جارنا- عزيزي القارئ- يحب الأرض كثيرا، ينهض مع أذان الفجر، يقيم الصلاة ويستغفر ربه ثم يمسك الفأس ويبدأ بعزق الأرض وتنظيفها من الأعشاب والحصى؛ تحضيرا للزرع .. ويقوم بِرَص الحجارة بعضها فوق بعض وبجانب بعض ليمنع التراب من الانجراف…
وجارنا يحرص على أن لا يترك موقع قدم إلا ويستفيد منه، حتى الصخور الكبيرة التي تكثر في أرضه يضع فوقها أوعيه كالصفائح مثلا، ويملأها بالتراب ويغرسها بفسائل الأشجار المثمرة المتنوعة ليبيعها عندما تنمو ويشتد ساقها.
أرض جارنا مغطاة بعريشه خضراء واحدة بسبب تشابك أغصان أشجار الزيتون واللوز والتين والأفوكادو والليمون والكرمة وغير ذلك مما لا يحضرني تذكره الآن.. نعم، عريشة واحدة, لدرجة أنك إذا حدث ووقفت تحتها فإنك لا ترى زرقة السماء جيدا وكذلك فإنك لا ترى وجه الأرض لأنها مغطاة بمشاتل البذورات والمزروعات والخضار والفسائل على اختلاف الأنواع.
نسيت (عزيزي القارئ) أن أخبرك بأنك لا ترى في أرضه أزهارا وورودا كالقرنفل والورد الجوري والياسمين وفم السمكة والشاب المستحي والفل وغيرها، فهي جميلة وتعطي رائحة ذكية وزكية وغذاء جماليا للعين وتترك أثرا طّيبا وعميقا في المشاعر والنفس، ولكنها تأخذ نصيبا من مساحة الأرض على حساب النباتات المثمرة؛ لأن الجمال لا يسكت زقزقة عصافير المعدة الجائعة ولا يملأ الجيب نقودا. وهذا التفسير نقلا عن لسان جارنا بدون زيادة ولا نقصان.
جارنا (وكما أخبرتكم منذ البداية) يحب الأرض جدا جدا ويحبها أكثر من زوجته وأولاده وجيرانه وصحته وأكثر من الجمال ..ومن شدّة حبه للأرض فهو لا يميّز بين أرضه وأرض جيرانه فهو يعرف كل ما يتعلق بالأرض.. نوع التربة والمزروعات الملائمة لها، وكيفية المحافظة على التراب، والاستفادة من الصخور وتحويلها إلى عوامل مساعدة للزراعة. ويعرف أيضا مواسم الزرع والقلع وأنواع الأمراض، لا بأسمائها الصعبة بل بتشخيصها , ويعرف الأدوية المناسبة لها.. ومتى ينفع تقليم الأشجار وأنواع التراكيب، وعائلات الأشجار.. يعرف هذا وأكثر منه بالممارسة والاستفادة من الخطأ والصواب.
ولكن دعوني أصارحكم (أيها السادة الكرام) وأكشف لكم عن أمر واحد يتعّلق بالأرض ولا يعرفه جارنا رغم أنه لا يقلّ أهمية عن باقي معلوماته. جارنا (والحمد لّله)… لا يترك صلاة إلا ويقيمها في وقتها, ولا تخفى عليه آية أو حديث أو قول مأثور أو حكاية تتعّلق بحسن الجوار إلا ويعرفها. وهو لا يجلس في ديوان إلا ويتحدث عن الحق وإحقاقه، لدرجه أنك لو سمعته لتمنيت أن تكون جاره لتنعم بأخلاقه وتستفيد من أقواله.
تأخذ قرارا بينك وبين نفسك بأن تجعله قاضيا وحكما بينك وبين غيرك في أية مشكلة في المستقبل-لا سمح الله-
جارنا يتقن بالإضافة إلى العمل الزراعي والسلوك الديني الظاهر مهنة الزحف … نعم الزحف على أراضي جيرانه… فهو يزحف ببطء ولكن باستمرار بدون يأس ودون رحمة.. ونفَسَه في الزحف طويل، لا يعرف الملل ولا التعب. هل عرفتم الأمر الذي لا يعرفه جارنا؟…
إنه يعرف كل أمر يتعلق بالأرض إلا حدودها، ألم أقل لكم إن جارنا من فرط حبه للأرض لا يميّز بين أرضه وأرض غيره.
لاحظتُ علاقة طردية بين اتساع قطعة أرضه وبين ازدياد ممارسته لطقوس الدين وطقطقة السُبحة، وكأن الدين عباءة يرتديها جارنا فيمزّقها في سلوكه ويحاول أن يصلحها ويرتقها بالطقوس. تتساءلون ولا شك (وهذا حقكم) عن ردود فعل الجيران، لماذا صمتوا؟ و… أليس الصمت علامة الرضا؟…
ماذا فعلوا لاتقاء شر هذا الجار ومنعه من الزحف المستمر؟
وأصارحكم القول …جاء جارنا إلى القرية فقيرا ومطاردا من بلده التي كان يعيش فيها، أشفق عليه الجميع, استقرّّ في قطعه أرض تتضارب الروايات حول كيفية حصوله عليها، سكان قريتنا دمثو الأخلاق.. طيبو القلب، يَكْرَمون بالغالي قبل الرخيص ويسكتون على الظلم ويسلّمون الأمور لله ولأولي الأمر منهم .
المهم (عزيزي القارئ) صمتوا محافظة على حسن الجوار الذي أوصت به جميع الديانات السماوية والأرضية والمبادئ الإنسانية. ولكن جارنا لم يفهم سكوتهم وصبرهم فهما صحيحا، بل اعتبره ضعفا جاء بسبب قوته وجبروته، وانتصاره عليهم في أكثر من مواجهة، فهو لا يحبهم ولا يرغب في وجودهم جيرانا له… وانطلاقا من هذه الحقيقة اعتمد على مكره الثعلبي وزرع التفرقة بينهم وأخذ يلّوح بالقوة دائما بل ويضرب بعضهم أحيانا ويزداد زحفه وتتّسع رقعة أرضه , حتى بات الجميع يعرف بزحفه وأطماعه وشهوته العدوانية فتباروا في إطلاق الألقاب عليه كالزاحف والشرير وأشعب الأراضي و..
ازداد قلق الجيران… خافوا على البقية الباقية من أرضهم، وحاروا فيما يفعلونه، فجارنا لا يخاف الله ولا الأنبياء ولا يعرفهما إلا في الكلام، ويعتقد بأن الأرض ملكه ويرفض مقولة ” الإنسان ملك الأرض” جملة وتفصيلا، ويؤمن إيمانا أعمى بالمقولة “الغاية تبرر الوسيلة”.
سأروي لكم ما حدث، وهذا على ذمة الراوي. (يا سادة يا كرام). عقد الجيران اجتماعا تلو الاجتماع، واعترف كل واحد بعجزة في مواجهة جارنا وحده.. سرد بعضهم عن محاولته الفاشلة في استرداد أرضه من جارنا.. برّرَ كل متحدث الكثير من أسباب فشله، وألقى الأسباب على غيره وعلى الظروف.
رجارنا يستمد قوته من تفرقهم وعدم وحدتهم ومن ضعفهم (وهذا على ذمتي وليس على ذمة الراوي) وبعد سنين من الاجتماعات والمداولات والتحالفات الورقية وكتابة المئات من محاضر الجلسات، اتخذوا قرارا بمواجهته مجتمعين ومصارحته بحقيقة أمره.
سار الوفد إلى بيت جارنا، فوجدوه يستصلح أرضا ملكها بالزحف، وقالوا له بصوت واحد: الله لا يعطيك العافية..
صاح في وجهه الجار الأول: أذكر بدايتك، كنت تملك دونم أرض واحد فقط, نعم دونم ارض واحد فقط.. والآن أنت تملك أكثر من ثلاثة دونمات.. فمن أين لك هذا؟. أيها الثعلب.
صرخ الجار الثاني: كنت تغرس فسيلة شجر في أرضي، وعندما استفسر عنها، تقول بأنها عود… وبمرور الوقت، يبرعم العود وينمو ويزهر.. وعندها تدّعي بأنه في أرضك.. يا أشعب الأراضي.
وقال الجار الثالث: أنا ابن عمك.. لقد زحفت على أرضي ليلة بعد ليلة وموسما بعد موسم.. تقلب الحجارة وتدق الأوتاد وتهدد… ولم ترع حرمة القربى التي تربطنا منذ القدم…. يا ناكر الجميل.
وقال الجار الرابع والخامس والسادس ………. والعشرون … و…
وفجأة سمع الجميع ( أيها السادة الكرام) صوتا ضخما تكتنفه الرهبة، فحاولنا جميعا تحديد مصدر الصوت.. صمتنا ونظرنا بإمعان حولنا.. أُصبنا جميعا بالذهول واتّسعت محاجر العيون حين رأينا حجارة الطريق تهتز في أماكنها.. وعندها عرفنا بأن الصوت يخرج من بين حجارة الطريق ومن حصاها وترابها: أنا الطريق..أنا الشارع… أنا في خدمة الجميع… أنا طريق السابلة.. أنا درب المصلين.. أنا الشارع… شارع السيارات وممر المشاة.. أنا مُلك الله وحده… وحده لا شريك له.. أنا الوقف.. أنا الوقف.. فكيف سمحت لنفسك أن تزحف علىّ.. تسرق من حرمتي.. ألا تخاف الله؟!.. وكيف سمحت لنفسك أن تدهن بالزفت وشحمة السيارات صخوري التي يقتعدها المارة للاستراحة؟.. كيف فعلت هذا؟ كيف لم تردعك صلاتك وصيامك وحجك البيت الحرام؟ ..
لن أسامحك أبدا؟.. وإني لأشكوك إلى الله، فهو شديد العقاب.
صمت الصوت وازدادت حجارة الطريق عنفا واهتزازا ويقال إنها انتفضت… طارت وضربت بيت جارنا وأشجاره ومزروعاته وخضاره… ولم أعرف كيف هجم الجيران عليه ومن جميع الجهات وأصيب جارنا بالدهشة والمفاجأة والصدمة.. فأخذ يدفع هذا ويدحره إلى الوراء فيتقدم ذاك فيركض جارنا نحوه ليدحره إلى الوراء فيتقدم الآخرون بمن فيهم الذين دحرهم من قبل.
واستمرت المعركة بين دحر واندفاع .. كر وفر.. تقدم واندحار.. هزيمة وانتصار.. إلى أن سقط جارنا على الأرض ضاربا إياها برجليه ويديه ورأسه صارخا كالمجنون ” الرحمة.. الرحمة.. اتركوني لنتفاهم.. أعدكم بحسن الجوار..”
والغريب في الأمر(أيها السادة الكرام) أن الجيران استردوا حقّهم فقط وتوقفوا عند حدود أرضه ولم يتقدموا شبرا واحدا. دقوا الأوتاد وسيّجوا بالأسلاك الشائكة حدود الأراضي, ومنذ ذلك الوقت والبلدة تعيش في سلام وطمأنينة.. ويقال أنهم فيما بعد, أزالوا الأوتاد والأسلاك فيما بينهم.. ومنذ ذلك الحين تسود علاقات المحبة والتسامح والتفاهم والتعاون بين جميع الجيران.