“بين همسات وتغاريد عدلة شداد خشيبون” – بقلم: فوز فرنسيس

أن أقرأ الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون وما تنشره على صفحتها في الفيسبوك أو في مواقع أخرى وأبدي اعجابي، أمر يختلف كثيرا عن قراءة جملة من نصوص منتقاة جُمعت بكل عناية ودقّة في كتاب حمل عنوان “همسات وتغاريد”.

لقد استوقفني عنوان الإصدار، ووجدتني أبحث في معاجم اللغة عن أصول الألفاظ. قال ابن فارس في “معجم مقاييس اللغة” إن الهاء والميم في “همسَ” يدلّان على خفاء صوت وحسّ، والهمس هو الصوت الخفي، بينما “غرّد” تغريدًا الطائر أو الانسان أي رفع صوته بالغناء وطرّب به، وتغاريد جمع تغريد أي زقزقة العصافير وترديد أصواتها، وفي معجم “لسان العرب” لابن منظور، التغريد هو صوت به بَحَحٌ. فما أجمل هذا التّمازج بين اللفظتين في اختيار عنوان الإصدار، بين خفض الصوت حينا ورفعه حينا آخر، وكأني بكاتبتنا تخشى حينا أن تجهر بكلماتها فتهمسها لنا وحينا آخر نجدها ترغب في إطرابنا وفي إيصال فكرة فيعلو صوتها ويزهو طربا مغرّدا ممزوجا ببحّة خفيفة خفيّة تكاد لا تُسمع تميّز صوت “عدلة”.

لست بحاجة إلى جواز سفر لدخول عالم عدلة الأدبي، فقد أعجبتني لغتها من خلال إصدارها الأول “نبضات ضمير” ومن خلال عرافاتها المميّزة لبعض الأمسيات الأدبية في نادي حيفا الثقافي. كاتبة مبدعة تطرّز كلماتها بعناية وصدق، أوليست كلماتها مرآة واضحة تعكس ما بداخلها من محبّة وصدق وروح جميلة؟!

أهدتني همساتها وتغاريدها مؤخرًا وكان قد شوّقني ما قرأت عنه من قبل بعض الأصدقاء، تأملت صورة الغلاف وعادتي لا أتوقف كثيرا عند أغلفة الكتب فقرأت فيه الحزن والفرح، الأرض والفضاء، العتمة والضوء الذي احتل مساحة أكبر يفصل بين الفضائين عصفور يحتلّ حيّزا لا بأس به متّجها برأسه صوب النور مغرّدا ليتمازج مع عنوان النصّ.

جاء الكتاب في ثلاثة وثلاثين نصّا، وتساءلت أهو محض اختيار أم هناك إشارة ما كأن تكون مثلا عدد السنوات التي قضاها السيد المسيح على الأرض، لكن هذا الأمر لم يشغلني كثيرا فانتقلت لعناوين النصوص ليتكشّف أمامي بعض الحزن الذي يغلّفها ولفت انتباهي استخدام لفظة دمعة في بعض العناوين “حكاية دمعة”، “دموع الأسرار”، “أسرار دمعات عاتبة”، “تهنئة دامعة”، هذا إضافة إلى كلمات مثل خريف، حلم، غروب، وجع، أسرار، صمت، عتاب، شرود، حنين وأشواق وغيرها من ألفاظ لا تخلو من معاني الحزن.

بدأت بقراءة النصوص ووجدتني أمام تدافع في الأفكار، المضامين والعمق الفكري، الصور والتشبيهات الجميلة، اللغة الغنيّة والتي تميل إلى الشاعرية، الألغاز التي تطلّبت قراءة ثانية استطعت حل بعضها وعصي علي الأمر في أحيان أخرى، وسأتطرق فيما يلي لبعض الأمور التي أعجبني واستوقفتني:

المناجاة والحديث مع الأم الراحلة “الحاضرة” دائما رغم البعاد في وجدان الكاتبة تشاركها بكل ما يحدث معها، ظهر ذلك بكل قوة ووضوح في غالبية النصوص وأذكر على سبيل المثال؛ “أماه لا تخافي هي قصة اسطورية بنكهة الخيال”(ص 16)، “أماه .. أسيرة أنا، سيكتبني التاريخ بسجن الحرية”( ص 25)، “أماه اعذريني فجرحي اليوم مفتوح وسيل الدمع غزير” (ص 32)، “أنا بخير يا أمي، وقد رفعت الكأس عاليا وتجرّعت نبيذ المحبة مع الأحبّة”(ص 33-34)، “هو وصدى الأحلام يا أمي عاد من جديد” (ص50)، “هي المتناقضات يا أمي تحمل عبء الأيام ..”(ص51)، “موجوعة انا يا أمي وصفير قاطرتي بعيد بعيد”(ص53)، “أماه .. لماذا ابتلع لعابه وبصقه في زحمة تزاحم الحقيقة”(ص60) وفي مواقع أخرى كثيرة.

وكأني بالأمومة والأم باتت موتيـﭬـا خاصا بكاتبتنا، يسكنها ويسكن حرفها حتى بات صعبا التنازل عنه، كيف ونحن نراها إضافة إلى توجّهها الدائم للأم في غالبية النصوص، تكرّس بعض النصوص لها فقط، فمثلا في نص “تهنئة دامعة” (ص39)، تعلن فيه أن أمها لم تمت وأنها لا تزال تحيا بين أضلعها وتتنفس من هواء عطائها النقيّ، منها تستمدّ طاقتها وهي شمسها، أمها قصة المحبة والعطاء وهي البطلة ولها كل الأدوار. لا أنكر أن العنوان استوقفني وفاجأني بمزجه بين التهنئة والفرح الكامن بين ثنايا اللفظة والدمعة واستبشرت أملا من العنوان وظننت أن النصّ عن فرح ما وأنّ الدموع دموع فرح، ولكن سرعان ما تكشّف الأمر لأفهم أنها تهنئة بمناسبة عيد الأم، فرغم مرور عشرين سنة على رحيل والدتها، لكنها لا تزال حاضرة في نفس عدلة وحياتها، ولمست في كلامها صدق المشاعر وعمقها، وفاءها وإخلاصها لأمها، ونراها في نص آخر “عشرون وذكريات”( ص37) تخاطب والدتها وتبوح لها ولنا بأحد أسرارها، فآخر طبخة أعددتها الأم قبل وفاتها لعدلة وأسرتها، قُدّمَت في قداس ذكرى الثالث فأكل منها الجميع وكأنها قربان لهم. ما أجمل هذا الوفاء ويا للمحبة غير المتناهية، إذ لم تشأ عدلة أن تأكل وأسرتها هذه الطبخة الأخيرة من يديّ أمها بل فضّلت أن يتشارك كل الأهل والأقارب بها. قد يحتفظ الانسان ببعض ذكرياته مع أعزّ الناس وقد يصعب الإفصاح عنها والتنازل عنها، قد تتعبه وتؤلمه وها نحن نرى كاتبتنا تفشي هذا السرّ على الملأ وتشاركنا به بعد مرور أكثر من عشرين سنة على وفاة الأم.

أشير هنا إلى أني لست بناقدة، وقد يعيب البعض هذا الاستخدام الكثير للأم في النصوص إلى هذا الحدّ وقد يرى البعض إنها خطة شفاء من ألم لا شفاء منه وأقول تبقى الأم في المنزلة الأعلى مهما اختلفنا في الرأي.

 

الأمل الذي تختم به الكاتبة قسما لا بأس به من النصوص رغم الحزن المتبعثر فيها؛ إضافة إلى الفرح، القوة، التحرّر والعنفوان: “تناثري وتناثري فتناثرك مبعث آخر للأمل” (ص 18)، “ولنكمل مشوار العطاء ببسمة أخرى من آذار المرأة، آذار العطاء وزهر اللوز والبيلسان” (ص 42)،”اضبطوا ساعاتكم، فبالساعات وحدها يتحرر الوقت ويحلو اللقاء” (ص48)، “أنت امرأة كونيها بكل عنفوانها وغوصي في محيط الأحلام، وحلّقي في سماء العطاء” (ص52)، “انتفضي يا حروفي فقد ضقت ذرعًا بصمت الأشواق” (ص56)، “… ليغرّد عصفور الحرية أغنية جديدة تليق بحياة راغدة جميلة، فكن لها” ( ص60)، لتختم الكتاب بروعة الكلام “… رغم ربيع في الروح جميل” (ص73).

 

كاتبتنا بنت الطبيعة بكل فصولها تكثر من حديثها عنها في همساتها وهي ابنة الأرض وصديقتها الوفيّة، نصوصها مطعّمة بخيرات الأرض كالزعتر، الحنطة، البنفسج، الجلنار، اللوز، البيلسان، الصبر، الريحان حتى للأشواك نصيب كبير في النصوص، ويتكلّل هذا التمسّك بالأرض في نص رائع “الأرض صديقتي الوفية” (ص29) احتفاء بذكرى يوم الأرض فيه يظهر مدى التعلق والتشبّث بالأرض، تقول: “عانقيني أيتها الوفية وسامحي قدميّ إن داستا على ترابك المقدس بعفوية”، “في يومك لن أحتاج أن أتبرّج لأكون معك.. سأخرج إليك أعانق روحك وأخلد لغفوة على صخرة دافئة بعبير أزهارك والربيع”، فهل أوفى من هذا الوفاء الذي يخشى أن يطأ الأرض خشية أن يلوّثها وهل أسمى وأجمل من هذا العناق!!

 

وجدت كاتبتنا تجاهر بقوّتها وعنفوان المرأة ، كرامتها وحرّيتها بصورة واضحة في بعض النصوص، ففي ” يوم وامرأة” (ص41)، نراها تعلن عن فرحها بيوم المرأة العالمي” ما أجمل حظّي اليوم! فلي يوم عالمي بامتياز، يوم يضعني في زاوية العالمية ليوم” وهي تتوجه لكل امرأة مخاطبة إياها” كوني المرأة التي في داخلك واتركي المرأة التي في داخلهم، فلَكِ يوم، كونيه سنة”. وفي “بطاقتي ليست للبيع” (ص51) تقول “كل عام وأنت جميلة، لا تقذفها عاصفة الجهل، لا، ولا تلوي أغصانها رياح القمع والظلم”، “أنت امرأة، كونيها بكل عنفوانها…”.

 

قرأت في بعض النصوص قصصًا قصيرة تحتوي على عناصر القصة أو بدايات لقصص: “صدى الأحلام”، “بطاقتي ليست للبيع”، “ظمأ الشوق وحنين اللقاء”، “رسمة حجر”، وراقني عمق الفكر والتجربة الحياتية أكثر في بداية “رقصة الحبر”(ص67)، ووجدت نفسي أقرأ حكما ونصائح رائعة: “لا تدع حلمك في محطة الانتظار، فهناك برد الليل، ينتقم من كل دفء”، “لا تنتظر قطار الغد فقد يزيد سرعة بطئه إلى تأخر غير معلوم”، ” .. خذ من سرعة البرق بريق الأمل”، وحبّذا لو أكملت كاتبتنا هذا النص على نفس النهج فأتحفتنا ببعض تجربتها الحياتية في الأمور، لكانت كلّلت إبداعها بتاج الحكمة.

 

عدلة شداد خشيبون ابنة قرية “البقيعة” ما انعتقت وتحررت من جمال طبيعة الجليل الأخاذة، فنرى ألفاظها وأسلوبها المتأثر والمشبع بهذا الجمال وفي ثنايا نصوصها شعرت حقا أني أقرأ حكمة وفلسفة جبران خليل جبران: ” وجدت الحب يتربع بثقة ونبضات القلب توزع ايقاعها بلحن الوفاء أو ميخائيل نعيمه: “تناثري وتناثري فتناثرك مبعث آخر للأمل”، وهي إلى جانب هذا التأثر نلمس لغتها وأسلوبها المفعم بالصور الجميلة والتشبيهات، لا يمكنك أن تمرّ عليها سريعا بل تجد نفسك تتأمل وتعيد القراءة ثانية وتبدي استحسانك، وهنا أذكر بعضا قليلا من هذا الجمال؛ “هي الحياة يا صديقي بحر صدق على خارطة الطريق” (ص 16)، “الحلم يحب أن ينام” ، “ألهو في بستان الحياة” (ص 20)، “تنزع شويكات الصبر عن قلبها الرهيف” (ص21)، “أصالح الذات لأراني ملفّعة بشال الغربة ومنتعلة صقيع الظلم” (ص 22)، “هي صفعتك يا قدر ألزمتني فراش الأمل” (ص 27) “تقوّس به حبل المحبة بألوان الطيف”(ص33)، “وجدت الحب يتربع  بثقة ونبضات القلب توزع إيقاعها بلحن الوفاء”(ص70)، وكذلك أبرقت سماء عينيها، فاصلة الزمن، نبيذ المحبة، أشواك الرحيل، نهر الأوجاع وغيرها كثير .

 

لمست بعض الرومانسية الحالمة البريئة والجميلة وبشكل خاص في “صدى الأحلام” (ص49-50) وذكرت يمكن اعتباره قصة قصيرة. تقول: “فالحب الذي يعشّش في قلبه قد ضاق ذرعا بعشّه ونبض قلبه بات مزعجا لقفصه الصدري”، ” ما أقوى ساعديك أيها الحب! وما أعظك نبضات روحك!”، “وعاد يدق شباك حنينها” إلى غير ذلك من العبارات الرقيقة.

عدلة الإنسانة المشبعة بالمشاعر وبالحب، الأمل، جمال الروح، الوفاء والصدق جاءت كلماتك صورة لذاتك فهنيئًا لك وهنيئا لنا بكاتبة تتقن الكتابة فيعزف حرفها على أوتار  القلب، دام حرفك ربيعا كما روحك.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*