كلمات قضمتها الأسنان ولاكتها الألسن، عافتها النفوس، وملّت منها الطقوس، أُريدَ بها التفاخر أو التظاهر والتناحر أو ربما التناظر، فلم تَعْدُ أن كانت سُبّة أو رَقاعة. كلمات دخيلة صارت لطخة سوداء وشجرة جرداء ودرب عوجاء في جبين لغتنا الغرّاء.
نسمعها في المجالس، في المساجد والكنائس، في الشوارع والمرابع، نقرؤها في الكتابات وتطالعنا في التعليقات وعلى جميع الموضوعات والمقالات، تلاحقنا حيث نكون، بالتحرك والسكون. ترى الرجل الذي ينزل كلامه كالآنك يزيدك بلاء إلى بلاء وشقاء إلى شقاء بل قل وباء إلى وباء , فيسيء كيل حشفة بكلمة أو كلمتين من تلك الكلمات أو نغمة من تلك النغمات .
أمسينا اليوم في حال مزرية , حال بين حالين , لا على العربية باقون ولا إلى الأعجمية مرتحلون , بل خلطنا ” رديء ” هذه بساقط تلك في خليط أردأ من الاثنتين . مع ذلك , ترى الرجل من بني جلدتنا حين يرفأ كلامه ويفتقه , كالذي يُخرج الذهب بافتخار وفي غير موضعه ينفقه , يرجع إلى الخلف ثم ينفخ صدره وكأنه ملك حقيبة الدفاع الأمريكية , أو حقيبة المال السعودية، أو اكتشف ما لم يعرفه الجن الأزرق , وما مَثَله إلا كرجل امتلأ من قمامة ثم عاد يقيء ما في جوفه على نفسه , أو كماشٍ في السوق عابر وعورته بادية لكل ناظر المقيم والسائر .
ليت شعري، أعجزت العربية عن سدّ المكان وملء الفراغ؟ أم ضاقت بنا فلم نجد إلا أن نرقعها؟ أم عيّت بقضاء حاجاتنا؟ ثم لو فرضنا أنها عجزت وضاقت وعيّت , أوّيحق لمن يرقع ما يلبس أن يتفاخر بترقيعه ومرقعه ؟!
ثم سؤال آخر : هل عُدمت اللغات التي نرقع بها لغتنا , فلم نجد إلا الملفّق واللقيط ؟ كلغة الأنجلو والتي نصفها إغريقي وربعها روماني وربع لا أم له ولا أب. أو العبرية التي أقلّ ما يمكن أن يقال عنها أنها من فتات لغات الشعوب. إن ما يزيد الجرح عمقا والمصيبة قدرا، أنها لغات من وطئت أساطيلهم شواطئنا لحربنا وداست أقدامهم أراضينا ومقدّساتنا.
إخواني الأفاضل , هذه مأساة من مآسينا حين تركتنا الشواهق للخفض وهجرنا العلو للدنو , تركنا الجمال والبلاغة والفصاحة , إلى القبح والدمامة والعيّ .
لِنَكُن واقعيين , لا نريد العودة إلى الفصحى القديمة , وكفانا أن نتحدث كل بلسانه , بلا تقعّر ولا تنطّع ولا تفيهق , بكلمات شوهاء عرجاء لا تزيد البلاء إلا بلاء . وإذا اضطررنا إلى رطانة الأعاجم ولسانهم، فلنأخذه بأحسنه ولنتكلمه كما يتكلمون، لا بتكسير الجهلة وثرثرة الكهلة، وليكن ذلك في حدود ما اضطررنا إليه، فإذا جاوزنا حد الضرورة فالعود أحمد، ومع كل ما قيل وما يقال تظل لغتنا العربية الياقوتة في تاج اللغات .
من كتابي “أميرة الكلمات”
عمر رزوق الشامي
أبوسنان