بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019؛ تعاصفنا وتثاقفنا، نعم، وجدت لقائي بهم، بأفكارهم وبكتاباتهم متنفّسًا عبر القضبان.
عبّر الأسير هيثم جابر عن هذه المبادرة في رسالة بعثها للإعلاميّة الكاتبة قمر عبد الرحمن ونشرتها بدورِها على صفحتها، وممّا جاء في هذه الرسالة قوله: “هنا لا يسعني إلا أن أذكر، أحد هؤلاء الأحرار والمبدعين الكاتب والأديب المحامي “الأستاذ حسن عبّادي”، صاحب العشق الحيفاوي عشقنا جميعا، الذي اصطادت أقدامه غبار الطرقات إلى السجون لعلّه يعثر على شظايا قصيدة، كتبها معذب أو عاشق ثائر … لعله يوصل رواية أو كتابا يؤنس به وحدة أسيرٍ، طالما اشتاق للشمس دون شبك.”
عقّب الروائي قاسم توفيق: “غير إنك حلقة وصل من الذهب مع أسرانا، ابطالنا وننتظر منجزك هذا في كتاب، أسأل هل سادية وبشاعة النازية اكثر من سادية الكيان الصهيوني المحتل؟ جهود كبيرة يبذلونها للامعان في تعذيب الأسرى، فالسجن هو العقاب، هذا إن كانوا مذنبين، فلماذا حتى يزاد عليه الحرمان من لقاء شقيق معه في ذات السجن، صديقي الغالي حسن أقترح عليك عمل شيء عن السجون المليء بالسجون. تحياتي ومحبتي لكل من تكلمت عنه هنا، ولك مثلها”.
“فرحة مؤقّتة”
رتّبت لزيارة الأسير نائل صالح عبدالله البرغوثي ليوم 27.08.2020، كنت متحمّسًا بعد محادثة هاتفيّة مع صديقي الحرّ خالد عز الدين (الذي يقوم بدور جبّار من أجل إيصال صوت أسرانا بعيدًا عبر صفحة “صوت الأسير” التي يشرف عليها وعبر تعميم أدب أسرانا وأخبارهم في الصحافة الجزائريّة وغيرها، وتوّج عمله بملحق شهرّي يخصّ أسيرًا، وكان الملحق الثاني لنائل). وصلت بوّابة سجن هداريم وبعد الإجراءات الروتينيّة عادت إليّ السجّانة (نون) لتزفّ لي بشرى تحرير نائل! طارت مشقّة السفر وفرحت كثيرًا ولكن بعد لحظات “راحت السكرة وإجت الفكرة”، طلبت منها التأّكّد من الأمر لأنها تحمل بين يديها نسخة من تصريح الزيارة، وبعد دقائق رجعت لتقول لي: “أسفة، نائل نُقِل أمس إلى سجن إيشل!” وهكذا باتت الفرحة المؤقّتة خيبة…يرافقها أمل بلقاء قريب في إيشل…أو خارج القضبان.
للحظات تخيّلت الحاجّة فرحة البرغوثي قادمة لزيارة نائل ليبشّرها السجّان على البوابّة: “نائل مش هون. تحرّر ليلًا!”، وفي مخيّلتي ما كتبه الصديق بسام الكعبي في كتابه “جمر المحطات” تحت عنوان “فرحة تزرع الأمل” على لسان المرحومة: ” سلامي لكل أسرى وأسيرات الحريّة، والأمل كبير بقهر السجّان والإفراج العاجل يا أحبّائي”.
“البامية بتِتقرمعِش”
دخلت غرفة لقاء المحامين في سجن إيشيل ببئر السبع ظهر الخميس 03.12.2020 فوجدته واقفًا فقلت له: “وأخيرًا التقينا! كيفك نائل؟” فأجابني باستغراب: “كيف عرفتني”؟ أجبته: “ما أنت سِلٍب!” فابتسم ساخرًا وقال: لا مشاهير ولا رموز في السجن، كلّنا أسرى ولنا أهل ينتظرونا.
حدّثته عن الزيارة الأولى التي تعثّرت بسبب نقله من سجن هداريم ليلة الموعد المقرّر، عن تلك “الفرحة المؤقّتة”، بادر قائلًا: أعدتني إلى لقاء الوداع مع والدي حين التقيته في الغرفة ذاتها، يوم 12.08.2004، يرافقه حفيده صالح وكان في الرابعة عشرة من عمره، واستشهد لاحقًا، وتوفّى يوم 08.10.2004.
حدّثني عن اعتقاله المتجدّد، صبيحة 18.06.2014، حيث قطف البامية من حقله وخرج من بيته لصلاة الفجر، طلب من زوجته انتظاره لطبخة البامية وكانت جملته الأخيرة: “البامية بتِتقرمعِش”، وحين عودته من الصلاة تمّ “اختطافه” واعتقاله، بعد أن طوّقوا البيت وعاثوا فيه خرابًا، أخذوه بملابس خفيفة ولحقت به زوجته تحت التهديد مسافة 150 متر مصرّة على إعطائه جاكيته حتّى رضخوا، والعالم يتفرّج صامتًا، اعتقال تعسفّي كردّة فعل لضغط المستوطنين، لا غير، منتهكين كلّ الاتفاقيات والأعراف الدوليّة.
هناك قصص إنسانيّة للأسرى تُبكي الصخر، دمعات على صفحات الفن، وهناك صفقات العار في المحاكم الصوريّة التي تًحاك كلّ يوم وتشكّل شراكة في جرائم حرب وكأنّها شرعنة للزنى؛ قرّر ألّا يكتب عن السجن وهو خلف القضبان لأنّه سيكتب بالعقل وليس بالعواطف، وفي جعبته الكثير.
أعتقل للمرّة الأولى يوم 04.04.1978 وشعاره “هاي طريقنا واخترناها”، دفعنا ثمنًا وليس بحاجة لمقابل، ولم يعوّل على حرّاس أبواب الكازينو في أريحا ولا حرّاس المولات.
يؤلمه ورفاق دربه موت الأحبّة والأقارب دون وداع، والتجارة بالمعاناة وقضيّة اللاجئين، والأسرى ليس على أجندة مؤسّستنا وجنرالاتها، وكلّ استقلال والأبناء في السجون هو مبتور ومشوّه.
حدّثني عن شعوره حين شاهد مآذن جسر الزرقاء من شبّاك البوسطة، رغم الآلام التي عاناها إثر إصابته، وعن الموانئ التي تخيّلها من سجن الدامون وشعوره بلمّ الشمل!.
تحدّثنا حول ما كُتب حوله، كتابات بسام الكعبي وجمر المحطات، وليد الهودلي وقصّة “بيت الجبل”، كلّ شيء تغيّر إلّا القضبان، ودور خالد عز الدين والإعلام الجزائري في وقفته مع الأسرى، والحاجّة فرحة حاضرة بيننا مع ليمونتها التي غذّتها بحفنة تراب من كل ساحة سجن زارته في أرجاء الوطن السليب.
ودّعني قائلًا: سنلتقي في حيفا!
في طريقي إلى حيفا جاءتني مجدّدًا قصيدة “واجب شخصي” للراحل محمود درويش (التي نشرّها مؤخرًا د. نبيل طنوس على صفحته حين ترجمها للعبريّة) وكأنني بها تحكي الحكاية:
هتفوا له : يا بطل ! واستعرضوهُ في
الساحات. نَطَّتْ عليه قلوب الفتيات
الواقفات على الشرفات ، ورششنه بالأَرُزِّ
والزنبق . وخاطبه الشعراء المتمردون على
القافية بقافية ضروريّة لتهييج اللغة :
“يا بَطَلْ ! أنتَ الأَمَلْ” . وهو ، هو
المرفوع على الأكتاف رايةً منتصرة ، كاد
أن يفقد اسمه في سيل الأوصاف.
خجول كعروس في حفلة زفافها . “لم أفعل
شيئاً. قمت بواجبي الشخصي” . في صباح
اليوم التالي ، وجد نفسه وحيداً يستذكر
ماضياً بعيداً يلوِّح له بيد مبتورة الأصابع
“يا بطل ! أنت الأمل” . يتطلع حوله
فلا يري أحداً من المحتفلين به البارحة.
يجلس في جُحرْ العزلة. ينقِّبُ في
جسده عن آثار البطولة. ينتزع الشظايا
ويجمعها في صحنِ تَنَك ، ولا يتألم…
“ليس الوجع هنا. الوجع في موضع آخر.
لكن من يستمع الآن إلى استغاثة القلب” ؟
أحسَّ بالجوع . تفقَّد معلبات السردين والفول
فوجدها منتهية الصلاحية. ابتسم وغمغم :
“للبطولة أيضاً تاريخ انتهاء صلاحية”.
وأدرك أنه قام بواجبه الوطنيّ!
لك عزيزي نائل أحلى التحيّات، الحريّة لك ولجميع أسرى الحريّة، نلتقي قريبًا في حيفانا كما وعدتني.
حسن عبادي
حيفا كانون أوّل 2020
*** الأسير نائل البرغوثي من مواليد 1957، أُعتقل يوم 4 نيسان 1978، حكمت المحكمة العسكريّة
الإسرائيليّة بحقّه حكماً بالسجن المؤبد و 18 عامًا، أفرج عنه ضمن صفقة وفاء الأحرار عام 2011
وأعيد اعتقاله يوم 18.06.2014