“الحرب معاناة حميمة جدّاً، وهي تجربة بلا نهاية، كحياة الإنسان”/ سفيتلانا أليكسييفيتش (ليس للحرب وجهٌ أنثويّ)
تحت تصنيف “نصوص” المثبت على الغلاف الخارجي و”شعر” المثبت في الصفحة الداخلية لعنوان الكتاب، نشرت الكاتبة السورية “هند زيتوني“[1] كتابها “غواية الدانتيل”، وقد صدر عن المكتبة العربية للنشر والتوزيع، في مارس 2020. يقع الكتاب في (120) صفحة.
ربما كان هذا الالتباس محقا، أو لعله سقطة ناشر، وعدم انتباه، فليس صحيا ولا صحيحا أن يأخذ ناشر أو مؤلف الكتاب، أي كتابٍ، إلى الالتباس، كأنه بلا جنسية محددة، فهل كانت نصوص الكتاب نصوصا “خنثى” ليحدث مثل هذا الالتباس التصنيفي؟ ربما أرجعني ذلك إلى مقولات الناقد والشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة الذي وصف قصيدة النثر بأنها “خنثى”. وهنا وقعت النصوص بين قناعة الشاعرة بوصفها شعرا مكتوبة بطريقة قصيدة النثر، وبين عدم يقينية الناشر واقتناعه أن هذا النوع من النصوص يمكن أن يكون شعرا؛ فهو بلا وزن. ولكن من قال إن الشعر وزن فقط؟ أو من قال إن الوزن يجعل الكلام شعراً؟ جدلية استهلكت كثيرا من النقاش، فلا داعي لطرحها مرة أخرى، فلا جديد فيما سأطرحه في هذا الجدل وقد أنهكه الدارسون بحثا وتقصيّاً.
تثير النصوص في الواقع أكثر من سؤال، وسؤال الإبداع والكتابة أهم تلك الأسئلة مع سؤالين آخرين هما: سؤال الحبّ، وسؤال الحرب، وقد اشتمل الديوان على عدة “نصوص” تحوم حول هذه الأسئلة وتناقشه من وجهة نظر الكاتبة.
كثرت العناوين التي تحيل النصوص إلى الشعر، وتدخل القارئ والذات الشاعرة إلى سؤال الشعر، فقد أسست لهذا السؤال منذ النص الأول المعنون بـ “رسالة عاجلة إلى عمر بن أبي ربيعة/7″، وتستدعي قوله في قصيدته المشهورة “هند”:
كلما قلت متى ميعادنا |
ضحكت هندٌ وقالت بعد غد |
لعلّ اسم الشاعر المتوافق مع اسم حبيبة عمر بن أبي ربيعة هو الداعي لاستحضار هذا البيت من الشاعر الأمويّ المعروف بغزله الحسيّ الذي كان يستولي على لب النساء والرجال في حينه، ولاسيما الطبقة الحاكمة. ولكن، ليس على هند زيتوني من حرج وهي تستدعي هذا البيت وقد أوجدت له صدى في الكتابة على نحو ما، وتمدد المعنى في لغة الديوان، كأنّه أصبح عصب النص وروحه، إذا ما تمت قراءة البيت قراءة مستقلة منزوعا عن سياق قصيدته التي وردت فيه، وحمله إلى أفق من المعنى متحررا من قيود النص الأولى. إن فعل القارئ ذلك سيجد أن البيت له حضور في المعنى المستتر للديوان، عابر لحدود النصوص ليترك ظلا منه في كل نص تقريبا.
تتوغل في النصوص ثيمة الشعر، فتمرّ الشاعرة بأسماء كثير من الشعراء الأجانب (لوركا، ورامبو، بول إيلوار، جون كيتس، ريتسيوس)، وتخاطب الشاعر محمود درويش في واحد من النصوص، بل إنها تختار عناوينها لتدخل النصوص في تربة الشعر، فكانت العناوين الآتية: “البحث عن الشاعر المفقود/22، لو كنت شاعرا/69، درويش.. لو كنت هنا/85، شاعر قتله الشعر/102”.
إن الكاتبة كانت تعي جيدا أنها كانت تكتب نصا شعريا، وتصرّ على شاعريّة اللغة والمفردات عبر انتمائها إلى حقل الشعر، فوجدت مفردات (الشعر، والشعراء، والقصيدة، والقافية) وغيرها. أضافة إلى أن الشاعرة تكثف جملها، وتنحت معانيها بطريقة شعرية، وتهندس النص شعريا في بعدها عن النثرية والجدل العقلي الذي يغري شعراء قصيدة النثر في الغالب، فتخفت لديهم شاعرية النص ويدخلونها في النثرية وتنحلّ عراه نصوصهم الإيقاعية؛ فيفقد أحد مقوماته كنص شعريّ منتم إلى الشعر ولغته وعوالمه الخاصة، وأظن أن الشاعرة، على الرغم من أنها تكتب الرواية والقصة القصيرة، ولها ثلاث روايات مطبوعة، إلا أنها استطاعت أن تحافظ على منسوب الشعر عاليا في النصوص، ولم تنجرّ إلى السردية إلّا لماما، انجراراً لم يفقد النصوص روحها الشعرية الحيّة، كما أن الديوان حافظ على إيقاع موحد بلغة متناغمة ومنسجمة، تنتمي إلى حقول دلالية تمحورت حولها النصوص، ما يعطي للديوان شخصيته الشعرية الواضحة، في التجنيس الشعري أولا، وثانيا في وحدته كونه عملا أدبيا يحقق غاية بمضامينه المتحدة معا لتقديم رسالته عبر خطابيه: المعلن والمستتر.
يندمج مع سؤال الشعر سؤالان آخران- كما أشرت أعلاه- وهما سؤال الحب وسؤال الحرب. ما يلفت الانتباه عند الأدباء السوريين الفارّين من أتون الحرب السورية المختلطة الأهداف والغايات والأطراف تعبيرهم الأدبي المكون من الحب والحرب معا، على عكس الأدب الكلاسيكي للمقاومة، ومنه مثلا كلاسيكيات الأدب الفلسطيني المقاوم، ربما لأن التجربتين السورية والفلسطينية مختلفتان نوعا ما، فقد خلقت التجربة عند السوري شعورا بالخيبة أكبر مما يشعر بها الفلسطيني، ربما لم يسائل المقاوم الفلسطيني عاطفته ولم يقف عندها وهو في معمعة الحرب والنضال، فكانت قصيدته معبأة بالسلاح والثورية الصاخبة. لم يكن ذلك موجودا في “أدب النكبة السوري” إن صحّت التسمية، لأن هذا السوري أولا لم يكن مناضلا بالسلاح في أغلب الأحيان، وإنما اختار أن يخرج من اللعبة كلها، بوصفها لعبة معقدة، أو ربما نظر إليها لعبة قذرة، ولم ينتمِ إلى أي طرف من أطراف تلك اللعبة العبثية التي دمرت سوريا الجميلة ذات الأصول التاريخية العريقة. تدفقت مشاعر الأديب السوري، وهو ناقم على كل الأطراف متحسرا على حبيبته سوريا، ونادبا حظه العاثر الذي شتته وأبعده في المنافي؛ فها هي تستهلّ الديوان بقولها في القصيدة الأولى:
أبعث لك رسالتي الآن بالبريد
أو بيد أحدهم
فقد أتى بعد غد
لكنك متّ قبل الحرب
ولم تخبرني:
لقد أتى
وكنت أنتظرك على صخرة في شمال بلادي
لكنك هاجرت إلى جنوب العالم/ ص6
هذا النصّ بالفعل يلخّص محنة الإنسان السوري، ومحنته في الانتظار، ومحنته في الحرب، ومحنته في الحب، ومحنته في الهجرة، ومحنته في الحنين إلى بلاده، إذ يبدو واضحا هذا الارتباط العضوي بين مكونات الحب والحرب في زمن الإنسان السوري الصعب، فلا تنفكّ هاتان الثيمتان من الظهور في كل نص من نصوص الديوان، فيبحث النص متأملا في الجسد، كما يبحث متأملا في جغرافيا الوطن، يبحث عن المتعة المقتولة أو المسلوبة أو المؤجلة، كما يبحث عن ذلك الوطن المنتظر، ولا يكاد نص من نصوص الشاعرة يخلو من الحرب، ومن الموت، ومن الألم، لقد تركت عليها أحداث وطنها آثاراً روحيّة ولغويّة ونفسية، تظهر جلياً بنبرة صوتها في هذه النصوص، وبلهفهتها المكتومة وبشوقها لبلدها؛ لسوريا العامرة قبل الخراب الكبير الذي أصاب الجغرافيا والجسد والروح:
لو كانت الأرض تفاحة
لاقتسمتها معك
لا تقتربْ من نهدي الآن
فهو كتلة ديناميت، أخاف أن ينفجر
يقولون: الحبّ في زمن الحرب خطئية كبيرة/ ص9
من هنا ربما وجد الدارس للأدب السوري المعاصر في ظل الحرب السورية الذي أنتجه الأدب بعد 2011 هذا التعالق الحميم بين ثيمتي الحرب والحب عند كثير من الكتّاب، وقد برزت عند الشاعرة هند زيتوني بشكل لافت في ديوان “غواية الدانتيل”، فقد رأت في النكبة السورية أعظم من نكبة فلسطين عندما خاطبت الشاعر درويش بقولها:
درويش يا درويش
إن كنت درويش الفلسطيني
أو بقية الدراويش السوريين
الأبلغ وجعاً
على أي أرض سنموت دفعة واحدة
ونبعث في القيامةِ
واحدا واحداً؟/ ص86
تُخلّف هذه الأجواء كثيرا من السأم، فيرتفع منسوب الضجر إلى مستوى عالٍ من الشعور بالوحدة القاتلة والعزلة، إنها الحرب التي تجعل الإنسان بلا قيمة، ينتظر الانتظار وما معه من مفردات الملل الكبير، وفي هذا تقول الشاعرة:
أنتظر الانتظار على حافة الصبر والضجر
أحشد لحظات الهلع
لأجرّها إلى الهاوية
الزمن امرأة عقيم
تقتل أبناءها لتدخلهم التاريخ
والخطايا جبال ثقيلة
لا تقوى على المشي سريعاً
في حقول الغفران/ ص18
هل تصنع الكآبة إذن أجواء رومانسية بين شاعر وحبيبته؟ لا أظن أنها قادرة على فعل ذلك، بل إن العلاقات الحميمة المرصودة في الديوان بين الحبيبة والحبيب كلها يخيم عليها ضباب الحزن والانكسار، وتبلّد الشهوة الإنسانية وجفافها:
عندما تبتلّ الأرضُ
ينتابها الشغف والهذيانُ
وينكمش ثوب السماء تحت المطر
أما هو فيحتسي نبيذها
ببقية القصص الكاذبة/ ص19
ويبدو الأمر أكثر حزنا في نص آخر قصير بعنوان “على نار هادئة”:
في نهاية كل ليلة تقف امرأة حزينة
ترتدي ثوب شهوتها، تبوح بما لا يصحّ قوله
يفور كأس رغبتها على نار هادئة
تغمض عينيها كي لا يعرف أحدٌ
كم خنقت من الرجال
تهمس لظلها: كيف نجوت من معركة الحب بأعجوبة؟/ ص52
من الطبيعي أن يفرض الموت لغته على موضوعات خرجت من رحم الحرب وقد خلّفت كثيرا من الضحايا، فالموت في هذا الزمن كما تقول الشاعر تحول من وحش إلى “حيوان أليف يُربّى في البيوت وينام على سرير وثير”/ ص20، هكذا أصبح التصالح مع فكرة الموت، لأنه أصبح حاضرا يومياً، بل في كل آن، ما أوجد ألفة بينه وبين الإنسان. وعلى قدر ما في هذه الصورة من بلاغة عالية إلا أنها تختزن وجعا إنسانيا كبيرا:
غارقون بالإثم والدم
كمدينة سدوم
يا جرح يسوع
يا رحيل الحمائم عن الكنائس
يا عهد نياشين الحروب
والأوسمة الصدئة
يا دم القتيل المسحوب
من صوته المقموع
يا أنين الرياح الملطخة
بعار الخطئية الأبديّة/ ص79
تمضي نصوص الديوان بهذه الكيفية معجونة بمفردات الشعر والحب والحرب والموت والضجر، يسودها القلق المفزع والتمنيات بعيدة المنال، فتعبر الشاعرة عن أمنياتها بحياة هادئة لطيفة بعيدة عن الحرب وآلامها:
أريد أن أنجب أطفالا في موسم السلم
لا يموتون بحوادث السير
والقتل المتعمد
والنسيان/ ص50
هذه هي المعضلة التي تضغط على أعصاب الشعر في هذا الديوان، فتغص كل قصائده بالمرارة وإيقاع الحزن الشفيف النبيل الخارج من رحم إنسانية الإنسان الفاقد لكل شيء، المشرد، المتحول من إنسان مستقر إلى إنسان جوّاب تطارده الدنيا ولا تريد أن ترحمه برحمتها التي شملت بها أناساً آخرين على ظهر هذا الكوكب، هذه المعاناة بمجملها يجسدها هذا المقتبس من قصيدة “الجميع نيام وأنا ما زلت أصنع أحلامي”:
الجميع الآن نيامٌ، ليهربوا من الحبّ والموت
وحدها الشوارع لا تنام، تغسل وجهها من الدخان والموت
المدينة الآن مصابة بالفقر والبطالة
السماء تكدّس الرسائل الفارغة من العناوين
الجميع تيامٌ، يبحثون عن أحدٍ ليفسّر أحلامهم السعيدة
مفسّرو الأحلام في كل زاوية يعرضون
بضاعتهم الكاسدة في الدكاكين الرخيصة/ ص116
هكذا إذاً هي الحياة بالنسبة للإنسان السوري المبتلى بالحنين وبالحرب، تلك الحرب التي أنهكته حتى الأحلام، وجعلته مصابا في عمق روحه يبحث عن خلاص، فهل سيكون خلاصه بالكتابة أم بالحبّ؟ وكيف سكون خلاصة بهما معا أو بأحدهما والحرب ما زالت تزحف على لغته لتأكلها “على نار هادئة” حيناً، وحينا آخر تفجره بالديناميت وتغرقه في نهر من دم؟ سؤال ربّما لن نجد إجابته قريباً ما دامت الأوضاع على ما هي عليه، والمأساة ما زالت تنتجُ كل يوم آلاف الضحايا دون أن يتكهن أحد بنهاية لهذا النفق المعتم ليضع حدا لهذا الذي يعاني منه الإنسان السوري، مثقفا وإنسانا عاديّا، مع أنني أشكّ في أن الحرب قد تركت أناسا أصحاء ممن اكتووا بنارها، فليس الانفصام ما أصاب الشاعرة وحدها لتفتش في ذاتها عن امرأة أخرى، بل ربما صار في ذات كل إنسان سوري شخصا آخر تائها يفتش عن نفسه فلم يجدها.
لله در الحرب ما أشد نقمتها! ولله درّ هند زيتوني وهي تلتقط بجمال موجع مفردات الحرب والحب والحياة لتصنع القصيدة! فقد أثبتت في هذا الديوان أنها شاعرة جميلة الصورة، عميقة الفكرة، رحيبة المعنى.
______________________
[1] روائية وشاعرة سورية مقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، صدر لها غير هذا الديوان ثلاث روايات: “إيلينا”، و”بوح النساء”، و”أنثى بطعم النبيذ”، كما أنّ لديها مجموعة من الأعمال السردية والشعرية المعدّة للنشر.