا!

التقطتُها، واحتضنتُها، فعادت الطمأنينة إلى قلبها. مالت نحو كتفي واسترخت. اندهش الصبي وبدأ يسألني أسئلة كثيرة، لقد انتابه الفضول حيال القطة التي تشعر بالشلل التام لأنها فقدت أهم حاسة لديها، وعندما طلبتُ منه الذهاب، قال محاولا إغرائي:

  • لقد اقتنت لي جدتي اليوم أرنبا مصنوعا من الشوكولا، إن أردتِ يمكننا اقتسامه شريطة أن تبقيني في بيتك، أريد أن أعرف المزيد عن قطتكِ.

يا للهول، الطفل يغريني، يا لهذا الصبي، يشبه حفيد بهية السجانة، قلت له، لا أحب الشوكولا، أحب السكاكر الرخيصة، تلك التي بيعت قبل أربعين سنة، اذهب إلى بهية، وعد بكيس السكاكر قبل أن تلقيه من نافذة الحافلة…

ربّاه.. أعتقد أني بدأتُ بالهذيان!.

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*